عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة، صدر كتاب جديد للكاتب الصحفي والقاصّ محمد عمر بحاح، بعنوان "أشيائي"، بـ357 صفحة. وهو كتاب سيرة غير منمَّط، توقف فيه، من خلال مجموعة متنوعة من المقالات الصحفية عند ثلاث محطات رئيسية: "أشياء صغيرة"، و"أشياء حميمة"، و"أشياء لا تنسى"، تحمل الكثير من تفاصيل رحلته في الحياة، مثل استعادته لرحلة انتقاله طفلًا مع والده من منطقة الديس الشرقية بمحافظة حضرموت إلى عدن أواخر الخمسينيات، وسكنه الأول في بخَّار بحاح بمنطقة "معلا دكة"، وانتهاء باسترجاعاته للوجوه والأمكنة والأحداث التي التصقت بذاكرته الصافية في حضرموت وعدن وخارجها، ونقلها بلغة تصويرية بالغة النقاء.
عدن عروس المدائن التي أعادت تشكيل الكاتب، وظهرت بمعالمها وأحيائها وناسها لصيقة بكل ما تنفسه في الكتاب، فليس هناك استعادة وذكرى إلا وتكون مدينة البحر الأبهى حاضنة الحكاية.
محمد عمر بحاح عُرف بصفته صحفيًّا متميزًا وصاحب قلم رشيق، صقله نزوعه السردي الباكر الذي ابتدأ مع مجموعته القصصية الأولى التي صدرت عام 1978، وحملت عنوانًا شاعريًّا ذكيًّا (مثل عيون العصافير على طرف النهر) وأهداها إلى أمه؛ لأنها الوحيدة آنذاك التي لن تقرأ هذه القصص، ربما بسبب أميتها! لكنه استعاد الأم، بعد سبعين عامًا من ولادته، وأكثر من أربعين عامًا من صدور المجموعة، في ثلاثة مقالات متتابعة، وتتجلى بكونها هي من ملأت مخزن ذاكرته بالحكايات إلى جانب جدته، كانت عنده أسطورة، ومن ناحية كانت سحابة حنان، وبحر عواطف، ومن ناحية أخرى، كانت طاقة عمل، لا تعجز عن القيام بأيّ شيء تريد القيام به في حدود العقل والمنطق. قال عنها: "طيبة إلى أبعد حدود الطيبة، تحب كلّ الناس، لم أسمعها يومًا تشاجر جارًّا، أو تغتاب أحدًا، أو تقول كلمة نابية في حق أحد، كما لم أسمعها يومًا تجادل أبي في أمر، أو تعترض على شيء قرّره، خاصة أمامنا نحن أولادها".
كتب عن المدن وعلى رأسها عدن، عروس المدائن التي أعادت تشكيله، وظهرت بمعالمها وأحيائها وناسها لصيقة بكل ما تنفسه في الكتاب، فليس هناك استعادة وذكرى إلا وتكون مدينة البحر الأبهى حاضنة الحكاية.
وكتب عن لحج، فقال:
"تدهشني لحج في كل مرة أذهب إليها، وعاصمتها الحوطة، متناهية الصغر والبؤس، تنام على إرث من التاريخ والعراقة، فتنة الطبيعة وسحر الأغاني على الرغم من محدودية المكان. تحس بأنك في حضرة السياق التاريخي الثقافي للعبقرية التي أنتجت ذلك الإبداع الشعري الغنائي لفن الغناء في لحج، فتزداد إعجابًا بالمكان، فتنة بهما، لكنك لا تملك اليقين إذا ما كان هيامك هذا مصدره ذاكرة المكان المختزنة في وعيك الداخلي عبر زمن مضى، أم اللحظة الراهنة التي لا تستقيم معها جسامة الإهمال الذي تراه ماثلًا أمامك في كل مكان، وهو ما لا يستقيم مع الذائقة المؤسسة ووعيها الغنائي".
وحدها بيوت حضرموت، مخلوقة من طين وتبن مثلما خلق الله الإنسان من صلصال، ولا يمكن تحقيق هذا التمازج بين الإنسان والطين إلا هناك، وهنا فقط يكتمل المعنى الفلسفي للخلق.
"جبل ربي" وبيوت حضرموت
وعن جبل ربي المسروق في إب، كتب:
"جبل ربي، أين جبل ربي؟
كان بهجة الروح، رئة المدينة، متنفس الحب، وأرواح العشاق الشفيفة.
أسمنت، أسمنت، لا شيء غير الأسمنت، الكتل الصماء وبلاهة الحجارة. أين طبيعتك الساحرة، كحل الأهداب، الشهقات الصغيرة من النشوة، ونساء الجبل الساحرات؟!".
وعن بيوت حضرموت، قال:
"وحدها بيوت حضرموت، مخلوقة من طين وتبن مثلما خلق الله الإنسان من صلصال، لا يمكن تحقيق هذا التمازج بين الإنسان والطين إلا في حضرموت، هنا فقط يكتمل المعنى الفلسفي للخلق، للحياة وكل الإشارات الممكنة للوجود، من طينها العريق، وماء صيقها العتيق، وجذوع النخيل".
هذا المكان الذي تأثث بسيرة الكائنات، استدعى من الكاتب استحضار العديد من الشخصيات التي كانت جزءًا منه في رحلة الزمن، ومن تلك الشخصيات الرئيس سالم ربيع علي "سالمين".
كان سالمين قائدًا كاريزميًّا يحظى بشعبية وحب الجماهير، ويسهر على تنفيذ سياسات تتوخى صالح الفقراء، كثير النزول إلى المزارع والتعاونيات ويباشر بنفسه الوقوف على تأمين حاجات المواطنين المعيشية.
كاريزما سالمين ووطنية باذيب
"كان سالمين قائدًا كاريزميًّا يحظى بشعبية وحب الجماهير، ويسهر على تنفيذ سياسات تتوخى صالح الفقراء، كثير النزول إلى المزارع والتعاونيات وثلاجات الأسماك ويباشر بنفسه الوقوف على تأمين حاجات المواطنين المعيشية، خاصة الأسماك واللحوم والخضراوات، دون أن ينسى الاهتمام بالقضايا الحيوية والسياسات الكبرى، وكان يعتبر هذا جزءًا من عمله اليومي، ومن مسؤوليته نحو الشعب في ظلّ دولة حديثة العهد لم تستكمل بعدُ بناء جهازها الإداري، بينما كان يرى البعض في ذلك نوعًا من اشتراكية عمرية في زمن مختلف لا ينفع فيه هذا النوع من الحكم، في ظل وجود دولة ومؤسسات. لكن كان للرئيس أسلوب عمله الخاص، ولا يطيق البيروقراطية، ويرى أنها تعطل مصالح الناس الذين هم في حاجة إلى تطبيق القوانين والقرارات التي تصدر لمصلحتهم، لكنهم لا يلمسون نتائجها سريعًا".
وكتب عن عبدالله باذيب، الرمز الوطني الكبير:
"كان سياسيًّا من الطراز النادر، وأسّس اتحاد الشعب الديمقراطي سنة 1961م -وهو حزب يساري- ووزيرًا للثقافة، وكان مثقفًا اشتراكيًّا بحق، قرأ الماركسية ورأس المال، واعتنق الفكر الاشتراكي عن قناعة، لا كما هو حال أصحاب الجملة الثورية والمتطرفين، الذين أصبح على يمينهم! لكنه قبل هذا وذاك، كان وطنيًّا حتى العظم، خاض معركة الاستقلال الوطني والتحرر من الاستعمار منذ ريعان شبابه، فأصبح أحد أقطاب الحركة الوطنية المناضلة من أجل استقلال عدن والجنوب اليمني المحتل من الاستعمار، وكان إنسانًا بكل ما تحمل صفة الإنسان من معنى، وجمال، ونبل. وكان ذكيًّا، ومفكرًا، صاحب رؤية مُستقبلية، يملأ صيته الآفاق، أو كما يقال: أشهر من نار على علم".
صدور صحيفة مسائية في عدن، كان حدثًا غير مسبوق ومجازفة غير محسوبة. النهج الساخر والناقد الذي اتبعته، جرأة تحسب بالدرجة الأولى لرئيس تحريرها، وحقّقت نجاحًا سريعًا في السوق، وإقبالًا من القرّاء خلال وقت قصير.
الدحان وشرارته المسائية الساخرة
وباستحضاره لصالح الدحان بعد وفاته، استعاد معه صحيفة الشرارة التي صدرت سنة 1970 برئاسة صالح الدحان، وكان بحاح سكرتير التحرير فيها.
يقول بحاح عن الصحيفة ورئيس تحريرها الدحان:
"لم يكن صالح الدحان غريبًا عن عالم الصحافة، فقد نشر أول مقال له في النهضة العدنية سنة 1956م، كما أخذ ينشر مقالاته في الصحف العدنية: اليقظة، الرقيب، البعث، الكفاح، الفجر، القات، الأيام، القلم العدني، الأحد، الآداب اللبنانيتين، القاهرة المصرية. جاء الدحان إلى الشرارة من عالم القصة، فقد نشر مجموعته القصصية القصيرة (أنت شيوعي) سنة 1957 في عدن، وله إصدارات أخرى أيضًا.
صدور صحيفة مسائية في عدن، كان حدثًا غير مسبوق ومجازفة غير محسوبة. النهج الساخر والناقد الذي اتبعته، جرأة تحسب بالدرجة الأولى لرئيس تحريرها. حقّقت الشرارة نجاحًا سريعًا في السوق وإقبالًا من القرّاء خلال وقت قصير، يترقبونها بفارغ الصبر ويتخطفون نسخها فور صدورها. الأسلوب الساخر والنقد الذي مارسته للعديد من الأوضاع والظواهر السلبية، من أسباب نجاحها السريع، وأيضًا السبب وراء إغلاقها!".
بهذه اللغة الصافية والرشيقة، يمضي كتاب "أشيائي" أو كتاب السيرة التي تتقطر حكاياتها المتنوعة سردًا شديد السلاسة والإبهار.