سأكتب عنهم؛ هتفت في نفسي ذات يوم. وعندما هممت بأولى خطوات الكتابة وجدتُني في صحراء قاحلة، صحراء لا ماء فيها ولا مرعى. شمسها حارقة لا يحجز لهيبها حاجز، ولا من حائل يمنع أوار حريقها من النفاذ إلى جسد الحيرة التي تملّكتني، ولا يحبس رمال صحرائي حابس. يباب يمتد أمامي ويغتصب الأفق البعيد واللانهائي الذي يلتمع في بعض جنباته سراب المعرفة.
في البدء سكنتْ الفكرة طيب الذكر الطبيب أحمد الشيبة ومن لا يعرف الدكتور أحمد، فهو طبيب الأسرة والطفولة الذي تنكر له الجميع، حتى "هوامير" اليوم الذي لم يعش أكثرهم إلا بفضله وبفضل نصائحه عبر شاشة تلفزيون عدن.
كنت بكل جوارحي مهتمًا بأن أكتب بعض شذرات من حياة هذا الإنسان الأسمر الجميل الذي تعرفت عليه ذات صيف في مبنى قناة عدن وكان في كامل حيويته. جمعنا وإياه والمخرج عادل ميسري الأنين من الفساد و"الشللية" وفعلهما بنا وبأي مبدع، حينها لم نكن قد عرفنا الفساد على أصوله بعد.
لا أزال في طور المحاولة ولم أيأس بعد، وفي خاطري يحتشد طابور طويل من الأعلام الذين يهفو قلمي لذكرهم، بينهم الأستاذ نعمان الحكيم التربوي القدير الذي لم أتعرف عليه عن قرب ولكني أعرفه من هموم غيره التي يحملها على كاهله وكأني به يقر بخلوه من الهموم. إنه يذكرني دومًا بأساتذتي الأُوَل ومعه كُثر في قائمتي. أعترف بأني فشلت دوما في إنجاز ما عقدت عليه بنفس القدر الذي فشلت فيه في تحقيق أشياء كثيرة. تأجلت أشياء كثيرة ويبدو أن وقتها لم يحن أبدا.
أيقنت يقينًا عميقًا أنه لا يمكن في كثير من الأحيان والظروف ملامسة الغيمة المثقلة بالمزن الغزير، فللوهلة الأولى تبدو قريبة كالبعد الملتصق بالحلم الواهن. "عينة السهل الممتنع" يقف دائمًا حائلًا، ومن ذكرت ليسوا الوحيدين الممتنعين عن المثول في حضرة "القلم".
عندما أبلغني رئيس تحرير هذه "المنصة" بتشريفي بالكتابة في الملف المكرس لذكرى القامة "القلم العلم" عمر الجاوي غمرتني مشاعر فياضة للغاية، سرعان ما انقلبت إلى ورطة لذيذة وصاعقة. وجدت نفسي كشخص يحاول تسلق جبل بركاني شاهق بصخور مسننة مستحيلة الارتقاء. أو قل إني وجدتني محتارًا كما كان الجميع محتارًا عند الدعوة لتأسيس "اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين" في بلد كان الحديث فيه عن معايير عضوية الاتحاد المنشودة مقارنة بالدول العربية ضربًا من الشعوذة. في الطور الأول وجد القوم أنفسهم في مأزق تعريف الأديب؟ من هو الكاتب؟ كيف التمييز بين الأديب والمنصرف للكتابة في عموميتها، فهل يمكن (للعرضحالجي) أو كاتب المحكمة أن يكونا أديبين؟
"أنا لست أديبًا، وإنما صحفي مهتم بقيام الاتحاد"، قال الجاوي. وقال آخرون مثل قوله، وآخرون جاؤوا بمخالف للقول. كانت المخاوف من عمومية التعريف ومن خصوصيته تشغل بال الجميع؛ لأن إطلاق التعريف بميوعته يعني تحول الاتحاد إلى مجمع للخطباء ووزراء العدل والأوقاف "غير أنهم لا يعرفون في الاتحادات الأدبية ولا يزاولون ما لا يرون تحليله أو تحريمه". وسينتظم فيه الأمناء وعقال الحارات والمخبرون وكلهم الكتابة من صميم وظيفتهم. كما أن تقييد التعريف بصرامته يعني أنك لن تجد أعضاء في البلاد أكثر من أصابع اليد الواحدة. ولكن عندما مس الكلام "الجاوي عمر" فقه القوم القول، ولاح لهم، أو كما قال البردوني: "إن الصحفي المثقف أديب، زائد عفرتة"، أليست مقالات الجاوي عن الزبيري أدلت بشهادتين: الأولى أنه صحفي تعليمًا، الثانية أنه أديبًا ثقافيًا. لأن في كتابته تكنيك الصحفي وأدبية العبارة، كما أن مقالاته عن الصحافة النقابية في عدن تشهد بأنه مناضل سياسي ومؤرخ نضال"(1).
لقد كان الجاوي "متجردًا للاتحاد" ومنحازًا له تمامًا، لكن ما هو الاتحاد الذي كان الجاوي يضمره في دخيلته؟ اتحاد للأدباء حصرًا أو اتحاد للبلاد؟
صرخ جبران خليل جبران: "يا أيها الشاعر الذي يعيش غريبًا في وطنه ومجهولًا بين معارفه ويرضى من العيش بمضغة ومن الحطام بالحبر والورق"(2)، لكن الجاوي كان كثير الصحافة، والسياسة عنده أكثر والشعر هو الأقل حظًا في ميراثه، ولم يكن مجهولًا بين معارفه، فقد عرفه محمد خميس بما يكفي ليكرم وفادته كما أكرم غيره، لكن حظ "خميس" خانه مع الجاوي.
منذ سنوات كثيرة خلت أهداني صديق كتاب "حصار صنعاء". نعم، هو كتاب الجاوي الذي وصفه البردوني "بالربورتاج الصحفي" عن حصار صنعاء. في الكتاب الربورتاج تعلمت كيف فهم الصحفي الحصار وكيف حلله وقدمه للناس وطبيعة الرسالة الصحفية التي حملها، ومنه تعرفت على أمكنة وشخوص من الضفتين. وبعد فترة من ذاك تلقيت هدية جديدة هي أيضًا كتاب "حصار صنعاء" ولكن من يد مؤلفه شخصيًا، السياسي جار الله عمر، ومنه عرفت كيف قرأ السياسي والعسكري "الحصار"، وجدت هناك النظرة التحليلية والأبعاد الاستراتيجية ليس فقط للحصار ولكن لفك الحصار. وهنا فقط تعلمت متى وكيف يلتقي السياسي والصحفي على قضية واحدة، وإن اختلفا أو بَعُدا.
شكّل الكتابان مقاربة لطبيعة العلاقة بين الشطرين خارج النظم والتكوينات السياسية في مقاربة للفكرة والفكرة المضادة القادمة من خلف الحدود، مقاربة للخاص والعام بين الشطرين حيث أغفل الساسة لاحقًا هذه المقاربة، بل وألغوا مفهوم الخاص الذي يميز ليس فقط كل شطر عن الآخر، بل كل منطقة عن غيرها وذهبوا للمبالغة فيما هو عام، وهو الأقل.
الكتابان لا يزالان يشكلان مرجعية لدحض ما يتم افتعاله من هراء فيما يخص العلاقة بالجوار. فيهما تجد الترابط غير المرئي بين عوالم مختلفة تسير نحو أهداف تناسب ذلك الاختلاف لكن من مسالك متعددة.
الوحدة مقدسة عند الجاوي كما عند جار الله عمر. لكنها ليست القداسة الكهنوتية التي توظف كل منطوق ومكتوب لمشيئة الحاكم القائم بأمر الله دون اختيار من الله.
وحتى عندما جرت محاولة تأطير رؤى عمر الجاوي، فيما جرت من أحداث في الجنوب تأطيرًا حزبيًا، لم يدرك صبيان الإعلام الحزبي أن تلك الرؤى أوسع من أن يتم تفصيلها على مقاس المؤتمر الشعبي.
صحيح أن عمر الجاوي قدح كثيرًا في أحداث 13 يناير 1986، وأرجعها إلى حالة الانفصال الذي تعيشه البلاد، ولكن من قال إن حديث الجاوي بتلك الصورة يتعلق حصرًا بالانفصال السياسي الجغرافي للبلد؟ وبالمقابل فقد كان صالح أكثر انزعاجا منه، وإلا ما الدافع لأن يستصدر فتوى لاغتياله من مرجعيته الدينية الموثوقة.
كان عمر الجاوي منذ البداية يدرك جيدًا أن "الرابح يبقى وحيدًا"، وهذا ما برهنت عليه أحداث ديسمبر 2017. إذن، فالرجل كان يتكلم عن الانفصال والانفصام بين الشعار والمسلك، بين القول والفعل، بين الحزب والمنطقة، بين الدولة والقبيلة. حينما تحضر المنطقة يتوارى الحزب، وحين تُعز القبيلة تُذل الدولة، هذا قانون الجدل التاريخي، وقد برهن عليه ابن خلدون.
في حوار القوى السياسية عام 1993، حمل الجاوي روح المبادرة لعله يقدر على التوفيق بين المتناقضات اليمنية الأربع: "الحزب، والمنطقة، والقبيلة، والدولة. وكان يعرف استحالة جمع المتناقضات.
لكن محاولة الجمع بين المتناقضات في تلك اللحظات الحاسمة كان أهم له من دراستها نظريًا وتفكيكها وإعادة تركيبها، لأن عدم المحاولة معناه إغراق البلاد في بحور من الدماء ودمار الحرب. وهذا ما تم تصديقه أثناء وبعد توقيع وثيقة العهد والاتفاق في الأردن في رمضان 1994، لأن النية قد انعقدت على إزاحة الآخر المختلف المبشر بانتهاء عهد هيمنة القبيلة لصالح مشروع الدولة. الانفصال بالنسبة للجاوي كما أراه هو مفهوم متعدد الصور، وبالتالي لا يمكن تأطيره حزبيًا لصالح طرف دون آخر. فالانفصال المعرفي والحضاري والقيمي هو رديف لأنماط مختلفة من الانفصال، فالانفصال الإقصائي والانعزال المذهبي والفئوي لا يقل خطورة، بل ربما يتجاوز بخطورته بقية الصور الانفصالية.
تختلف الروايات التي تسربت من أروقه حوار 1993، وسجالات عمر الجاوي مع خصومه من الشيخ عبد المجيد وفريقه أو حتى الأطراف الأخرى. وأعتقد أنه قد جاراهم جميعًا في السعي لوضع وثيقة "الشرف" برغم إدراكه هامشية الشرف عند الساسة الذين يحاورونه ويتحاور معهم في مسألة السلطة وإدارة الدولة، ولكنها الرغبة في عدم إتاحة الفرصة للحرب.
جولات مكوكية متعددة نفذها الجاوي أولًا للحيلولة دون نشوب حرب 94، وثانيًا لإيقافها ولكنه لم يفلح، لأن الذين عقدوا النية والعزم على إشعالها قد حرصوا على أن تمضي قدمًا، "فهي مأمورة"، هي حرب الكفر والإيمان والحق والباطل، وقد ذهبت بحلم الدولة الذي راود عمر الجاوي.
مشكلة الأنظمة مع الجاوي أنها ما قدرت على إفساد فكرة الاتحاد أو الوحدة عنده. فظلت الفكرة نقية شفافة، وظل هو كذلك على موقفه الاتحادي المستقل. وحتى عندما قرر خوض غمار التحزب أوجد لنفسه حزبًا مستقلًا يليق به.
الهوامش:
(1) عبد الله البردوني، الثقافة والثورة في اليمن.
(2) جبران خليل جبران، دمعة وابتسامة.