لم تشهد سنوات الأربعينيات والخمسينيات وصولًا إلى السبعينيات من القرن المنصرم، أيَّ نوع من الحضور المؤثر للمهاجر اليمني في مدينة نيويورك، غير أنّ إغلاق مصانع الحديد والصلب (مصانع شركة بيت لحم للحديد الأمريكية) التي كان يعمل بها الكثير من المهاجرين اليمنيّين المعتمدين على قوة جهدهم العضلي الميكانيكي الخاضع لتقسيم العمل الشاق، دفعهم إلى البحث عن أعمال بديلة تتوافق مع تدني مستوياتهم التعليمية، مع بقائهم في الظلّ بعيدًا عن المشاركة السياسية أو الاقتراب من التصويت لأسباب غير واعية بما يدور حولهم.
بعد سبات عميق ولعقود طويلة، برز موضوع ذو أهمية خاصة، يتصل بالاقتصاد السياسي، سطره يمنيو المهجر من سنوات قليلة. موضوع جدير بالاقتفاء بعد أن ظهرت ملامحه جلية ولأول مرة، وأثار اهتمام الرأي العام الأمريكي، ويستدعي مقاربته كونه بحاجة إلى تحليل وتعليل، وليس إلى تبرير، لكيلا يمرّ مرور الكرام دون توثيقه والاستفادة منه كتجربة جديدة ومهمة برزت داخل المشهد السياسي في خضم الصراع الحزبي الجمهوري/ الديمقراطي الذي تعاظمت فيه المنافسة على استقطاب أصوات الناخبين.
ففي الوقت الذي كان فيه القطاع التجاري اليمني في مدينة نيويورك يتنامى، كان أيضًا يواجه ضربات مقصودة أثّرت على أعماله، خصوصًا بعد أن استخدم الرئيس ترامب الحق الرئاسي عبر إصدار القرار التنفيذي في 2 يناير 2017، والقاضي بحظر دخول المواطنين من ست جنسيات اغلبها عربية، كالعراقيين والصوماليين والليبيين والسوريين والسودانيين واليمنيين، وإلى جانب هؤلاء الإيرانيون، ليبرز بعد ذلك الصوت اليمني الأمريكي عاليًا، ولفت الأنظار إلى مطالبه الحقوقية.
عانت الجالية اليمنية من عسف القرارات التي تبنتها إدارة الرئيس الأسبق دون وجه حق قانوني، فكان لزامًا الوقوف في وجهها لإسقاطها من أساسها مع ذرائعها الانتقائية العنصرية السياسية المصطنعة
لم تقاوم وتقف أمام وجه القرار السلطوي أيٌّ من تلك الجنسيات العربية أو الإسلامية بإمكانياتها البشرية والمادية، ووقفت متصدية له الجاليةُ اليمنية، وهي ظاهرة لفتت أنظار الجاليات الأخرى، إذ أوصد هذا القرار الأبواب، وضرب عرض الحائط بالقوانين الأمريكية، ومن بينها قانون لمّ الشمل للمواطنين الأمريكيّين، فضلًا عن حقوق الإنسان، لأنّه أدرج ضمنيًّا وبشكل غير مباشر الحالات الإنسانية.
عانت الجالية اليمنية من عسف القرارات التي تبنّتها إدارة الرئيس الأسبق دون وجه حق قانوني، فكان لزامًا الوقوف في وجهها لإسقاطها من أساسها مع ذرائعها الانتقائية العنصرية السياسية المصطنعة.
شكّل هذا القرار حافزًا واستفزازًا قويًّا لاستنهاض اليمنيّين الأمريكيين لرفض الأمر عبر تغيير طريقة تعاملهم مع السلطات الأمريكية، خاصة بعد أن شعروا بخطورة الاستهداف الوجودي لكيانهم الأمريكي وتهميشهم المتعمد، ليسجّلوا موقفًا شجاعًا مؤرخين لبداية عهد جديد مختلف من السلوك الديمقراطي الحقوقي، انبثق من عمق معاناتهم واستشعارهم للعواقب الوخيمة للأمر التنفيذي، فقاموا بمسؤوليتهم وبأسلوب ديمقراطي سلمي للضغط على السياسيّين بولاية نيويورك. تأسّست لحمل القضية في منتصف العام 2017، (جمعية التجار اليمنية الأمريكية) حين دعت في 2 نوفمبر 2017، إلى وقفة احتجاجية غير معهودة، أغلق بموجبها التجار اليمنيّون أكثر من 2000 من متاجرهم، هذه الوقفة شلّت الحركةَ التجارية في مناطق تواجدهم، ليوصلوا رسالة مدوية مفادها بأن اليمنيين الأمريكيين يطالبون بوضع حدٍّ ليس للتعنّت فحسب، ولكن للاستهداف المسبق أيضًا من جهة، والعمل على انتزاع حقوقهم والاعتراف بهم كمواطنين أمريكيين من جهة أخرى عبر استعراض دورهم التجاري والاقتصادي المتنامي ومدى مساهمتهم في بناء أمريكا صناعيًّا وخدميًّا، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك بإجبارهم للسياسيّين بحكومة الولاية وممثليهم في الكونجرس على الحضور إلى تلك التظاهرة، ودفعهم للتنديد بالقرارات الرئاسية التنفيذية التي استهدفت هذا المكون من المواطنين الأمريكيين.
التظاهرة شكّلت نقطة انعطاف في مسيرة المجتمع السياسي اليمني الأمريكي، حيث حصلت على دعم وتجاوب وحضور مشارك من أبناء الجالية اليمنية في مختلف الولايات ودعم الجاليات العربية الأخرى، علاوة على إسهام منظمات الحريات والمجتمع المدني، حيث حظيت بتغطية من قبل المحطات التلفزيونية الأمريكية الرئيسية والصحف الأمريكية المؤثرة الكبرى، كالنيويورك تايمز، والواشنطن بوست، والوول ستريت جورنال الاقتصادية المرموقة، وغيرها من الصحف الواسعة الانتشار. وكانت لهذه التظاهرة تداعياتها على السياسيين بأن أيقظتهم ليعوا بأنّ هناك قوة صاعدة لا تساوم على حقوقها، وقد أرسلت هذه الرسالة موجاتها إلى الجاليات بالولايات الأخرى.
شكّل هذا الفعل مقدمات سياسية لصحوة الدور الجديد لمجتمع الجاليات الأمريكية اليمنية لتعبر عن نفسها بالطريقة الديمقراطية المتاحة، وإسماع صوتها لصنّاع القرار كونهم مواطنين أمريكيين يمنيين ودافعي ضرائب، مثلهم مثل غيرهم من أبناء الجاليات.
لعبت الجالية اليمنية، إلى جانب بعض الجاليات العربية، في مدينة نيويورك، دورًا رياديًّا للتكاثف ورصّ الصفوف للانخراط الجادّ في العملية السياسية الأمريكية، فاستطاعت من خلالها الحشد لقواها وطاقاتها بالتراص كقوى ضغط، للمطالبة بحقوقهم كمواطنين في سبيل إيصال أصواتهم والاستماع إلى مطالبهم السياسية والاقتصادية والتجارية. إذ يُخشى من عودة اليمين الجمهوري إلى السلطة، فورقة المهاجرين ما زالت جاذبة للأصوات المناهضة للهجرة. وأكثر ما يعكر صفو اليمنيين الأمريكيين ويقض مضاجعهم، هي عودة اليمين المتطرف والرئيس ترامب، التي ما زالت حظوظه قائمة في الوصول مرة أخرى إلى البيت الأبيض بفضل القوانين المرنة.
شعور الجالية اليمنية بأهمية دورها في المشاركة السياسية الأمريكية صار حقيقة، فقد أثبت اليمنيّون الأمريكيون في العديد من الولايات عبر حضورهم السياسي الفاعل، قدرتَهم النسبية على التأثير على مرشحي الأحزاب، حيث صارت مظاهرة نيويورك، المشار إليها، الحبلَ السري في ذلك، حيث تداعت متجاوبة فيه جاليات الولايات مع جالية نيويورك، مستشعرة بذلك أهمية تنظيم المجتمع التجاري اليمني وبروزه كقوة صاعدة وورقة ضغط رابحة.
كما أشرنا، كانت جمعية التجار اليمنية الأمريكية، بمثابة الحامل لإخراج القضية وكان دورها معبّرًا عن مقدمات صدى الوعي المتجاوب لمتطلبات تنظيم القوة التجارية الاقتصادية السياسية المتنامية للمجتمع اليمني التجاري، خاصة أنّ عدد محلاتهم ومتاجرهم ومطاعمهم تتراوح ما بين 4000 إلى 5000 متجر بنيويورك وحدها، فضلًا عن الولاية.
على الرغم من حداثة عمر التجربة القصير نسبيًّا، فإنّ الجمعية في تقييمها الأوليّ، تحاول أخذ مكانها في ظلّ الفراغ السائد عبر مبادراتها وبرامجها المساعدة على تنظيم وعون وخدمة مجتمع التجّار بدرجة رئيسة، والتي امتدّت لاحقًا إلى تبنّي تقديم بعض الخدمات للمجتمع، والعمل كخطوة أولية لرفع مستوى الوعي الفردي والجمعي الحقوقي، ومِن ثَمّ الدفع بالأعضاء لممارسة حقوقهم السياسية، وتطوير وتحسين علاقاتهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه، والذي ظلّوا على هامشه لعقود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث اقتصادي ومحاضر يمني، مقيم في فرجينيا.