اتّسم النظام الإمامي، الذي أعقب انسحاب العثمانيين من اليمن في عام 1918م، اتسم بالتخلف العام والعزلة شبه الكاملة عمّا كان يحدث في محيطه العربي وفي العالم، من تطوّر وتقدم في كافة مناحي الحياة. ولم يتبنَّ الإمامان، يحيى وابنه أحمد، مشروعًا لبناء دولة حديثة، في هيكلها وأجهزتها وإدارتها ووظائفها. ولم يتجها إلى تجاوز الاقتصاد الريعي وبناء قاعدة اقتصادية إنتاجية، قائمة على الزراعة والصناعة والتعدين والتسويق المنظم، ولم يسعيا إلى إحداث نهضة شاملة، تبدأ بإنشاء المدارس الحديثة والجامعات وتطوير مناهج التعليم وتشجيع العلم والعلماء والمبدعين. فسكن كلُّ شيء داخل اليمن، وتجمّدت الأوضاع على ما كانت عليه في العهد العثماني، بل وتراجعت في بعض الجوانب، ومنها الجوانب الإدارية والعسكرية والتعليمية.
وقد رسم كتّابٌ ودبلوماسيون، عرب وأجانب، ممن زاروا اليمن في عهدَي الإمامين، يحيى وأحمد، رسموا صورة كئيبة لمدى التخلف في كل جوانب الحياة. ويمكن الوقوف على تفاصيل تلك الصورة في العديد من الكتب والمذكرات والتقارير، التي نشرها هؤلاء، كلٌّ بلغته؛ العربية والإنجليزية والإيطالية والألمانية وغيرها. وتلك الصورة الكئيبة التي رسمها أولئك تُغْنِي عمّا تحدثت عنه المعارضة اليمنية خلال عهدي الإمامَين المذكورين، وما نشرته في صحفها ومنشوراتها، ممّا قد يصطبغ أحيانًا ببعض المبالغات، شأن كل معارضة سياسية. مع أنّ ما تحدثت عنه المعارضة ونشرته كان ينطلق من واقع حقيقي ومعاش، بغض النظر عن طريقة تعبيرها عنه. ومن تخلف ذلك الواقع اليمني، اكتسبت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر مشروعيتها، ومشروعية التغيير والتحديث، اللذَين بشرت بهما.
الثورة في حدّ ذاتها فتحت آفاقًا واسعة للتطور والتحديث؛ فهل كنّا في مستوى هذه الآفاق التي فتحتها؟ والثورة وضعت أقدامنا على عتبة العصر الحديث؛ فهل أحسنّا الولوج إلى هذا العصر؟ والثورة وضعت أهدافًا لها، عبّرت فيها عن مشروعها وعن مشروعية التغيير الذي تسعى إلى إحداثه في الواقع اليمني؛ فهل حقّقنا من أهدافها ما يسوغ انتماءنا إليها؟
وفي ذكرى الثورة، التي نحييها يومًا واحدًا في العام، ثم ننساها طوال العام، لا يجدي أن نكرر محاكمة النظام الإمامي، الذي يُفترض أنّ الثورة قد تجاوزته، وأنّ الإرادة الشعبية لتجاوزه قد مثّلت حكمًا واضحًا عليه، وأنّ الثورة تعني فيما تعنيه أنه نظام كان لا بدّ من طي صفحته، لكي يتمكن اليمن من الانفلات من قبضته والانتقال إلى العصر الحديث. فالأجدى من تكرار محاكمة النظام الإمامي في كل عيد من أعياد الثورة، أو البكاء على أطلاله من قبل من لا يزالون منشدّين عاطفيًّا إليه، الأجدى من هذا أن نجعل من عيد الثورة محطة نتوقف عندها لمحاسبة أنفسنا. فنقدّم كشف حساب كل عام، يبيّن ما حقّقناه من خلال هذه الثورة، وما عجزنا عن تحقيقه.
فالثورة في حدّ ذاتها، فتحت آفاقًا واسعة للتطور والتحديث؛ فهل كنا في مستوى هذه الآفاق التي فتحتها؟ والثورة وضعت أقدامنا على عتبة العصر الحديث؛ فهل أحسنّا الولوج إلى هذا العصر؟ والثورة وضعت أهدافًا لها، عبّرت فيها عن مشروعها وعن مشروعية التغيير الذي تسعى إلى إحداثه في الواقع اليمني؛ فهل حقّقنا من أهدافها ما يسوغ انتماءنا إليها؟ هل تحررنا من الاستبداد؟ هل تحررنا من الاستعمار القديم والحديث، بأشكاله وتلاوينه المختلفة؟ هل أقمنا حكمًا جمهوريًّا عادلًا؟ هل أزلنا الفوارق والامتيازات بين الطبقات؟ هل نجحنا في بناء جيش وطنيّ قويّ، ولاؤه لليمن وحدَه، يدافع عن مصالحه العليا ويحمي أراضيه ويحافظ على استقلاله، ويكتسب صفته الوطنية العامة من خلال تكافؤ الفرص أمام أبناء اليمن جميعهم في الانتساب إليه، وتمتعهم فيه بنفس الحقوق وخضوعهم لنفس الواجبات والالتزامات، دون تمييز؟ هل نجحنا في رفع مستوى الشعب، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، بما يتناسب مع طموحات الثورة، عند انطلاقها؟ هل أنشأنا مجتمعًا ديمقراطيًّا تعاونيًّا عادلًا؟ هل عملنا بإخلاص، لتحقيق الوحدة الوطنية، في نطاق الوحدة العربية الشاملة، أم أننا مزّقنا أنفسنا وفتّتنا نسيجنا الاجتماعي وفرّطنا بوحدتنا الوطنية ونسينا، نسيانًا كاملًا، الوحدةَ العربية الشاملة، واستبدلناها بدعاوى مناطقية وطائفية وسلالية وعشائرية، ظننّا أنّنا قد تجاوزناها، وأنها قد أضحت وراء ظهورنا؟
كشف الحساب البسيط هذا، يُبيّن أنّنا لم نكن في مستوى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، ولم نرقَ إلى مستوى عظمتها وأهدافها وطموحاتها، ولم نستفد من الفرص التي أتاحتها لنا، لننقل بلدنا وشعبنا من القرون الوسطى إلى العصر الحديث.
فهل يكفي أن نحتفي بذكرى هذه الثورة العظيمة مرة في العام، ونتبارى في تدبيج المقالات ونظم القصائد، في مدحها وتمجيدها، ونحن نزداد ابتعادًا عن روحها وعن أهدافها وطموحاتها؟! أم أنّ الصدق معها يقتضي أن نُحْدِث تغييرًا في أنفسنا، تفكيرًا وسلوكًا، وأن نُحْدِث تغييرًا في علاقاتنا، بعضنا ببعض، لنستطيع أن نغيّر واقعنا المتردي، ونعالج عاهاتنا ونحافظ على تماسك مجتمعنا وسلامة أرضنا واستقلال دولتنا، ونتوجّه جميعنا لبناء مستقبل ناهض، نتجاوز فيه كل الدعاوى المتخلفة والمشاريع الصغيرة، مستقبل حملت تباشيره ثورة السادس والعشرين من سبتمبر العظيمة، وعجزنا عن بلوغه. فالله لا يغير ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم.