المياه تتدفق بغزارة، بينما مشهد الصابون الأبيض وقد اختلط مع الكركم والحناء، يطفو على أرضية الحمام العام المكتظ بالنساء من مختلف "الطبقات"، الأصوات تتعالى بين باحثة عن "مدلكة" وأخرى عن "مُليِّفَة" وثالثة عمّن تقوم بغسل جسدها بعد فترة الولادة كما هي العادة في المجتمع اليمني.
كل هذه الأدوار تقوم بها فتيات سمراوات من فئة ما يُعرف بـ"المهمشين"، يقمن بخدمة النساء وغسلهن وتنظيفهن، وهي مهنة ارتبطت في جوهرها بالتمييز الطبقي في المجتمع اليمني، صارت من اختصاص النساء المهمشات، اللائي يتعرضن لكثير من التنمر والانتقاص من جانب المجتمع، كما تقول إحداهن لـ"خيوط".
شعور دائم بالانتقاص
جميلة البعداني (40 عامًا)، سيدة من فئة "المهمشين" من محافظة إب، نزحت إلى صنعاء باحثة عن عمل تسد به حاجتها، ولكونها من فئة "المهمشين" لم تجد بُدًّا من الانضمام إلى نظيراتها من هذه الفئة للعمل في حمام الجراف العام، بعد أن تعذرت بها السبل.
في حديثها لـ"خيوط"، تقول جميلة: "خلقنا أنقص من غيرنا -أو هكذا يحاولون إقناعنا دومًا- فكيف نستطيع أن نحلم مثلًا أو حتى نفكر أن نتعلم".
تأتي جميلة للعمل في الحمام ثلاثة أيام في الأسبوع، منذ طلوع الشمس إلى أذان المغرب. هذه الأيام الثلاثة هي الوقت المخصص للنساء خلال الأسبوع؛ أي بمعدل يوم للرجال ويوم للنساء، حسب التقليد المتبع في الحمامات العامة في صنعاء.
المهمشون لا يحظون بأي حقوق أو اهتمام من جانب الدولة، فيما يخص الأعمال التي يقومون بها، "إلى حد أنه لا تتوفر لديهم أدنى وسائل الحماية المهنية، خاصة للعاملين في المهن الخطرة.
"أدرك تمامًا أنه لا عيب في العمل الحلال، بغض النظر عن المقابل الزهيد الذي أحصل عليه بعد يوم شاق ومرهق، لكن المحزن هو شعورك حين تعاملك إحداهن بانتقاص وأنك شخص أقل في رتبتك الإنسانية، يتأجج هذا الشعور داخلي كلما صرخت إحداهن في وجهي حين أقوم بتنظيفها"، توضح البعداني لـ"خيوط".
"هي إلا خادمة"
لا يتوقف الأثر العنصري تجاه المهمشات العاملات في الحمامات العامة على مجرد التنمر والإيذاء اللفظي والمعنوي فقط، بل يتعدى في حالات كثيرة إلى الإيذاء الجسدي، كما تقول "فدوى"، وهي فتاة في بداية العشرينيات من العمر، من فئة "المهمشين"، وتعمل هي الأخرى في حمام عام بمنطقة المطار، شمال صنعاء.
بحسب فدوى لـ"خيوط"، فإنها تعرضت في إحدى المرات إلى الاعتداء على يد فتاتين، قامتا برش عينيها بالماء في درجة حرارة الغليان، تقول: "بينما كنت كعادتي ذات يوم أقوم بعملي في تدليك الوافدات على الحمام، كان هناك فتاتان يتنمرن عليَّ، ثم قمن بصب المياه شديدة السخونة على عيني، رغم أني لم أقاوم أو أنتقم، وهرعت لغسل عينيّ بالماء البارد لتخفيف الألم، سمعت إحداهما تبرر فعلها للنسوة: "ما يقع؟ تحرق هي إلا خادمة"!.
لا تأمين ولا نقابة
من ناحية قانونية، جرت العادة أن تُنظّم الأعمال والمهن كافة بإشراف مؤسسات ونقابات وقوانين وظيفية وتأمين يضمن للمنخرطين في المهنة حقوقهم، وتأمينهم ضد المخاطر، وذلك ما هو حاصل بالفعل، باستثناء المهن الأقل شأنًا المرتبطة بفئة المهمشين، مثل خياطة الأحذية ومسح السيارات وتنظيف الشوارع والحمامات العامة والصرف الصحي (المجاري).
كل هؤلاء ليس لديهم نقابة أو جماعة ضغط تدافع عن حقوقهم المهنية والاجتماعية، التي يمنحها لهم القانون اليمني، أسوة بغيرهم من العاملين في المهن الأخرى، بصرف النظر عن العقد الاجتماعية المستعصية تجاههم كفئة غلب عليها وصف "المهمشين".
المحامية سمر العريقي، تؤكد في تصريح لـ"خيوط"، أن الدستور والقانون اليمني "لم يفرقا بين رجل أو امرأة، أبيض أو أسود، لكن النظرة المجتمعية المتوارثة ضد المهمشين، وأنهم أشخاص أقل شأنًا جعل الدولة لا تهتم بتنظيم أعمالهم المختلفة، أو حمايتهم من مخاطر إصابات العمل والحصول على التأمين".
في ذات السياق، يفيد صلاح دبوان، أمين عام اتحاد المهمشين لـ"خيوط"، بالقول إنّ المهمشين لا يحظون بأي حقوق أو اهتمام من جانب الدولة فيما يخص الأعمال التي يقومون بها، "إلى حد أنه لا تتوفر لديهم أدنى وسائل الحماية المهنية، خاصة للعاملين في المهن الخطرة"، حد قوله.
على ذلك، فإن الأذى الحسي والمعنوي الذي تعانيه المهمشات العاملات في الحمامات العامة، لا ينفك عن كونه أحد الحلقات في سلسلة طويلة من الإقصاء الطبقي والإخفاق الحكومي، يضاف إليها التهميش الإعلامي، فضلًا عن كون ذلك يضعنا أمام مفارقة منطقية تتعلق بأولئك النسوة اللائي يعملن في تنظيف سيدات المجتمع الراقي؛ "ما الذي يمنع من تنظيف عقولنا أيضًا من ترسبات العنصرية والازدراء تجاه بشرٍ كل ذنبهم أنهم وُلدوا من عائلاتٍ يقال لها "مهمشة"؟!