لا وقت للحزن، ولا مجال للمشاعر المضطربة، ولا أن يكون هناك مأتمُ بكاء؛ لأنّ ذلك كله لن يعيدَ الأمور إلى نصابها، ولن يقدّم أو يؤخر ممّا حدث شيئًا. تصل إلى هذه الخلاصة وأنت تتابع كيف تعامل نائف الوافي مع إصابة طفله نيلسون ذي الأعوام الستة، ومكوثه في العناية المركّزة مدة يومين، قبل أن يفارق الحياة متأثرًا بإصابته في الرأس، بعد سقوطه من مرتَفَعٍ جبلي في منطقة الضَرْبَة، وسط مدينة تعز، في العاشر من أغسطس/ آب الماضي.
كي يبقى الأثر
يومان فقط اقتطعهما نائف الوافي لاستقبال العزاء في نيلسون، وفي اليوم الثالث توجّه إلى المكان الذي سقط فيه نجله، وبعد معاينته قرر بناء سور حماية على امتدادِ المرتفَع؛ حتى لا تتكرر المأساة، ويسقط ضحايا جدد.
تعليقًا على ذلك، قال الوافي في منشورٍ له في فيسبوك: "لا نريد لأحد أن يفقد طفلًا أو حبيبًا بنفس مكان سقوط الرهيب نيلسون؛ لذلك كنتُ أنا والشباب الرهيبين في المكان لبناء الجدار"، مشيرًا إلى أنّ أحد أصدقائه بعد الانتهاء من عملية البناء أطلق على الجدار "سور نيلسون العظيم".
في اليوم الثاني، رافقت سهاد الوافي زوجها إلى المكان ذاته، أرادت أن تكون قريبة من أثر نيلسون، أرادت أن يكون سوره صلبًا متينًا؛ حتى لا تعيش أمٌّ أخرى فاجعةَ الحادثة، وألمَ الفقدان، كما يقول نائف.
في اليوم الثالث، قام الوافي وأصدقاؤه بتسوية ورَدْم فجوات مدامك المدرّج الجبلي، وذلك لإتمام العمل، وليبدو بما يمكن من خلاله ضمان عدم تكرار حادثة مشابهة.
في اليوم التالي لإصابة نيلسون، كان والده يتلقّى المئات من رسائل الدعم والمساندة ودعوات الشفاء لنجله، عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبالزيارة المباشرة إلى مستشفى الثورة في تعز، وكالعادة يحمل نائف الوافي همّ المجتمع كأولوية تحتمها عليه مهنته كمصور صحفي يعايش هموم ومعاناة مدينته والأحداث التي تمر بها منذ أكثر من عشر سنوات، التقط صورة لإحدى غرف العناية غير المجهّزة ونشرها معلِّقًا: "بعد رؤيتي للقلب نيلسون الذي يصارع كل الآلام، أنقل لكم من واقع معاش؛ كوني أتواجد برفقة ابني الذي يرقد حاليًّا في قسم العناية المركزة في مستشفى الثورة بتعز، لن أحدثكم عن صالة العناية المجاورة الممتلئة بمرضى الحالات الحرجة".
يقول الوافي: "وصلتُ إلى الشعور بالراحة النفسية، ذلك خفّف عنّي وعن أسرتي صدمة فقدان نيلسون، أشعر بأنه راضٍ عنّا؛ كوننا أقمنا سورًا لحماية بقية أطفال المجتمع، أشعر أنّ نيلسون تحوّل إلى سور وبطل، يقف ويعمل على إنقاذ الأطفال"
بلغة تجسّد الهمّ الجماعي أضاف الوافي: "كل ما أودّ قوله بأنّ صالة العناية الأخرى في الصورة، تنقصها التجهيزات؛ لكي تحظى برعاية أُسَر عدة لا تستطيع تغطية تكاليف المستشفيات الخاصة، لكم تجارب مع التكاليف المالية لغرف العناية، هذه دعوة أب يُسامر مرافقي المرضى بالذات، نفضفض معًا، نتقاسم الألم والأمل معًا".
كل هذا وولده بين الحياة والموت، إذ لم يستسلم، ولم يتعامل مع ما جرى وكأنه نهاية المطاف، بل ظلّ على عهده بمحيطه، وإن كان هول الفاجعة لا يفارقه، إلا إنّه كان أسمى وأكبر، كما يقول أصدقاؤه وزملاؤه الذين أحاطوه بدعمهم ومساندتهم الدائمة.
فوق مستوى الألم
رباطة الجأش والقدرة على التحمّل التي أظهرها نائف الوافي وأسرته، والتحرك نحو صناعة أثر جميل يخلّد اسم نجله لاقى تفاعلًا واسعًا، وإشادةً أجمعَ كلُّ من نشر عنها وتداولها بأنها تؤكّد مدى سمو وجَلَد الأب المسنود بمؤازرة الأمّ، وهذا ما يميز الأسرة التي قدّمت نموذجًا استثنائيًّا في التعامل مع ما حلّ بها.
من بين المتفاعلين مع المبادرة، الناشطُ الإنساني عصام البتراء، الذي قال في منشور على صفحته بالفيسبوك: "نائف الوافي وزوجته مثالان للأسرة الصابرة التي تحوِّل الألم إلى أمل، والمشكلة إلى حلّ، يحبّون للناس ما يحبونه لأنفسهم، ويكرهون للناس ما يكرهونه لأنفسهم، ولا يريدون أن يحدث لأحد أبناء تعز ما حدث لولدهم، ولا يريدون أن يتألم أحد بعدهم"، وأضاف: "تحية وتعظيم سلام لهذه الأسرة النموذج التي أحبّتها كل تعز، وبكت معها كل تعز".
المصوِّر الصحفي، حمزة مصطفى، علّق على منشور البتراء، بالقول: "أسرة رائعة تستحق كل الاحترام، جمال الدنيا كلَّها اجتمع في قلب نائف وزوجته، مستحيل أن يفكر أحد بهذا العمل الكبير، وبهذه السرعة، كأنهم يقولون: ألمنا كبير بفقدان ولدنا ولا نريد أن يتكرر الأمر مع أسرة أخرى"، ويختم مصطفى تعليقه بأنّ روح نيلسون تشعر بالراحة والسعادة الكبيرة الآن؛ يملك أبًا وأمًّا لن يكررهم الزمن.
ما قام به نائف وزوجته كان مثيرًا للاهتمام، حتى إنّ الأخصائية والمرشدة النفسية ريم العبسي، دعت في منشور لها بعد مواساتها للوافي وزوجته، أن يكون الجميع بهذا الجَلَد، وأن نحسب حسابًا للفراق، ومن باب التربية والتنشئة، علينا أن نحكي عن الموت كما نحكي عن الحياة، وأن نهيّئ أبناءنا وأنفسنا بشكل تدريجيّ لأيّ حدث، واعتبار الموت كالولادة، مرحلة لا بدّ أن نمرّ بها، فالموت والحياة طريقا الإنسان اللذان لا بدّ أن يسلكهما، كما تقول.
شكرَت العبسي الوافي وزوجته على مبادرتهما، ولأنّهما يشكّلان نموذجًا إيجابيًّا لمن حولهما، واصفة ما قاما به بالتقبّل الإيجابي الذي دفعهما للبحث عن أعمال خيرية تساعدهما على الشعور بالرضا، ويقدّمانها لنيلسون بعد مماته.
أيقونة للمستقبل
الحزن ليس أولوية لدى نائف الوافي، فقد ألهمه نيلسون أن يتوجّه مستقبلًا عبر صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي لنشر الأماكن الخطيرة المشابهة لمكان الحادثة، ودعوة المجتمع ومن يستطيع، لعمل حلولٍ لها ومساعدتهم في ذلك.
مشاعر عدة تولّدت لديه بعد القيام ببناء سور نيلسون، يحكيها الوافي لـ"خيوط": "وصلت إلى الشعور بالراحة النفسية، ذلك خفّف عنّي وعن أسرتي صدمة فقدان نيلسون، أشعر بأنه راضٍ عنّا؛ كوننا أقمنا سورًا لحماية بقية أطفال المجتمع، أشعر أنّ نيلسون تحوّل إلى سور وبطل، يقف ويعمل على إنقاذ الأطفال وغيرهم في ذلك المكان الخطير".
يردف الوافي لـ"خيوط": "كان نيلسون يردد دائمًا: "أنا بطل يا ماما"، وبالفعل صار سورًا يحمي الأطفال من السقوط، لقد جعلني أكثر إيمانًا بقيمة المبادرات الاجتماعية".
ينام نيلسون الآن بسلام، بعد ستّ سنواتٍ من مجيئه، كان يحلم بأن يكون بطلًا خارقًا، ويبني لأمه بيتًا يليق بها، لكنّ الموت بترَ كلَّ شيء، ونقله إلى عالمٍ آخر، فاسِحًا المجال لأمه وأبيه يقدّمان درسًا أسطوريًّا في صناعة الأمل من رحم الألم؛ ليشعر طفلهما في مرقده بالدفء والأمان.
