الإهداء: إلى الشاعر واللواء الصديق/ أحمد سالم عبيد.
إليه قامةً وقيمة ومثالًا أخلاقيًّا ووطنيًّا، أحمد سالم عبيد، أحد أهمّ رموز ثورة 14 أكتوبر 1963، فيه تقرأ وترى ملامح صورة البطل المقاوم.
ما أن أمسكت القلم لأكتب عن ثورة 14 أكتوبر، حتى رأيته (صورته)، تتداخل بين حروف وسطور الكتابة، فكانت هذه التحية الواجبة للشاعر والقائد السياسي والعسكري؛ مثقف على مستوى رفيع من المكانة، أسّس لها من خلال الفكرة/ الرؤية، والموقف.
عاش متسقًا مع رؤاه وأحلامه منذ مبتدأ الثورة، حتى الاستقلال، وإلى يوم الناس هذا، هو أبدًا، في حركة سيرورة باتجاه التقدم، صوب أفق الحرية المفتوح للجميع.
أحمد سالم عبيد، الشاعر والمثقف والإنسان، هو خلاصة وجوهر عنوان هذه المقالة، التي أجد عنوانها يشبهه، فهو في فكره وسلوكه الحياتي خلاصة لمعنى الوطنية اليمنية الصادقة.
مع خالص محبتي للشاعر، وللإنسان فيه.
___________________________
بكل المفاهيم والمقاييس والتنظيرات الفلسفية والأيديولوجية، وبكل التعبيرات القاموسية، فإنّ ثورة 14 أكتوبر 1963م، هي ثورة سياسية شعبية جماهيرية وطنية (اجتماعية واقتصادية)، ثورة تحرر وطني، وتغيير اجتماعي اقتصادي، تضافرت فيها جميع أشكال النضال: (السياسي والمدني الديمقراطي والمسلح)، وشاركت فيها جميع القوى السياسية والاجتماعية في الجنوب اليمني (الريف والمدينة)، كان الدور السياسي البارز في قلب هذه الثورة "للجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل"، دون إنكار أو تجاهل دور الأحزاب والتنظيمات والقوى الأخرى في قلب هذه الثورة، هذا ما يجب أن نستهلّ به هذه الإطلالة من هذه القراءة السريعة والموجزة حول هذه الثورة الجبارة والعظيمة التي ما أن انطلقت حتى صارت حديث العالم كله، وتتصدر نشرات الأخبار العالمية، وتناقش في جلسات الأمم المتحدة، "الجمعية العامة للأمم المتحدة"، بعد أن فرضت نفسها كفعل وطني تحرري قومي وتقدمي. وأعتبر نفسي من أطفال هذه الثورة، فقد عشت جميع تفاصيلها الأولى منذ كنت طفلًا ومراهقًا، هي بحق اسمنا الثوري الجديد.
إنّ ما يحدث في اليمن اليومَ، شمالًا وجنوبًا، من تطورات مأساوية على الأصعدة كافة، يجعلنا، بل يفرض علينا فرضًا أن نعيد قراءة وفهم ذلك التاريخ بصورة أعمق وأشمل، لندرك ونعي ونفهم القيمة السياسية والوطنية والاجتماعية (التاريخية) لمعنى ودلالات ثورة 14 أكتوبر 1963م، وثورة 26 سبتمبر 1962م.
وسيكون مفيدًا ومهمًّا، بل وضروريًّا العودة قليلًا إلى الخلف (فلاش باك)، لنرى واقع وخلفية ما كان، لندرك المعنى والقيمة والوزن النوعي؛ السياسي والوطني والتاريخي للثورة اليمنية كلها، ولندرك أكثر ونرى الصورة بشكل أوضح وأعمق، ليس على طريقة قياس الحاضر بالماضي، أو "قياس الشاهد على الغائب"، وفقًا للمقولة الفقهية/ والفلسفية، وإنّما لنبحث عن قصورنا وأخطائنا، باتجاه تصويب ما كان، وإعادة قراءته بصورة أشمل، ونحن نكتب حضور الذات في التاريخ، حضورها في الفكر، وفي الممارسة السياسية (العملية)، هذا من جهة أولى، وهي دعوة للاعتراف بعظمة ونبل المنجز على ما رافق ذلك من قصور، بل وحتى خطايا، وبهذا المعنى هي ليست دعوة لتصفية حساب مع تاريخنا السياسي والوطني، بل لتعميقه وتأصيل معناه أكثر في وجداننا وعقولنا، وهذا من جهة ثانية. ولنفهم، ونتفهم بعقل تاريخي، قيمة ما أنجز في أصعب وأقسى الظروف والتحديات، في صورة مقاومات عظيمة دُفِعَ ثمنها من أقدس الأرواح التي أعادت، بتضحياتها، إلينا الوعي بمعنى الوطن، وبمعنى الحرية والسيادة والاستقلال والتحرير، فقط من لا يعمل هو من لا يخطئ.
لم يعرف الجنوب اليمني الهُوية السياسية والوطنية الواحدة، في صورة الدولة الواحدة المستقلة، خاصة وتحديدًا من بعد الإسلام، ففي اليمن القديم عرف الجنوب اليمني (اليمن السعيد/ يمن جنوب الجزيرة العربية)، أكثر من دولة مركزية في أكثر من مكان: أوسان وقتبان وحضرموت، دخل بعدها في تاريخ تشكُّل ونشوء الدويلات الصغيرة المختلفة، إمارات وسلطنات ومشيخات، جاءت تعبيرًا عن هُويات سياسية قبلية وعشائرية ومناطقية وجهوية، حتى وقوعها تحت حكم دول أجنبية، وتحت حكم الإمامة لفترات قصيرة ومحدودة جدًّا.
لقد تأخّر سؤال الدولة الوطنية الواحدة والمستقلة للجنوب اليمني كثيرًا، حتى كانت اللحظة الإمبريالية/ مع تحول الرأسمالية، إلى حالة استعمارية، في احتلال عدن، وبعدها العديد من مناطق الجنوب اليمني، وهي اللحظة التي تبلوَرت وتشكّلت وانطلقت منها، ومن خلالها، وبالتدريج، سؤال الهُوية السياسية الوطنية الموحدة والواحدة، للجنوب اليمني (الدولة والأرض والإنسان)، وهو سؤال بدأ مع وضع الاستعمار البريطاني أقدام سُفُنه الاحتلالية الاستعمارية على مياه البلاد، ومنها، وبالتدريج، في تقديري، بدأ تبلور وتشكُّل سؤال الهُوية الوطنية الواحدة والمستقلة للجنوب اليمني، تاريخ امتدّ من 19 يناير ١٨٣٩م، حتى تاريخ المفاوضات العظيمة من موقع الندّ، والتي كان ثمرتها السياسية والوطنية إعلان دولة الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م، وبين لحظتَي الاحتلال، والاستقلال الوطني الكامل والناجز، تاريخ طويل من الكفاح ومن التضحيات الذي خاضت غماره جميع قوى المجتمع والشعب في جنوب البلاد؛ الانتفاضات القبلية والفلاحية الممتدة على طول ذلك التاريخ، نضالات مختلفة وأشكال مقاومة متنوعة ضد الاستعمار، فلم يكن الاحتلال البريطاني للجنوب اليمني، سهلًا وبدون ثمن.
وبين الاحتلال، والاستقلال تاريخٌ طويل، وبشع من العنف والعدوان الاستعماري الذي اشتغل على واقع "التجزئة"، وعلى واقع تشتُّت وتبعثر المقاومات الوطنية له، وعدم انتظام وتنظيم تلك المقاومات في إطار سياسي تنظيمي قائد لها، مقاومات كان يخترقها المستعمر وينفرد بها سياسيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا وماليًّا، من خلال شعاره "فرق تسد"، ومن خلال الاتفاقيات، والمعاهدات، والاستشارات، التي عقدها الاستعمار مع معظم رموز هذه السلطنات والإمارات والمشيخات.
وفي هذا الاتجاه، تشكّلت رابطة أبناء عدن (الجمعية العدنية)، للمطالبة بحقوق أبناء عدن في مواجهة أبناء الجاليات الأجنبية المرتبطة بالمشروع الاستعماري مباشرة، "عدن للعدنيين"، وفي مواجهة هذا المشروع الانفصالي الصغير، نشأت وتشكّلت "رابطة أبناء الجنوب العربي" 1951م، ويقال في 1950م، وعلينا هنا أن نعترف أنّ ظهور "رابطة أبناء الجنوب العربي"، كان قفزة سياسية وطنية نوعية متقدمة في ذلك الحين، خطوة متقدمة على مستويين: مستوى الفكر السياسي الوطني، وعلى مستوى التنظيم، والأهمّ أنّها كانت بمثابة جبهة وطنية عريضة، ففي داخل تنظيم رابطة أبناء الجنوب العربي، حضرت وانتظمت قوى سياسية واجتماعية مختلفة، بمن فيهم قوى التيار الماركسي، كأسماء: مثل (عبدالله باذيب وآخرين)، وفي قيادة الرابطة أسماء من الجنوب ومن الشمال اليمني، وفي العام 1956م تشكّلت "الجهة الوطنية المتحدة"، بقيادات وطنية يمنية كذلك من الجنوب ومن الشمال، وبعدها ظهرت الأحزاب الوطنية المعاصرة (البعث 1956م)، و(حركة القوميين العرب 1959م)، والتيار الماركسي في أكتوبر 1961م، وقد تضافرت في مواجهة ومقاومة الاستعمار، جميعُ أشكال النضال: السياسي المدني (المظاهرات، الاحتجاجات، حتى العصيانات المدنية المحدودة)، وفي هذا الكفاح السياسي المدني برز دور الحركة العمالية (النقابات)، (المؤتمر العمالي، وبعده النقابات الست)، والكفاح السياسي المدني للنساء، وللطلاب، الذين كانوا منخرطين في قلب الفعل السياسي الوطني التحرري.
وهنا لا بدّ من أن أشير إلى أنّ أول من مارس الكفاح المسلح بالفعل، هي خلايا فردية غير منظمة، قبلية ووطنية يمنية، من العديد من قبائل جنوب البلاد، والتي بدأت في العام 1957م/ 1958م، (قوات العاصفة)، ومنها رموز قيادية شمالية، والعديد من الرموز السياسية القبلية الجنوبية، وأسمت نفسها "هيئة تحرير الجنوب اليمني المحتل"، منهم الأستاذ محمد عبده نعمان الحكيمي، السلطان محمد بن عيدروس العفيفي، الرائد محمد أحمد الدقم، الشيخ علي بن أبوبكر بن فريد، الشيخ محمد صالح المصلي، مهدي عثمان المصقري، ومجموعة أخرى معروفة ومدونة في الوثائق والمصادر التاريخية المختلفة، على أنّ أول من نبّه إلى ضرورة تبنّي خيار الكفاح المسلح، كخيار سياسي وطني في وثيقة مكتوبة وضمن رؤية تنظيرية وفكرية وسياسية وتاريخية، هي وثيقة أصدرتها "حركة القوميين العرب"، بعنوان: "اتحاد الإمارات المزيف مؤامرة على الوحدة العربية" في العام 1959م، وهي في تقديري من أعمق وأهم الوثائق في التنظير السياسي والوطني لمعنى جدل الوحدة الوطنية اليمنية، بين الشمال والجنوب، والتي رأت أنّ نقطة الانطلاق والانتصار للثورة في الجنوب، هو تشكُّل ووجود نقطة انطلاق "القاعدة"، للثورة، وذلك من خلال نجاح الثورة في شمال البلاد، وهي نبوءة مبكرة احتوتها الوثيقة، التي أنتجت لاحقًا. ميلاد "الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل".
وبعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، اندفع أبناء الجنوب للدفاع عن الثورة من جميع مناطق الجنوب، مثلما كانوا حاضرين في الدفاع عن صنعاء خلال سنوات الحصار (السبعين يومًا)، إنّها جدلية الوطني اليمني في السياسة والاجتماع والتاريخ.
ولم يمرّ على قيام ثورة 26 سبتمبر، سوى أقل من خمسة أشهر حتى كان اجتماع القيادات الجنوبية في صنعاء في "دار السعادة"، بتاريخ 24 شباط/ فبراير 1963م، والذي تشكّلت فيه "الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل"، من مجموعة من الأسماء (١١ اسمًا)، على رأسهم القائد الوطني الكبير قحطان محمد الشعبي.
وخلال بدايات الأشهر والسنوات الأولى من إعلان انطلاقة ثورة 14 أكتوبر 1963م، كانت المدينة "تعز"، هي نقطة أرض إمدادهم بالسلاح، وميدان تدريب وتأهيل الكوادر الفدائية المسلحة، كما كانت الملجأ الآمن لهم في فترات المطاردات الأمنية الاستعمارية، ونقطة انطلاقهم للسفر إلى خارج اليمن، فمعظم قيادات الصف الأول والثاني للجبهة القومية، كانت "تعز"، هي المكان الآمن لاجتماعاتهم وتشاورهم، جميعهم احتضنتهم "تعز"، ضمن الوعي السياسي الاستراتيجي بجدلية الوطنية اليمنية.
وفي جردة حسابية بسيطة للأسماء القيادية العليا والوسطى لجميع الأحزاب والنقابات والاتحادات المختلفة، في الشمال والجنوب، بما فيها قيادة الجبهة القومية، ولاحقًا الحزب الاشتراكي اليمني، والقيادات البعثية، والناصرية، سنجد أنّ الخارطة البشرية لتلك القيادات تحتوي كلَّ الجغرافيا الوطنية اليمنية.
وبمثل ما احتضنت المدينة "تعز"، القيادات الجنوبية من كافة الاتجاهات والتيارات، كانت المدينة "عدن"، هي السباقة -تاريخيًّا- في احتواء وصهر أبناء تعز، وأبناء كل اليمن، المحميات الشرقية، والغربية، في بوتقتها الثقافية المدنية والوطنية، فعدن، هي التعدد في واحد، هي الكل في واحد، ولن تكون غير ذلك، وهو ما أهّلها لتكون القوة القاهرة في كسر هيبة ومكانة الاستعمار البريطاني، حين أسقطت "الجبهة القومية"، المستعمرة، عدن "كريتر"، ولمدة عشرين يومًا في أيدي فدائيي "الجبهة القومية"، في ٢٠ يونيو ١٩٦٧م، وكان ذلك عنوانًا لميلاد الاستقلال الوطني، الذي شارك في صناعته كل قوى المقاومة التحررية، تحت قيادة "الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل"، كان رئيس الوفد المفاوض حول قضية الاستقلال، القائد قحطان الشعبي (أول رئيس للدولة)، ومن أعلن وقرأ بيان الاستقلال هو الفدائي عبدالفتاح إسماعيل، عضو المفاوضات في جنيف، لنيل الاستقلال الوطني، في الثلاثين من نوفمبر ١٩٦٧م، إنّها جدلية الوطنية اليمنية، التي كانت هي هُوية ثورة ١٤ أكتوبر ١٩٦٣م.
وهنا نقرأ بعمق معنى جدلية ووطنية ثورة 14 أكتوبر في علاقتها بالداخل في جنوب البلاد، وفي امتدادها الوطني إلى شماله، ضمن جدلية الوحدة والتعدد، الخصوصية والتنوع، وليس على قاعدة واحدية وأحادية الثورة القاتلة، "الضمّ والإلحاق"، و"التوحيد بالحرب والدم"، ومفاهيم "الثورة الأم"، و"الثورة البنت"، والثورة "الأصل"، والثورة "الفرع"، حسب مفاهيم وأيديولوجية رموز "الدولة العميقة"، من بقايا منظومة الإمامة، والمشيخ القبلي، و"العكفة الجدد"، الذين دمّروا بأفكارهم وسياساتهم وممارساتهم الثورة والجمهورية، والدولة، والوحدة، وهم عمليًّا من أوصلونا إلى هذا المآل الذي نعيشه اليوم.
لقد أقامت ورفعت ثورة 14 أكتوبر 1963م، عبر الكفاح المسلح، والأعمال السياسية، والنضالية المشتركة المختلفة علَم الاستقلال الوطني الكامل والناجز في 30 نوفمبر 1967م، على أنقاض دويلات للسلطنات والإمارات والمشيخات، ولأول مرة –بعد قرون- تُبنى وتقام الدولة الوطنية اليمنية الواحدة والمستقلة في جنوب البلاد، وما أن نجحت الثورة وقامت، وبعد الاستقلال مباشرة، حتى بدأنا نسمع خطاب "الوحدة اليمنية الفورية"، والذي رُفض في حينه، لأسباب سياسية ووطنية عديدة؛ منها أولًا: انتكاسة الثورة في شمال البلاد، بعد انقلاب الخامس من نوفمبر 1967م، وعودة "ورثة الإمامة"، للتحكم بكل السلطة، ومعهم –بعد ذلك- بقايا الإمامة، وهم الذين لا همّ لهم من الوحدة سوى التمدّد الجغرافي والثروة، على حساب الثورة والجمهورية والدولة، وهو ما تحقّق بعد انقلاب نوفمبر 1967م، ولا أقرأ حرب 1972م، وحرب 1979م، والحروب الصغيرة المختلفة، سوى باعتبارها تحركات سياسية وعسكرية لتنفيذ أجندة رجعية واستعمارية، وكان الذهاب للوحدة الفورية، بعد ذلك، دون رؤية سياسية تاريخية لمعنى الوحدة هو الفخ الذي استثمرته القوى الرجعية في الداخل للانقضاض على كل المعنى السياسي، والجمهوري والوطني للدولة اليمنية الحديثة، وليست حرب 1994م، سوى الخطوة السياسية والعملية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم من تداعيات سلبية، في الشمال والجنوب، أتت على كل المنجز الوطني والجمهوري لكلّ الثورة اليمنية، وما نشاهده اليوم ليس سوى امتداد لسياسات "الضمّ والإلحاق"، و"الانفصال"، التي تتخذ اليومَ الأشكالَ الأكثر بؤسًا وانحطاطًا.
ومن هنا ضرورة إعادة قراءة ما جرى، وما يجري بصورة عقلانية ونقدية جديدة، لنرى أين أصبنا وأين أخفقنا.
كل التحية والإجلال لثورة 14 أكتوبر 1963م، ولشهداء الثورة اليمنية في كل الأرض اليمنية.