قبل بَدء الحرب كان مختار -ابن الريف- يحلم بزيارة صنعاء التي بدت له المدينة اللائقة بالفسحة، لكنه غيّر رأيه حين سلبت الحرب أمان المدينة وصارت عرضة لقصف طائرات "التحالف العربي" بقيادة السعودية والإمارات، منذ مارس/ آذار 2015، حتى اللحظة. ألغى مختار زيارته المنشودة في العام 2017، إلى المدينة التي لطالما أدهشته ولم يسبق له زيارتها، لكنه فضّل البقاء -حسب قوله- في القرية البعيدة المحاطة بالجبال؛ كونها تتمتع بالأمان وبعيدة عن أزيز الصواريخ ودويّ انفجارات الحرب.
مختار، مواطن أربعيني من محافظة الضالع، وحين تحدث لـ"خيوط"، سقطت دمعته بلا إرادة منه، يقول: "كانت زيارتي الأولى في حياتي لصنعاء، إلى المستشفى، وهو ما لم أكن أتوقعه". في مطلع العام 2018، كانت قد نشبت مواجهات مسلحة في مدينة دَمْت (شمال محافظة الضالع)، بين قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا وقوات جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وعلى إثرها تعرض المواطن مختار أحمد صالح عبدالرحيم، لإعاقة جسدية بعد أن سكنت شظية في رأسه، وبُترت أصابع يديه، وهو ما سبّب له شللًا في أطرافه، أقعده في المنزل.
في صباحٍ غائم من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2018، ساق مختار أغنامه من حضيرتها وتوجه بها، ككل يوم، إلى الجبل المطِل على القرية لترتعي، فتلك الأغنام هي مصدر دخله الوحيد. لم يكن يعلم أن حربًا لطالما هرب منها، ستطاله. في لحظة وصفها بالكابوس، وجد نفسه فجأة يمسك عبوة ناسفة رآها ملقاة أمامه، وفور التقاطها انفجرت في وجهه مخلفة له إعاقة سترافقه طيلة ما تبقى من حياته.
يستمر تنازع طرفي الحرب، ومعهما تستمر معاناة ذوي الإعاقة من المدنيين الذين فقدوا أطرافهم بفعل الحرب ومخلفاتها، إضافة إلى الوقائع المأساوية التي تحدث كلما استمرت الحرب، في ظل غياب الدور الحكومي في صنعاء أو عدن لدعم هؤلاء الضحايا ومساعدتهم في علاجهم وتجاوز إعاقتهم.
بصعوبة بالغة، كان مختار ينظر إلى يديه، وهما غير قادرتين على الحركة، فتظهر على ملامحه رغبة في شتم الحرب وقادتها، لكنه اكتفى بالصمت، متألِّمًا كمن يدينها بمنطق الفقد والخسارة. فور إصابته تم نقله إلى مستشفى بمدينة دمت، ثم إلى آخر في مدينة ذمار، وانتهى به المطاف في مستشفى ثالث في صنعاء، حيث كانت أمانيه تزهر بخياله لزيارة المدينة والتجول فيها سالمًا.
كمن يقف على صخرة آيلة للسقوط في أعلى الجبل، كان مختار يتحدث لـ"خيوط": "شُلّت يداي، والشظية في رأسي تضاعف الشلل في كافة جسمي، والأطباء قالوا إن إزالتها قد يعرضني للموت، وها أنا مقعد الآن على الفراش". ويضيف: "خسرت في المستشفيات قرابة خمسة ملايين ريال (قرابة 8500$) دفعها فاعلو خير، ولم يحدث الشفاء الذي كنت أرتجيه".
خلال عودة علاجية من قرية "حيد كنّة" التي يقطنها، إلى مدينة دمت، نظر مختار من نافذة السيارة الواقفة أمام "حَرَضَة دمت"، إلى أعلى الفوهة القريبة من الحمّام الطبيعي في المنطقة. قال إنه تذكر كيف كان يصعد السلم ويتسابق مع أصدقائه كلما دخلوا المدينة للتسوق، فشعر بحزن شديد وحنين إلى ماضيه الذي لطالما حلم بالعودة إليه، وقد غدا حاضره كابوسًا يذكره بعجزه وقلة حيلته تجاه الحركة التي ألفها قبل إصابته.
إلى جانب رعي الأغنام، كان مختار ينشط في أعمال الزراعة، فتمده ببعض المال لإعالة أسرته المكونة من زوجة وأربعة أطفال (ثلاث فتيات وولد واحد). حين توجهت "خيوط" إليه بسؤال عن مصادره في الحصول على ما يكفي عائلته من غذاء ودواء، بدا الحرج على وجهه، لكنه أشار إلى الأقارب وفاعلي الخير.
يستمر تنازع طرفي الحرب، ومعهما تستمر معاناة ذوي الإعاقة من المدنيين الذين فقدوا أطرافهم بفعل الحرب ومخلفاتها، إضافة إلى الوقائع المأساوية التي تحدث كلما استمرت الحرب، في ظل غياب الدور الحكومي في صنعاء أو عدن لدعم هؤلاء الضحايا ومساعدتهم في علاجهم وتجاوز إعاقتهم. الإعاقات التي ستكون شاهدة على قساوة الحرب وبشاعة المتحاربين، وقد أكّد مختار في هذا السياق، أنه لم يتلقَّ أي دعم حكومي منذ إصابته في العام 2018، حتى اللحظة.
لن تقف المأساة عند مختار ما دامت الحرب مستمرة، وكثيرون أصبحوا من ذوي الإعاقة بسببها، وفي كل هذه الفوضى، لن يحظى الإنسان بأي اعتبار ما لم يحل السلام.