طفلة في الثامنة من العمر، عادت إلى اليمن مع أبيها وأخيها، لقضاء إجازة العيد مع إخوانها من أبيها وزوجته. تمر الأيام بسرعة حتى جاء اليوم الذي مرت ساعاته بوحشية على جسد طفلة لا تقوى على حمل لعبتها. تحملت التعذيب الجسدي لساعات متواصلة من قبل "خالتها"- زوجة أبيها وآخرين، حتى خرّ جسدها هامدًا، ليتلقى والدها اتصالًا مباغتًا: "(ع) ماتت".
بعد التقصي ومحاولة الإنكار، كُشف الأمر؛ زوجة الأب فقدت بعضًا من مال زوجها، فاتّهمت الطفلة بسرقته، وحين أنكرت الطفلة ذلك، أجربتها على الاعتراف وإرجاع المال ضربًا وركلًا، بمساعدة ابنها وابن أخت زوجها وجارتها. ضرب وتعذيب من الصباح إلى الظهر حتى فارقت روح الطفلة جسدها.
تم ضبط جميع الجناة وأُودعوا السجن، بينما لا تزال التحقيقات جارية، بحسب ما أفادت به العمة. أما الأمّ المكلومة، فقد لحقت بزوجها وابنها بعد علمها بالجريمة، لتودِّع طفلتها الوداع الأخير الذي لا أمل بعده باللقاء. تفيد تفاصيل الجريمة أن هناك أكثر من متّهم، لكن الظاهر من تلك التفاصيل أيضًا، أن "الخالة" (زوجة الأب)، هي المتهمة الأولى.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد كل حوادث العنف ضد أبناء الزوج من قبل "الخالات" (زوجات الآباء) في المجتمع اليمني: هل زوجات الآباء مجرمات بالفطرة، أم أن تاريخ المجتمع جعلهن في زاوية الظلم قسرًا؟
لم تكن (ع) الطفلة الوحيدة التي تعرضت للضرب حتى الموت، ففي الساحة اليمنية الكثيرون والكثيرات من الأطفال، وقوائم النشطاء الحقوقيين تعجّ بالأسماء والأرقام لأطفال فارقوا الحياة بسبب العنف الأسري، خاصة على يد زوجة الأب.
يحدث أن يتدخل أفراد الأسرة أو مشائخ وأعيان القبيلة، فتُحلّ هذه القضايا قبليًّا، أو يتنازل الأب عن حقه، فتخرج الجانية حرّة تسرع الخطى وتبطيها على قبر ضحيتها.
فنون التعذيب
يفيد أحمد القرشي- رئيس منظمة سياج لحماية الطفولة، بأن منظمته تتلقى الكثير من البلاغات بشأن اعتداءات زوجات الآباء على أبناء الزوج بأساليب مختلفة، منها: استخدام الكهرباء، الكيّ بآلات حادّة، الحرق بمواد كيميائية أو بمحلول ماء وسكر مغلي للتشويه، التعذيب والاستغلال الجنسي، وعمالة الأطفال، وأبرز هذه الأساليب هو القتل. ويضيف القرشي في حديثه لـ"خيوط"، أن كثيرًا من هذه القضايا تصل إلى منظمته بعد أن يكون الطفل قد فارق الحياة. كما يشير إلى أن معظم هذه الحالات يكون فيها الضحية ما بين عمر الـ10-12 سنة، وقليل منها في عمر الـ15.
يسرد لنا الناشط الحقوقي، عبد الفتاح الصلاحي، في حديثه معنا، أبرز القضايا التي في حوزته وهي قضية الطفل كرم محمد حمزة (10 سنوات)، صنعاء، نوفمبر 2020، الذي أذاقته "خالته" أشد أنواع العذاب فامتلأ جسده بالرضوض وآثار التعذيب، وبعد أن تم التدخل من قبل الجيران وأخذ الطفل إلى المستشفى الجمهوري، عجز الأطباء عن إنقاذه، وقدموا بلاغًا بالحال، وأحيلت الجانية للتحقيق ومِن ثَمَّ السجن، وبقي قلب أمه المطلقة مشتعلًا للأبد.
قائمة طويلة من الأطفال ضحايا "الخالات"؛ هيام مقداد، قُتلت قبل خمس سنوات على يد زوجة أبيها، وفي إب ضُربت الطفلة ندى حتى الموت، وطفل آخر (10 سنوات) في منطقة "الأقروض" بمحافظة تعز، أقدمت خالته بمساعدة والده على حبسه في الحمام لمدة أربعة أشهر، واكتفت بإمداده بفتات الطعام حتى أصبح كالمومياء. هؤلاء وغيرهم تكتظ بأسمائهم قائمة الناشط الحقوقي في قضايا الطفولة والعنف ضد الأطفال، عبدالفتاح علي الصلاحي، يقول في حديثه لـ"خيوط"، إن هذا العنف والتنكيل بالأطفال قد تعدى حدود القسوة. فأغلب القضايا التي بحوزة الصلاحي مكانها مدينة جبلة (غرب محافظة إب).
يقول الصلاحي عن جريمة قتل العنود، إنها من أبشع الجرائم التي مرت عليه. العنود طفلة السبعة أعوام، من العدين- إب، طفلة لأب يمنيّ وأمّ أردنية انفصل عنها الأب، وعاد بابنته وابنه إلى اليمن، ليتزوج بأخرى، وترك الطفلين في بيته مع زوجته الثانية، وذهب إلى صنعاء للعمل. وفي اليوم نفسه الذي ماتت فيه طفلته، تلقى اتصالًا للعودة إلى القرية لدفنها. ادّعت "الخالة" بأن العنود ماتت موتًا طبيعيًّا، وبعد أيام من دفنها، كشف الشاهد الوحيد على الجريمة، أنها ماتت تحت التعذيب. كان الشاهد أخاها (12 سنة)؛ فعندما سألته عمته عما حدث، أخبرها بأن زوجة أبيه أقدمت على خنق أخته حتى ماتت. من فورها قامت العمّة بإعلان شهادة الطفل، والمطالبة بالتحقيق في موت العنود.
والأحدث على الساحة اليمنية، قضية الطفل معتزّ أحمد (9 سنوات، صنعاء)، التي تصدرت صفحات النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي. معتزّ طفل لأمّ مطلقة وأب متزوج بأخرى أذاقته شتى أنواع العذاب، وأذنبها أنه أراد أن يذهب لزيارة أمه، فقامت "خالته" بغلي الماء وصبّه على قدميه، مع أن أبسط حقوق الطفل حضن أمه.
تفيد أمّ معتزّ لـ"خيوط"، بأنها لم ترَه منذ أربع سنوات، وحينما علمت من جيران زوجها السابق بأن طفلها يتلقى شتى أنواع العذاب على يد زوجة أبيه، ذهبت إلى أحد المشائخ تطالب بأن ترى ابنها. كررت محاولتها أكثر من مرة حتى تمكنت من رؤية طفلها، وعندما رأته بتلك الحالة المزرية أخذته إلى المستشفى لتعالج الحروق والرضوض على جسده، وحينها قامت إحدى الممرضات بتصويره ونشرت فيديو يشرح حالته، أحدث ضجة على مواقع التواصل ولسعت جراح معتز قلوبًا كثيرة.
قال معتز في فيديو نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، أن أباه عندما سأل زوجته: ماذا حل بابنه، أخبرته بأنه عرّض نفسه لحادثة حرق عفوية. لم تقتصر الآثار على قدمي معتز فقط، فقد وُجدت على باقي أعضاء جسمه الصغير آثار ضرب وتعذيب وعضّ، بما في ذلك أذنه اليسرى.
يقول المحامي عبدالملك شرف الدين، والذي تطوّع لمناصرة قضية معتز، في حديثه لـ"خيوط"، أن كل الأدلة تثبت بأن الجاني هي "الخالة" زوجة الأب، وأنه سيبذل قصارى جهده لتنال العقاب. ويضيف أنه عندما كُشف أمر "الخالة" وأصبحت الجريمة قضية رأي عام، قام والد معتز بتطليقها وأُلقي القبض عليها، وحبستها النيابة المختصة على ذمّة التحقيق.
أعذار في مهب الريح
لعنف زوجات الأب عدة أسباب وعوامل نفسية واجتماعية، يصفها ناشطون بأنها مهما تعاظمت لا تبرر تلك الأفعال الوحشية بالأطفال. منهم أرجعه إلى "نقص الدين" و"قلة الوعي" و"الغيرة والأنانية" و"حب تملك الزوج"، وآخرون أرجعوه إلى توتر العلاقة بين الزوجين بدخول امرأة غريبة مكان الأم، وكيف يؤدي هذا إلى تشكّل مشاعر كره وعدم انصياع من الأبناء، فتقوم الخالة بتعنيفهم، كما يلعب تدليل الزوج لها دورًا في تفاقم هذه المشاعر السلبية المتبادلة، وهكذا تتصاعد الكراهية لديها وصولًا إلى العنف المميت.
ويرى هشام العطاس- طبيب نفسي، في حديثه لـ"خيوط"، أن الأسباب النفسية لهذه التصرفات تعود إلى ثلاثة عوامل: أولها، البيئة أو الأسرة التي تربت فيها هذه المرأة [الخالة]، فالمرأة التي تعتاد على القسوة تصبح عنيفة وشحيحة الحنان. أما العامل الثاني، فيعود لهرمون في الجسم يدعى "ألوكسي توسين" المتعارف على تسميته "هرمون المحبة"، فكلما زاد هذا الهرمون في الجسم، زاد الحنان والرحمة والشفقة، وتتفاوت نسبة وجوده من شخص لآخر، ويوجد بكثافة في الإناث بنسب متفاوتة أيضًا. السبب الثالث -حسب الدكتور العطاس- يعود لاضطرابات ذهنية عقلية، واضطرابات في الشخصية، مثل: النرجسية، الغيرة، الأنانية وحب الذات؛ مما يؤدي إلى تفضيل أبنائها على أبناء زوجها، ويصبح كل ما يهمّها هو أن ينصاع الطفل لأوامرها، بغض النظر عن شعوره تجاه ما يفعله.
القانون المغيب
يفيد المحامي فؤاد عبده نعمان الجعفري، رئيس فريق المحامِين التابع لمؤسسة العون القضائي، بأن السجن المركزي للنساء يضمّ الكثير من جرائم العنف الأسري، وخصوصًا عنف الخالة، غير أنه لا يوجد قانون يختص بهذا النوع من الجرائم، إنما أدرج ضمن الضرب المفضي إلى الموت، متفقًا مع رئيس منظمة "سياج" بأن أغلب هذه المواضيع ينجو الجاني بفعلته أيًّا كانت درجة جسامتها. إذ يحدث أن يتدخل أفراد الأسرة أو مشائخ وأعيان القبيلة، فتُحلّ هذه القضايا قبليًّا، أو يتنازل الأب عن حقّه، فتخرج الجانية حرّة تسرع الخطى وتبطيها على قبر ضحيتها.
ويضيف أحمد القرشي، بأن منظمته لا تنشر كثيرًا من الحالات التي تتلقى بلاغات بها، تجنبًا للتشهير بالضحية، إنما تقوم بـ"إجراء اللازم" على أرض الواقع في حال تلقّت بلاغًا عن الحادثة، فتقف مع الضحية وتناصرها، وتوفر لها الاستشارات القانونية، وتأمين المحامي، والتواصل مع الشرطة والنيابة، ومن ثَمّ مع المشايخ وأعيان القبائل، وحثّهم على إنصاف الضحية، وعدم ترك المتهم قبل معاقبته. "لكن"، كل هذا كان في السابق فقط، أما في الوقت الراهن، فقد اقتصر عمل المنظمة في رصد الجرائم والانتهاكات على خلفية الحرب.
ويقول القرشي إنه لا توجد أي دراسات أو إحصائيات، حكومية أو مدنية، تتعلق بهذا النوع من العنف.
وجه آخر
يقول كثير من الأشخاص الذين قابلناهم، بأن الصورة الذهنية لـ"الخالة"- زوجة الأب، التي تصورها وسائل الإعلام وقصص الأطفال الضحايا، ظالمة جدًّا بحق نماذج أخرى من الخالات- زوجات الآباء، يعاملن أبناء أزواجهن مثل أبنائهن تمامًا. وذلك صحيح، فالخير والشر موجودان في كل مكان وزمان.
تحكي أسماء (27 سنة)، بأنها تخجل من مناداة خالتها بغير "أمي"؛ فهي تحمل قلب وحنان الأم، وتهتمّ بها وبإخوانها على أكمل وجه.
إحدى "الخالات": "الخالة"- زوجة الأب، مهما استخدمت من العقوبات المعقولة مع أبناء الزوج، إلا أنها تظل ملومة وعنيفة، بينما لو كانت الأمّ هي التي قامت بأضعاف ذلك العقاب لشدّ على يدها الجميع بأنها أحسنت تأديب أطفالها.
بينما يخبرنا محمد بأن صديقه شكا له من أن زوجته الثانية تفسد تربية أولاده من الزوجة الأولى من شدة الإفراط في تدليلها لهم والانصياع لرغباتهم. أيضًا علي جيلان يقول بأن أخته "خالة" لولد تحبه كثيرًا، وجعلتهم جميعًا يحبونه معها، ويخافون عليه ويدللونه كأنه ابنهم.
ومن وجهة نظر الطب النفسي، فإن الأمر أيضًا يعود لوجود الأم من عدمه؛ فهناك فرق بين أن تكون الأم متوفاة، وبين أن تكون على قيد الحياة تحشو عقول أطفالها بالأفكار السلبية تجاه "خالتهم"- ضرّتِها، وقد تصل لتعليمهم طرقًا لأذيتها وتنغيص حياتها، ما يؤدي إلى توليد المشاكل والمشاحنات بينها وبين الأطفال.
كذلك هناك دور الأب، والذي يجب أن يحزم الأمور، ويعرف كل ذي حقٍّ حقه وواجباته، ولا يجعل مجالًا للغيرة أو المشاحنات، وأن يكون مطّلعًا ومتنبهًا.
تقول (س.ع)، وهي "خالة"- زوجة أب: "ما أن تصبح المرأة "خالة"- زوجة أب، حتى تدخل قائمة الذئاب البشرية. بغض النظر عن تصرفاتكِ، ومهما حاولتِ التفاني والإخلاص في أداء مهماتكِ المنزلية، فسوف تظلين في الدرك الأسفل من المقصِّرين، حتى كلماتك، مهما كانت حانية، فستُعتبر نهرًا وزجرًا، إن لم يكن من قبل أبناء الزوج، فممّن حولهم".
وتضيف (س.ع)، في حديثها لـ"خيوط"، من واقع تجربتها، أن أبناء الزوج مسؤولية وأمانة في رقبة "الخالة"- زوجة الأب، كما أنها مسؤولة عن تربيتهم وحسن خلقهم، فعندما يقترف الطفل خطأ يجب أن توبخه وتعاقبه لأجل ألّا يكرر الخطأ، سواء بالكلمة أو بأي نوع من أنواع العقوبات دون الاعتداء الجسدي. وتصرّ (س.ع) على رأيها هنا أيضًا أن "الخالة"- زوجة الأب، مهما استخدمت من العقوبات المعقولة مع أبناء الزوج، إلا أنها تظل ملومة وعنيفة؛ بينما لو كانت الأم هي التي قامت بأضعاف ذلك العقاب لشدّ على يدها الجميع بأنها أحسنت تأديب أطفالها. وتلقي (س.ع) باللوم على "الزمن وحكايات الأطفال" التي تلقن الطفل أن "الخالة"- زوجة الأب وجه آخر للتعذيب والإجرام. وتتابع أن أهل الأطفال، سواء من جهة أمهم أو من جهة أبيهم، يحدث أن يحشوا فكر الأطفال بصور سوداء عن "الخالة"- زوجة الأب. كل ذلك، ترى "الخالة" (س.ع) أنه يفاقم المشاكل بين زوجة الأب والأبناء وبين الأب وأهله، حيث يعتبرون تربيتها للأطفال عنفًا. وهي تنصح كل فتاة بألّا تقبل أن تكون زوجة أب مهما كانت الظروف، وإذا حدث "ووقع الفاس بالراس"- حسب قولها، فلتنسَ أنها أنثى ذات مشاعر يجب أن تراعى وتحترم، وتعرف أنها دخلت قائمة "المجرمين" الذين يتوجب معاملتهم بعنف وقسوة.
ليست "الخالة"-زوجة الأب، وحدها التي ترتكب العنف الأسري، فالعمّ (زوج الأم) أيضًا يظلم ويعتدي على أبناء زوجته، لكن تسليط الضوء على قضايا "الأعمام"- أزواج الأمهات، لا تثار مثل قضايا "الخالات"- زوجات الأب؛ لأسباب اجتماعية متعددة.
يحكي (ف.م.غ) قصته عندما كان طفلًا؛ فبعد أن تُوفِّي والده تزوجت والدته بآخر، قال إنه أذاقه كل أنواع الضرب بعِصِيّ مختلفة كانت تظهر على جسده الصغير، وأنه كان عندما ينتهي من نيل حصته من الضرب يذهب ليريها أصدقاءه الأطفال.
ويؤكد رئيس منظمة سياج لحماية الطفولة، أن من بين حالات العنف الأسري التي تصلهم بلاغات بها، حالات اعتداءات أزواج الأمهات على أبناء الزوجة.
ويوصي القرشي بأنه يجب عدم تمكين الآباء من انتزاع الأطفال من أمهاتهم بعد الانفصال، وأنه يجب إلزام الآباء بدفع نفقات الأطفال ودفع أجور الأمهات مقابل تربيتهم، وأنه يجب تشديد العقوبات على الآباء والخالات زوجات الأب، في حال ارتكاب أيّ نوع من العنف ضد الأطفال من الجنسين.