بداءةً، أسأل: إلى أيّ مدى يمكن أن تؤثّر انتقالات الفنّان العربيّ ورؤيته عبر السفر والإقامة في مُغترَبات أجنبية خارج بلده الطارد، غالبًا، واضطرارًا، على تجربته البصرية، وتجديد رؤيته الجوانية في تغذية أعماله الفنّية بمواضيع وأفكار جديدة؟!
في السياق، تكتسب تجربة طلال النجار، الفنّان التشكيليّ اليمنيّ المقيم للعيش في السويد، طابع الأصالة والجِدّة في الإبداع، فاكهة ألوان لها نكهة تصدر رذاذات مائية حاملة في ثناياها دهشة ونضارة لا تفتر العين الداخلية أمامها في مشاهدة متأنية وحافزة من نوع يستوقف الحواس، وعين النقد، في التنافذ عبرها.
في غير لوحة للنجار، يطرح الفنّان في لحظته الجديدة فضاء مدلول الانفساحات النفسية والبصرية بحداثة لا تترك حيرة أو التباسًا في مفهوم الفنّ المتبدل في سياقاتها، وما بعدها.
بإزاء انفساحات النجار اللونية، تأخذك عينك الباصرة للمثول والتماهي مع مشموم الزهور، وأفرع الماء المتدلية قطراته كأغصان على بسيط الأرض المُعشِب، فتشي أفكاره بحفز من يقع بصره عليها لمعرفة أكثر عبر الفنّ، متضمّنًا دلالة الفصول.
ألوانه تتوزع كغيمات تمطر في مشاهد مختلفة ومتباينة، تمتلك تجربته عبرها سمات دلالية تجعل من نصوصه الفنّية الجديدة معرضًا للطبيعة والصدمة الناعمة معًا، حيث يتعالق الندى اللونيّ بحواف وضفاف ورذاذت طبيعة مُشِعّة بصفاوة مياه ما يحيطها من ألفة وإمدادات إنسانية تربطها بنزهة المكان المحلوم والواقعيّ.
فنّان يجد ألفة لحظته، المحسوسة في تمثلات لوحاته عيانًا، يلمس الهواء والماء كامتزاج الثنائيات بخضرة المكان، ليجعلنا كذلك نلمس معه أشواق اللحظة، كأنّما يُشركنا في لحظته، بمثل ما يتركه الروائيّ الحاذق من إشراك قارئه الافتراضي في التساؤل والتفاعل والتوقع في احتمالات التفسير، والحيرة إزاءها حينًا
تتأبد هنا استعادية الحلم لأمكنة مضاعة قبل فعل الاغتراب، في لحظة الفنّ بأكثر من وسيط، لكن دونما اجترار لتراثٍ ما، أو ذاكرة بذيول وتشعُّبات ومواضيع لأمكنة مقيمة في ذاكرة الفنان؛ لأنّ سياق موضوع اللوحات المشرعة أمامنا كنوافذ على الجهات، يمثل حالات رمزية وانطباعية مَحضَة، لكنها جديدة في أثرها وتأثيرها.
ألوان باعثة للفرح، والتأمل الكونيّ الماثل في ندف الثلج المقطرة كتمويه مائيّ مندمجًا بزهو خضرة وخامات حديثة الاستخدام، على غير مألوف خاماته السابقة، نستجلي عبرها فضاءات لا تستدعي أنماط اليومي والمفكر به في واقع المكابدات البعيدة، بل تنبعث منها رؤى وروائح وأمواه كثيرة، خلفيتها الغزارة، والتشبع الجميل، الذي يريح ولا ينفر، فتبرز عناصر طبيعة فنّان سمته الاختلاف لا التشابه في الفنّ، تتلامس بحميمية عزلتها النهرية مع طبيعة يقيم فيها بعدته الفنّية، ولا يبدو النجار في أعماله الجديدة مجرد جوّال أو متنزه فحسب، في شوارع مدينة أو عاصمة غربية، ولكنه يحفر بمخياله وألوانه الشفيفة للحفاظ على قدرة روح الفنان على أن تُحلِّق "بعيدًا عن الضيق وهشاشة التحيزات".
فنّان يجد ألفة لحظته، المحسوسة في تمثلات لوحاته عيانًا، يلمس الهواء والماء كامتزاج الثنائيات بخضرة المكان، ليجعلنا كذلك نلمس معه أشواق اللحظة، كأنّما يشركنا في لحظته، بمثل ما يتركه الروائي الحاذق من إشراك قارئه الافتراضي في التساؤل والتفاعل والتوقع في احتمالات التفسير، والحيرة إزاءها حينًا.
وإذ نستجلي أبعاد المشاهد البصرية وغور اللوحة العميق، نكاد معه نلمس بصفاء، حصى النهر الشفيف الذي يرى، كذلك سطح اللوحة، نجد دلالة السطح هو الأثر بالمعنى البنيوي، لما يتركه التلقي الرمزي لها، من ذكرى، وحيث لا تبرح أمكنتها ولحظتها الحلمية المنبثقة من ارتباطها بزمن مختلف وفارق في المكان عن موطن الفنّان في الشرق المغلول من عنقه إلى شرانق رحى صراعات بائدة، إلا بقدر ما نلفي دور الفنّ البصري منتصرًا بجمالياته دون الحاجة إلى "بوق نصر" على واقع مأساة.
وفي حين يصنع الفنّ برؤى التشكيليّ اليمني طلال النجار، عوالمه الخاصة والمحفزة على الحلم، فقد أمكن لإبداع ما ترسمه فرشاته أن يصير قيمًا للسلام والتعايش كما ينبعث ذلك في سمات التلقي والمشاهدة، وجمالية الانطباع العام والبسيط العميق في الإصغاء كذلك، لما يتوارى في أحايين من نشيد الألوان خلف ما قد غمض، أو يغمض في وضوحه.