لن تجد أمة من الأمم، عظيمة الشأن أو صغيرة الشأن، إلا ولها أعيادها ومهرجاناتها الخاصة التي ارتبطت بتاريخها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. ومهرجانات الأمم وأعيادها لا تدور في فلكها الحضاري والثقافي فحسب، بل وتعيد إنتاج هوياتها وما يرتبط بها من عادات وتقاليد في الملبس والمأكل والمبنى وكل مظاهر وجودها، بل بوساطتها تمجد رموزها وأبطالها في الفكر والأدب والفن والشعر، وبتعبير مكثف تحاول أن تترجم رأسمالها الفكري والمعنوي وليس المادي فحسب.
وبمثل هذا التماهي بين المهرجانات وسياقها التاريخي الحضاري والثقافي، يصبح للمهرجانات معنى وقيمة لا تترسب في وجدان الأمة وضميرها فحسب، بل وفي عقول أفرادها وذاكرتهم الجمعية، لا تصبح المهرجانات عبارة عن تجمعات بشرية هائمة لا تعرف ماذا تريد، وإلى أين تمضي، بل ولا تفكر في معنى ما اجتمعت عليه. والأعياد والمهرجانات إضافة إلى تمثيلها قيمًا ثقافية واجتماعية ودينية تعمل على تدويرها وتطويرها في بعض الأحيان؛ فتفرح بنفسها وتاريخها وترفع من شأنها وتثق بثقافتها وحضارتها، وتغني لها باسم الحشود المحتشدة، فيصبح المهرجان نموذجًا لاستلهام قيم الإبداع السامية.
إنّ المهرجانات والأعياد كانت رهينة لخصوصية الشعوب والأمم ومرجعياتها الثقافية وجغرافياتها، ولم تكن مساحة مفتوحة بعنفوان لشهية وسائل التواصل الاجتماعي، بل بعيدة عن ضغوطاتها الهائلة والمؤثرة في تشكيل ذهنيات الأفراد المتصلين بها. أمّا اليوم فإنّ هناك وسائل التواصل الاجتماعي بكلّ أشكالها المسموعة، مثل الإذاعة التي تراجعت، والمرئية مثل التلفزيون التي تقدمت على المسموعة بخطوات بفضل ثقافة الصورة الحية، وشبكة الإنترنت التي تفوقت على الاثنتين واستطاعت أن تبرز الكثير من المهرجانات والأعياد للشعوب التي لم يُسمع عنها ولا عن مهرجاناتها واحتفالاتها شيء.
واليوم أصبحنا نعرف عن أيّ مهرجان في أدنى الأرض وأقصاها، إذ يتم نقله بسرعة فائقة بواسطة التواصل الاجتماعي من الواتساب المحبوب من جميع الفئات العمرية إلى الفيسبوك الذي يروق لفئة الشباب، إلى الإنستقرام الجاذب لقلوب الصبايا والصبيان؛ لأنّ الصورة تجد لها حضورًا قويًّا فيه، بل تمرح وتسرح فينتشي ويفرح بها أصحابها إلى درجة الهوس. وكل هذه الوسائل تطلب من الزائر إليها أن يبدي إعجابه بما يشاهده أو يبدي قرفه، ويصبح صاحب الموقع سعيد الحظ كلما تكاثر زوّار موقعه وضغطوا على زر الإعجاب، فارتفاع عدد الزوار يحقق لصاحب الموقع الشهرة والمال، وللزائر المتعة العابرة والدفع الدائم للموقع، وإذا لم يدفع يحرم من هذه المتعة.
إنّ عيدًا مثل عيد الحب -أو الفالنتاين الذي عشق بنت سجّانه ثم أُعدم- لم يكن معروفًا في الوطن العربي، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي أصبح له شنات ورنات في قلوب الشباب والشابات المتحمسات للاحتفاء به، وربما العجزة والعجائز؛ لأنّ الحب لا يرتبط بالعمر، فجذوته تظل مشتعلة بالقلوب الحية. والحب على قيمته العليا وجماليته المثلى، لم يسلم من تأثير وسائل الإعلام القديمة والجديدة والمستجدة، فهي طالما حثت وتحث على الدوام على شراء مقتنيات الحب الحمراء، فتجد الأسواق تتكدس في شهر فبراير من كل سنة بالدببة الحمراء، والقلوب البلاستيكية والقطنية الحمراء، والحقائب والأحذية الحمراء، والثياب الحمراء، ويتقدم اللون الأحمر إلى الصفوف الأولى في مشهد الألوان المتنوع.
وتصبح المقتنيات الحمراء لا توازي مشاعر الحبّ الإنسانية، بل تصبح بديلًا عنها؛ فالمحب يستعين بها للتعبير عن حبه، بل ويختزل مشاعره المتدفقة والحارّة في الوردة البلاستيكية الصماء أو في القلب البلاستيكي الميت، أو في ذلك الدب الذي ربما يتوهم العاشق بأنه يصدر منه دبيبًا لا يدبُّ في قلب معشوقته فحسب، بل ربما في كل جسدها الذي كان باردًا فيصبح ساخنًا، وهكذا تصبح هذه المقتنيات وسيلة بالغة التأثير للوصول إلى قلب المحبوبة الجميلة. وبغض النظر عن حساسية بعض الأطراف من عيد الحب، فإنّه يمثل عاطفة إنسانية عميقة وذاكرة ساحرة وباهرة ليس لمن روج له، بل لكل إنسان على وجه هذه البسيطة مهما كان لونه أو جنسه أو ملته أو جغرافيته، وبسبب من هذا التشارك في هذه العاطفة الإنسانية الرائعة صار عيد الحب أشبه بالعيد العالمي.
وبمناسبة ذكرى الحب، فإن الحب القوي بين المحبوب وحبيبته لا يحتاج لمقتنيات الهدايا الحمراء حتى يقوى، فيكفي المحب الصادق أن يأخذ حجَرة صغيرة من الأرض أو صدفة من صدف البحر ويهديها إلى حبيبته المتيم بها، فترى فيها أغلى وأجمل هدايا الأرض، ولا تساويها كل المقتنيات الصناعية الحمراء التي تُهدى في عيد الحب، فالإنسان هو من يُعطي للأشياء دلالة ومعنى وقيمة، وليست الأشياء مَن تمنح نفسها قيمة ودلالة، إنّه سحر الحب الذي يتفوق على سحر وسحرة تصنيع المشاعر الإنسانية النبيلة. وهناك أعياد أخرى لها دلالات عميقة ارتبطت بالجانب الحقوقي، وجُلُّ نضالات البشرية صبّت في مجرى المطالبة بالحقوق، مثل اليوم العالمي للمرأة، وعيد العمال الذي كتب بالدم وهو تعبير عن نضال الطبقة العاملة ممثلة بنقاباتها في أمريكا، وكانت مدينة تشيكاغو بعمالها المدينة الرمزية لهذا النضال الذي ارتبط اسمها باسم زعيم النقابات (بيتر ماكغواير).
وبمناسبة ذكرى الأعياد والمهرجانات فإن كثيرًا من الأعياد الثورية والمناسبات الوطنية في ظل الأنظمة السياسية المضطربة والمستبدة لم تعد لها المذاق الحلو نفسه الذي تذوقته شعوبها في سنواتها الأولى، بل تحولت أعيادها إلى أعياد غاية في المرارة، وتذكر شعوبها بخيبة الآمال وضياع الأحلام.
ولأن قضية الحقوق الإنسانية شأن يخص العمّال في العالم، تحول هذا العيد من عيد قومي إلى عيد عالمي، وهذا اليوم، الذي يصادف الأول من مايو من كل سنة، يُعدّ يوم عطلة رسمية في أغلب بلدان العالم، وبفضل نضال العمّال وليس الأحزاب تم تحديد ساعات العمل بثماني ساعات عمل، وهو الزمن المعمول به في العالم. وعلى الرغم من احتفاء كثير من بلدان العالم بهذا العيد العالمي رسميًّا وما يشهده من توزيع للجوائز والشهادات على العمال في البلدان الشيوعية في الماضي، فإنّ هذا العيد شحن بحمولات سياسية وأيديولوجية بعد أن تحيزت الماركسية للطبقة العاملة ومنحتها المرتبة الأولى في الثورية، وزعمت أنّها من يصنع المجد التاريخي والمنقذة للبشرية من عذاباتها والمحررة لها من جحيم الأرض، والمضي بها إلى نعيمها.
ومثّل الاتحاد السوفيتي وإخوانه في الشيوعية هذه المزاعم بطريقة صاخبة، وأدلجت عيد العمّال، وبدلًا من العناية بالعمّال وتحسين حياة الناس في مثل هذه المناسبة، انصرفت هذه الأنظمة إلى النيل الإعلامي من الرأسمالية وصبّت لعناتها عليها، وكيف أنها تمص دماء العمال مثلما يمص مصاص الدماء ضحاياه، ونست هذه الأنظمة، بسبب تعنتها الأيديولوجي، وضع الطبقة العاملة، وكانت المفارقة العجيبة أنّ هذه الأنظمة التي رفعت شعارات غاية في الفضيلة والنبل في سماء الأيديولوجيا، هي نفسها من داست على قيم الفضيلة والنيل منها في الواقع. ولم تضمن الأعلام الحمراء التي تشترك في الاحمرار مع ألوان عيد الحب، ولا المبالغة في الاحتفال بعيد العمّال، ولا كل الضجيج ولا الصخب الإعلامي الذي يتصاعد من الساحة الحمراء في موسكو على بقاء الأنظمة الشيوعية واستمرارها. وفي السنوات الأخيرة من عمر هذه الأنظمة التي طحنتها الشعارات الأيديولوجية، تحولت أعياد العمّال الحمراء إلى أعياد باردة مملة، وأصبحت هذه الأعياد مناسبة لتمجيد الأحزاب الشيوعية بدلًا من تمجيد العمّال، وضاعت الطبقة العاملة في عالم الصخب الأيديولوجي الفاقد للترشيد والعقلانية.
وبمناسبة ذكرى الأعياد والمهرجانات، فإنّ كثيرًا من الأعياد الثورية والمناسبات الوطنية في ظلّ الأنظمة السياسية المضطربة والمستبدة لم تعد لها المذاق الحلو نفسه الذي تذوقته شعوبها في سنواتها الأولى، بل تحوّلت أعيادها إلى أعياد غاية في المرارة، وتذكر شعوبها بخيبة الآمال وضياع الأحلام.
وفي مدينة تعاني من سوء الخدمات، ولم تترسخ بعدُ فيها سمات المدينة مثل المكلا، وهي عاصمة حضرموت، والمحسوبة على الجمهورية اليمنية المنقسمة على نفسها، برزت ظاهرة مهرجان الباخمري، والباخمري هو أكلة من المعجنات سهلة في التحضير وبسيطة التركيب فهي دقيق وخميرة وماء يذاب فيه سكر وتقلى العجينة بالزيت. وبغض النظر عن هوية الباخمري الأفريقية، فقد أصبح جزءًا من أكلات المطبخ الحضرمي.
إنّ هذا المهرجان يقام في ثاني أيام العيد، وقد دخل السنة الرابعة من عمره، واللافت في هذا المهرجان أنه مثّل نموذجًا حيًّا للتصنيع الإعلامي للمهرجانات، إنّه الابن الشرعي لوسائل التواصل الاجتماعي، فمن صنّعه هم بالتحديد أولئك الذين يطلقون على أنفسهم "إنستقراميون" وبمباركة وتأييد معنوي ودعم مادي من بعض التجار.
والمفارقة أنّ (الباخمري) الذي يقام المهرجان باسمه، يضيع تمامًا في ميادين الإنستقرام؛ إذ لا يرى المتابع لهذا الموقع سوى سيول من الصور المتدفقة تجسّد مظاهر فرحة الشباب العارمة بما يلبسونه من أزياء غاية في العصرية؛ فالأجساد الشابة لا ترضى بأن تغطيها الأزياء التقليدية، وهي في طلاق تام معها، والمفارقة أنّ هذه الأزياء لا علاقة لها بعنوان المهرجان لا من قريب ولا من بعيد.
فالمشاهد لا يعثر على أي مظاهر رمزية، لا في الزي ولا في الأحذية ولا في الخف الذي يلبسونه عن علامات خاصة ولا شعارات أو أشعار، ولا حتى بوسترات تدل على (الباخمري)، بل نجد أنّ الأزياء تنتسب جميعها إلى عائلة الشورت، أما الأرجل فتُغطى بالخف وتلبس أحذية من النوع الذي يُدس في الأرجل تشبه أحذية الحمامات. وعلى الرغم من عصرية الزي وقصات الشعر، فإنّ السلوك الصادر عمن يتزينون بهذا الزي غير مدني وغير حضاري، فهم يفترشون الأرض، ويضاعفون من وساخة الأرض الوسخة بما يتركونه من أوراق ملطخة بالزيت وأكياسٍ من النيلون غير الصحية والسريعة الطيران في الفضاء، وهي التي توضع فيها قطع (الباخمري) التي لا تمثّل أي جودة في الطعم ولا في جمال الشكل.
بالإضافة إلى أنّ البعض من هؤلاء يبصق على الأرض، وفوق هذا فإن هذه الجموع الغفيرة تسد الطريق ولا تبالي بمن هو في حاجة ماسة للمرور بهذا الطريق، وفي هذا المهرجان لا نجد حرصًا من أنصار هذا المهرجان على تقديم نموذج في صناعة (الباخمري) وجودته، ولا في طريقة اتباع الخطوات الصحية في قليه وتجنب وضعه في أكياس النايلون وهو محتفظ بحرارته. ومن يدري؛ لعل المهرجانات القادمة تقدم نسخة أكثر جمالًا وتحضرًا من النسخ السابقة، وتتولى مؤسسات لها خبرة في التنظيم، لتفادي أذى الطريق، وأن يتخطى المهرجان عصرية الملابس ويرتقي إلى ذهنية متحضرة ومتمدنة وأن يكون المهرجان ليس بطعم الباخمري فقط، بل بطعم الثقافة وحلاوة المظاهر العابرة الراسخة.
وبعدُ، فإنّ الإنترنت بوسائل تواصله الاجتماعي لا يحتوي على المساوئ فحسب، بل وعلى المحاسن وما أكثرها، ويبقى نضج من يتعامل معها غاية في الأهمية، فهو لا يكشف المساوئ الظاهرة منها، بل وما خفي.