كادت (أحلام) أن تخسر حلمها الوحيد في تعلُّم العزف على الكمان، لولا مساندة أهلها ودعمهم الدائم لها في مواجهة تحديات جمّة يفرضها المجتمع وتكرّسها المؤسسة الرسمية، التي ترى في الفنون منتجًا محرَّمًا، ومزاولتها من الأفراد نقيصةً اجتماعية، ويتضاعف الأمر عندما تكون الذاهبات في طريق تعلم الفن، فتيات في مجتمع متسلط ذكوريًّا.
المجتمع اليمني المحافظ -الذي يتغذَّى من وعيه الخطاب الظلامي المتشدّد- ما يزال يتعامى عن دور الفنون عمومًا والموسيقى في تهذيب الأرواح وإنتاج رسائل إنسانية وجمالية من شأنها إشاعة السلام والحب بين دول وشعوب العالم، بمختلف انتماءاتهم وإثنياتهم وعرقياتهم ومعتقداتهم.
الطبخ أهم من الموسيقى
ينجذب المرء بطبعه إلى الموسيقى، ويظهر هذا جليًّا في مدى اهتمامه بسماع الأغاني، وسعيه لتعلم العزف والتعرف على أدوات الموسيقى المختلفة؛ ولهذا تسعى فتيات عديدات للالتحاق بمراكز ومعاهد تعليم العزف والموسيقى -على قلّتها- لكنهن يجابهن حملات تضييق ومحاربة واسعة، تتغاضى عنها الجهات الرسمية، بل وتتماهى معها في كثير من الحالات.
أحلام محمد عبدالوهاب، واحدةٌ من هؤلاء الفتيات اللاتي واجهن التضييق، ووُضعت العراقيل أمام تحقيق حلمها وشغفها في تعلم العزف على آلة الكمان.
تقول أحلام لـ"خيوط": "واجهتني في طور تعلُّمي الموسيقى، العديدُ من التحديات؛ في مقدّمتها نظرةُ المجتمع لاهتمامي بالموسيقى، إذ كنتُ أسمع كلامًا يحطّ من شأن الموسيقى، ومن شأن الممارسين أو المتعلمين لها باعتبار تعلمها أو ممارستها عيبًا اجتماعيًّا، يتضاعف عاره الاجتماعي معي كوني فتاة لا يفترض بها أن تسلك هذا الطريق غير المناسب للفتيات، اللواتي عليهن أن يتعلمن أمورًا أخرى، كالطبخ والاهتمام بالبيت والتربية، وغيرها من المهارات الحياتية التي اعتاد المجتمع أن يرى المرأة فيها".
تضيف أحلام: "عندما أذهب إلى المعهد ومعي آلة الكمان، أسمع الكثير من التعليقات والمضايقات في الشارع، مثل: يا فنان، اليوم معنا عرس، وغيرها من عبارات السخرية والتنمر، لدرجة أني اضطررت إلى حمل آلة الكمان في كيس بلاستيكي معتم بدلًا من شنطة الكمان؛ تجنبًا للمضايقات والتعليقات السامّة التي كنت أسمعها ذهابًا وإيابًا".
وتؤكّد أحلام أنّ بعض الذين يزورون معهد الموسيقى، ينتابهم فضول عما يجري بداخله، وينظرون إلى الطلاب بريبة وشك وكأنهم يتعلمون شيئًا حرامًا ومنافيًا للأخلاق العامة، ومنهم من يقول: "روحوا تعلموا قرآن ينفعكم أو أي عمل له فائدة"!
وتستدرك: "لكن -ربما لحسن حظي- لديّ عائلة داعمة، شجّعتني على تعلُّم الموسيقى، وساعدتني على الاستفادة القصوى من كلّ فرص تعلّم الموسيقى، علاوة على الحماس الذي يُبدونه أثناء محاولاتي العزف، إذ كان الجميع يستمع إلى عزفي المزعج والنغمات النشاز، عندما بدأت مراحل تعلُّمي الأولى، إلى أن وصلت إلى مرحلة من الإتقان تمنيتها وتمنّوها هم".
عندما أذهب إلى المعهد ومعي آلة الكمان، أسمع الكثير من التعليقات والمضايقات في الشارع، لدرجة أني اضطررت إلى حمل آلة الكمان في كيس بلاستيكي بدلًا من شنطة الكمان تجنبًا للمضايقات والتعليقات السامّة التي كنتُ أسمعها، ذهابًا وإيابًا.
أحلام ترى أنّ المجتمع اليمني، مجتمع طروب، تدخل الموسيقى والغناء في معظم مناسباته السعيدة، وحتى مواسم حصاده وأعماله الجماعية، لكنه مع الأسف الشديد ينظر للعازف والمؤدّي نظرةً طبقية، سواء كان فتى أو فتاة -وإن كانت تزداد حدةً وقسوة على الفتيات- وتتساءل أحلام عن سبب هذه النظرة وهذا التمييز، لكنها لا تجد إجابة لهذا السؤال، سوى التشدّد الذي جاء مع مد الإسلام السياسي، والخلط بين الحرام والعيب وبين الدين والعادات والتقاليد.
حصار بغطاء ديني
يبدو الحديث عن التضييق الذي تواجهه الفتيات الساعيات لتعلم الموسيقى، في هذه المرحلة التي بات فيها المطربون والمغنّون الذكور، متهمين أيضًا بنشر الرذيلة، ويودعون بسبب ذلك السجون والمعتقلات- أمرًا فيه الكثير من الهروب من أولويات اليمنيّين المسحوقين، ورفاهية في التناول الصحافي والإعلامي، لكنه غيض من فيض للممارسات التعسفية التي تحوّلت مع الوقت المنسد إلى واقع ينبغي التسليم به، وهذا ما يريده الخطاب المتشدّد الذي تُنتِجه السلطة.
في هذا الصدد، يتحدث أستاذ الموسيقى، إسماعيل الأغبري، لـ"خيوط"، قائلًا: "يواجه الفنّ في صنعاء، وفي مناطق متفرقة من البلاد، أنواعًا شتى من الخنق والحصار، في إطار حرب فكرية قمعية تشنّها أطراف ظلامية تحت غطاء ديني فيه الكثير من الادعاء والتنطُّع، في سبيل التحكم بالمدخلات الفكرية للنشء والشباب بما يخدم مصالحها".
ويضيف الأغبري: "إنّ المعاهد الموسيقية في صنعاء نالت حصتها من التضييق والحصار، سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر؛ نتيجة لشحن المجتمع، وفي مقدمة هذا التضييق: تشويه الفن بصفته رسالة إنسانية، وجعله عملًا دنيئًا، ساقطًا ومنافيًا للأخلاق والدِّين والعقيدة؛ الأمر الذي جعل المبدعين يكبتون مواهبهم ويعزفون عن ارتياد هذه المنتديات أو مراكز تعليم الموسيقى".
ويتابع الأغبري سرد أوجه التضييق قائلًا: "لجأت هذه الجماعات المتشددة إلى حذف مواد الفن والموسيقى من مناهج التعليم العام، ما عقّد الأمر كثيرًا أمام الطلبة الذين لا يجدون ما يدفعونه للمعاهد والمدارس المتخصصة، التي قد تتراوح رسوم الالتحاق بها بين 70 و100 دولار شهريًّا".
ويشير الأغبري إلى تحديات أخرى يواجهها المحترفون والهواة الموسيقيّون؛ تتمثل في شحة الكادر المؤهل والحواضن التعليمية لاستيعاب الطلاب الراغبين في الالتحاق، وغياب المنهج المكتمل والمعتمد؛ الأمر الذي يجبر الموهوب على التخلي عن الفكرة، أو الاتجاه إلى التعلم سماعيًّا، وهو ما يؤثر على جودة تكوينه بصفته فنّانًا عازفًا، وعلى ذائقته الفنية لاحقًا.
ويختم الأغبري حديثه قائلًا: "ما يحز في النفس، أنّ صنعاء التي حوت كل الفنون، أصبحت الموسيقى فيها ذنبًا لا يُغفر وعملًا منافيًا للشريعة بنظر المجتمع المدجّن بفكرٍ وارد متطرف".
الفرقة الموسيقية التي كان عدد العازفين فيها 22 عازفًا، تدهورت عقب تحقيق الوحدة اليمنية، لتتحول إلى فرقة مصغرة تعمل في أغلب الأوقات، في المناسبات الوطنية فقط، حتى إنّها أُبعِدت من الساحة الفنية، ولم يوجد البديل لها؛ بسبب توقف معاهد الموسيقى.
من التأسيس إلى الفشل
عن الأهمية التي تُمثِّلها الموسيقى بصفتها لغةً عالمية، تحمل رسائل عديدة، فيها من السمو الإنساني والارتقاء بالروح والذائقة البشرية ما يجعل التناغم والتفاعل معها أمرًا فطريًّا وطبيعيًّا، يقول مدير الدراسات الموسيقية ومركز التراث الموسيقي بصنعاء، عبدالله الدبعي، لـ"خيوط": "الموسيقى لغة عالمية، وهي وسيلة تواصل واتصال بين الشعوب المختلفة، وبين الأجيال المتعاقبة، ومظهرٌ يعكس عمق وتقدم هذه الحضارة أو تلك".
الجدير بالذكر أنّ شمال اليمن شهد دخول الموسيقى بأدواتها المعاصرة سنة 1975، حيث تم افتتاح أول معهد موسيقيّ بكادر من كوريا، لتعليم العزف على الآلات الموسيقية الوترية وآلات النفخ والآلات الكهربائية، وفُتحت فصول لدراستها بالطرق العلمية المعمول بها عالميًّا.
الدبعي تابع حديثه: "بعد ذهاب الخبراء الكوريّين، استقدمت وزارة الإعلام والثقافة مدرسين من جمهورية مصر العربية؛ لكي يدرّسوا الموسيقى الشرقية ومقاماتها، لكن بعض الآلات الموسيقية توقفت عن العمل، وتوقف عازفو الآلات النحاسية الغربية؛ لأنّ الأغاني اليمنية لا تحتاج لها".
ويضيف الدبعي: "تكونت فرقة موسيقية شرقية، كان عدد العازفين فيها 22 عازفًا، يعزفون على آلات الكمان والعود والناي والأكورديون، إضافة إلى التشيلّو والكونترباص والقانون والأورج، هذه الفرقة استمرت 23 سنة، ومثّلت اليمن في العديد من المحافل الدولية والمحلية والمناسبات الوطنية والمهرجانات والتسجيلات التلفزيونية والإذاعية، وغيرها من المناسبات".
ويؤكّد الدبعي أن الفرقة تدهورت عقب تحقيق الوحدة اليمنية، لتتحول إلى فرقة مصغرة تعمل في أغلب الأوقات، في المناسبات الوطنية فقط، حتى إنّها أُبعدت من الساحة الفنية، ولم يوجد البديل لها؛ بسبب توقف معاهد الموسيقى، في ظلّ إهمال السلطات المعنية آنذاك. عقب ذلك، تكونت فرقة موسيقية وطنية شبابية، مكونة من 40 عازفًا وعازفة على مختلف الآلات، إذ عزفت هذه الفرقة العديدَ من الأعمال الموسيقية، معظمها في المناسبات الوطنية، وغنَّى معها كل الفنانين والفنانات، حتى إن إحدى الصحف العربية كتبت عن هذه الفرقة، وتحدثت عن فرقة عربية تضمّ جميع الآلات الموسيقية؛ كان هذا في مجلة العقيدة العمانية 1997.
وينهي الدبعي حديثه بالقول: "نواجه العديد من المعارضين للعمل الموسيقي، لكنّنا ماضون في تقديم ما نستطيع تقديمه، حتى يستمر صوت الحياة والسلام في وجه أصوات الحرب والصراعات".