يحرص عامل النظافة الخمسيني "فرج"، على العمل ما يقارب 11 ساعة في خدمة المجتمع والحفاظ عليه من انتشار الأوبئة والأمراض؛ نتيجة تكدس المخلفات في الشوارع، فمنذُ ما يقارب 30 عامًا يعمل الرجل الأسمر بروتين مستمر في نظافة الأحياء، يخرج من منزله حين ترسل الشمس خيوطها الأولى لمصافحة الأرض باكرًا مستلًّا مكانسه بعُصيّها الطويلة، مرتديًا اللباس البرتقالي الذي يميزه كعامل نظافة، يقصد بحلته اليومية المربع الذي يعمل على تنظيفه في منطقة شيراتون بالعاصمة صنعاء.
يتحدث الكهل "فرج" صاحب البشرة السمراء مفاخرًا بعمله، لـ"خيوط": "لا يسيئني العمل في هذا المجال، فأنا أشعر بفرحة كبيرة عندما أساعد المجتمع في نظافته والحفاظ على جماله؛ رغم النظرات التي تحتقرني للون بشرتي السمراء، ومهنتي التي أعول بها أسرتي".
يعمل فرج براتب شهري لا يتجاوز (30 ألف ريال يمني) ما يعادل (60 دولارًا أمريكيًّا)، وهو أجر غير كافٍ حد تعبيره، خاصة مع ارتفاع كلفة المعيشة، وتدهور حالته الصحية بعد أن أصيب بمرض التهاب الرئة وصعوبة التنفس، اللذان منعاه من العمل مؤخرًا في النظافة، مما جعله يفقد راتبه ويبقى طريح الفراش في منزله بمنطقة سعوان في صنعاء؛ إذ يسكن مع زوجته وسبعة من أبنائه، بالإضافة إلى شقيقتين له، في منزل متواضع في مدينة العمال الشرقية (المحوى) سعوان، الذي حصل عليه عام 2005، حيث تم إنشاء 1200 وحدة سكنية للأشخاص الذين تم نقلهم من الأحياء العشوائية في (حي 45، وحي باب اليمن، وحي عصر)، وإسكانهم في مدينة العمال الشمالية والشرقية والغربية.
عائد لا يكفي للعيش
رغم عمل ثلاثة من أبناء فرج بالأجر اليومي (800 ريال يمني)؛ ما يعادل (0.16 $)، لليوم الواحد مع صندوق النظافة والتحسين، فإن الأجور التي يتلقونها غير كافية لدفع فاتورة العيش الكريم، وتوفير علاج والدهم المريض.
الأمر الذي دفع أسرة (فرج) للخروج إلى الشارع لتسول الصدقات، رغم الخجل الذي يعتريهم عند سؤالهم المارّة، وهي لحظات يعتبرها فرج قاسية يصاحبها الكثير من المهانة لأسرته من المجتمع الذي يرفض غالبيته مساعدته.
رغم العائد المادي المتدني الذي تحصل عليه (فتون) من عملها لدى صندوق النظافة والتحسين، وحرمانها من عطلة الإجازات الرسمية والمناسبات الدينية؛ فإنها حريصة على العمل طيلة أيام السنة، بتفانٍ وإخلاص، حد قولها، معتبرة هذه العمل المصدر الوحيد الذي يبقيها وأطفالها على قيد الحياة.
وبشكل عام، يتم استبعاد المهمشين من وظائف القطاع العام، إلا في إدارات النفايات كعمال نظافة شوارع، حيث يعملون غالبًا بنظام الأجور اليومية بدون عقود عمل، أما في الأعمال الخاصة، فيتم عادة حصرهم في الأعمال ذات الأجور المتدنية والمنبوذة اجتماعيًّا، مثل تلميع الأحذية وغسيل السيارات وجمع المواد البلاستيكية والخردة، حسب حديث الناشط الاجتماعي محمد الطياري، لـ"خيوط".
تحديات الأم الوحيدة
لا يختلف حال فرج عن الثلاثينية (فتون بركات)، التي تعمل بملابس عادية مهترئة، رغم حرارة الشمس الحارقة، بتفانٍ وإخلاص من السادسة صباحًا حتى الثانية ظهرًا يوميًّا، في تنظيف أحد الشوارع وسط العاصمة، دون وسائل الحماية والسلامة المهنية، ومثلها 3200 عامل من فئة المهمشين يعملون في صندوق النظافة والتحسين بأمانة العاصمة صنعاء.
تقول فتون لـ"خيوط": "تتأثر صحتنا ونظافتنا الشخصية بعملنا في النظافة، وبراتب شهري يقدر بـ25 ألف ريال يمني (حوالي 45 دولارًا أمريكيًّا)، حيث إنه لا يكفي لدفع مصاريف أسبوع واحد، وسط انهيار العملة اليمنية وارتفاع أسعار المواد الغذائية، بسبب حالة الحرب وتداعياتها.
رغم العائد المادي المتدني الذي تحصل عليه فتون من عملها لدى صندوق النظافة والتحسين، وحرمانها من عطلة الإجازات الرسمية والمناسبات الدينية؛ فإنها حريصة على العمل طيلة أيام السنة، بتفانٍ وإخلاص، حد قولها، معتبرة هذا العمل المصدرَ الوحيد الذي يُبقيها وأطفالها على قيد الحياة.
وتتابع حديثها: "أعمل 8 ساعات يوميًّا في نظافة الشوارع، وأعود مساءً للتسول أمام المطاعم والأسواق؛ لسدّ احتياجات ثلاثة من أطفالي الذين أعيلهم بعد رحيل والدهم إلى عدن وانقطاع أخباره منذ ثلاثة سنوات، ولا أعلم مصيره حتى الآن"؛ فيما ترجح انخراطه في الصراع الدائر بالبلاد، وتظن أنه قد قُتل.
في السياق، تقول الناشطة روسيا الجبلي، لـ"خيوط"، إنّ المهمشين في اليمن تم إقصاؤهم بشكلٍ أو بآخر اجتماعيًّا واقتصاديًّا، فهي الفئة الأقل حضورًا في مختلف المجالات، وهذا دفع الكثير منهم، خصوصًا النساء والأطفال إلى ممارسة التسول كمصدر أساسي لكسب قوتهم اليومي، إلا أنّ الخطورة تكمن في أن تصبح ممارستهم للتسول أسلوب حياة، ويتم تنميطهم وفق هذه المهن الاتكالية، قد يصل بهم الأمر إلى توارثهم هذه المهنة كخيار سهل لكسب المال.
وبحسب دراسة أجراها مركز صنعاء، فقد تباينت تقديرات أعداد المهمشين في اليمن تباينًا جذريًّا، وتتراوح بين 500 ألف إلى 3.5 مليون نسمة، يتركّزون في الأحياء الفقيرة المحيطة بمدن اليمن الرئيسية. وتُقدّر هذه الدراسة عددهم بنسبة بين 1.6% إلى 2.6% من سكان اليمن.
كيف يمكن معالجة أوضاعهم؟
يرى أستاذ الاقتصاد بجامعة صنعاء، الدكتور عمار الشبلي، في حديثه لـ"خيوط"، أن تثبيت المهمشين في صناديق النظافة، وتنفيذ استراتيجية نظام المرتبات والأجور لهم أسوة بموظفي الدولة، وعدم إجراء الخصم من رواتبهم أثناء العطل الرسمية والدينية أسوة بموظفي الدولة، سيُسهم في مساعدتهم على العيش دون حاجتهم إلى التسول، لافتًا إلى أهمية الاهتمام بهم صحيًّا، ومنحهم بدل مخاطر لتعاملهم مع المواد الكيماوية والسامة أثناء تأديتهم لأعمالهم.
وفق مركز صنعاء في الدراسة التي أجريت عام 2020، على مجتمع المهمشين في محافظات عدن وتعز والعاصمة صنعاء وأمانتها، تبيّن أن نسبة 49% من الأسر المهمشة في محافظة عدن، تؤمن الطعام بالتسوّل، ونسبة 11% في أمانة العاصمة، أما في محافظة تعز فبنسبة 17%، وكانت نسبة الأسر التي تعمل على التسوّل باستمرار في محافظة صنعاء 100%، وفي أمانة العاصمة 37%، وفي عدن 12%، أما في تعز فكانت بنسبة 53%، على أن الإحصائية الخاصة بتعز تعود لعام 2014، وقد تضاعفت كثيرًا في السنوات الأخيرة، بحسب الدراسة.