يعلن أحدهم جهارًا نهارًا أنه بلا دين، وما أكثر الفيديوهات التي يطلقها للترويج لإلحاده. في واحد من هذه الفيديوهات، وجهت إليه فتاة يمنية سؤالًا في سياق استنكاري: "هل ابنتك أصبحت حلالًا لك؟!". من جهته، اعتبر هذا الملحد سؤال الفتاة دليلًا على سوء تربيتها، أما أنا فقد اقشعر بدني، ولكن لم يراودني أدنى شك في أخلاقها. والحقيقة أنّ هذه الفتاة ليست بدعة دون غيرها من ملايين الناس الذين يفكرون بهذه الطريقة، معتقدين أنهم على الصراط المستقيم.
ذات مرة سألت (ص) من هؤلاء الناس: إذا أتيحت لك فرصة التسلل ليلًا إلى محل لتجارة الذهب وسرقة كل ما فيه من مصوغات، فهل ستفعل؟ وجاء الجواب سريعًا: مستحيل أن أفعل شيئًا حرَّمه الله. قلت: وما الذي يمنعك؟ قال: الخوف من عقاب الله.
بعد نحو ثلاث سنوات، التقيت (ص) هذا ثانية، ولكن هذه المرة وجدته قد خضع لمؤثرات أصبح بسببها ملحدًا، وكررت عليه السؤال نفسه، وكان الجواب الرفض القاطع لفعل السرقة، ولكن ليس خوفًا من عقاب الله، وإنما لأن فعل السرقة سلوك مشين ومستقبح إنسانيًّا أو قل عمل لا أخلاقي. فما الذي تغير يا ترى؟ الذي تغير هو وعي (ص) وإدراكه لطبيعة موقفه من فعل السرقة. فعندما كان مؤمنًا متدينًا كان يعتقد -خطأ- أن الخوف من عقاب الله هو المانع، وعندما أصبح ملحدًا تبيّن له أن المانع ليس الخوف من عقاب الله، وإنما بشاعة فعل السرقة بصفته فعلًا ممقوتًا، أخلاقيًّا وإنسانيًّا.
والسؤال: ما الفرق بين عدم السرقة بتأثير الوازع الديني وعدم السرقة بتأثير الوازع الأخلاقي؟ والجواب: الفرق بينهما هو الفرق بين الدين والأخلاق. وهنا سينبري من يسأل مستنكرًا: وهل هناك فرق بين الدين والأخلاق؟ أليس الدين هو أساس الأخلاق ومنبعها؟ والجواب: الأخلاق شيء والدين شيء آخر مختلف، والعلاقة بينهما ملتبسة جدًّا. فالأخلاق هي أن تفعل الصواب بصرف النظر عما يقال لك أو يطلب منك، والدين هو أن تفعل ما تقوله لك مرجعيتك الدينية وما تطلبه منك بصرف النظر عن الصواب. ولمزيد من الشرح والتوضيح، سنأتي بأمثلة.
جاء في الآية (74) من سورة الكهف: {فانطلقا حتى إذا لقيَا غلامًا فقتله قال أقتلت نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئًا نكرًا}. لكن الآية (80) من السورة نفسها جاءت وسوَّغت قتل الغلام هكذا: {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا}.
بحسب المرويات، القاتل هو الخضر، وقد قتل الغلام لِعِلْمٍ أتاه وحيًا من الله. لكن النبي موسى الذي لم يكن يعلم شيئًا مما يعلمه الخضر استقبح هذا الفعل. وفي الأخير، كشف الخضر سر علمه الرباني لموسى قائلًا إن الغلام ابن مدلل لأبوين مؤمنين غارقين في حبه، ولا بد أن هذا الحب الأعمى سيوقعهما في طغيان الابن وكفره حين يكبر، وحتى لا يقع هذا استوجب الأمر قتل الغلام خوفًا على إيمان أبويه.
وإذا علمنا أنّ العقوبة لا تكون إلا بجريمة وقعت بالفعل، وأنّ الغلام قُتِل لجرم لم يرتكبه، فإن فعل القتل في هذه القصة عمل لا أخلاقي (ليس صوابًا)، وأن الخضر بهذا الفعل قد جاء شيئًا نكرًا، بحسب تعبير القرآن على لسان موسى، لكن من المنظور الديني لا غبار على هذا الفعل. فالخضر هنا فعل ما قيل له وما أُمر به بصرف النظر عن الصواب.
وفي الآية (102) من سورة الصافات، نرى كيف امتثل أبو الأنبياء إبراهيم لأمر ربه حين أمره أن يذبح ابنه، وكيف امتثل الابن لأبيه: {فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
في هذه القصة لا يحتاج المرء إلى عقل استثنائي ليلاحظ أن ذبح النبي إبراهيم لابنه البالغ من العمر -بحسب المرويات- ثلاث عشرة سنة هو عمل لا أخلاقي (ليس صوابًا)، لكن إبراهيم استسلم لأمر الله بصرف النظر عن الصواب، وقد تبين من السياق القرآني أنّ الأمر كان مجرد ابتلاء.
مما سبق أصبح واضحًا أنّ الدين شيء والأخلاق شيء آخر مختلف. ولكن لماذا يخلط الناس بين الدين وبين الأخلاق ويعتقدون أنهما شيء واحد؟ الجواب: ليس الدين هو المسؤول عن هذا الخلط، وإنما الأيديولوجيا الدينية هي التي تُكرِّس في عقول الناس وعيًا زائفًا مؤدّاه "إذا غاب الدين غابت الأخلاق". وبتأثير هذه الأيديولوجيا -وليس بتأثير الدين- اعتقدت الفتاة المشار إليها أعلاه أنّ الملحد أصبح بلا أخلاق وأنه كالبهيمة، مع أنّ ذلك الملحد لم يقل إنه بلا أخلاق ولن يقول شيئًا من هذا حتى وإن انتزع منه جلده، بل ويغضب من كل شخص يجرده من أخلاقه، لكنه بكل أريحية يقول إنه بلا دين.
لو جئنا بذلك الملحد ووضعناه في السجن مع أخطر اللصوص والقتلة وكبار أصحاب السوابق وعرضنا عليهم فيديو واحدًا فقط من الفيديوهات الإلحادية التي يبثها، فإن رد الفعل المتوقع هو الاعتداء عليه وقتله خنقًا بالأيدي، بينما لن يحصل له مثل هذا إذا وضعناه بين معتقلين سياسيين حتى وإن كانوا جميعًا إخوانًا مسلمين. وتفسير ذلك أنّ المجرمين بلا أخلاق مع شيء من الدين تخالطه الأيديولوجيا الدينية، أمّا السياسيون فهُم على أخلاق تحجبها عنهم قشرة دينية سميكة. لذلك سنجد أن فعل القتل في حالة المجرمين، سببه انعدام الأخلاق فيما قامت الأيديولوجيا الدينية بتقديم المبرر، بينما في حالة المعتقلين السياسيين الأخلاق هي التي منعت فعل القتل، ولكن الأيديولوجيا الدينية استأثرت بهذه الفضيلة ونسبتها إليها.
ليس صحيحًا القول بأن الأخلاق قامت على أسس دينية، والصحيح هو أن الدين قام على أسس أخلاقية. لكن الأيديولوجية الدينية تنزع عن الدين مضامينه الأخلاقية وتحوله إلى أداة من أدوات الصراع السياسي الذي يأخذ أشكالًا كثيرة، من بينها الطائفية والمذهبية والإرهاب.
إنّ الخلط بين الدين والأخلاق واعتبارهما شيئًا واحدًا، يولّد بالضرورة اعتقادًا خاطئًا مؤدّاه أن طبقة رجال الدين هي الأكثر أخلاقًا في كل المجتمعات وفي كل العصور، وهذا حكم يكذبه تاريخ الأديان وتنفيه الممارسة العملية، لكن ليس الدين هو المسؤول عن سوء أخلاق هذه الطبقة، وإنما الأيديولوجيا الدينية التي تتاجر بالدين لأغراض سياسية دنيوية. وفي هذا السياق، نجزم بأن رجال الدين الذين كفروا دستور دولة الوحدة عام 1990، ودفعوا البلاد نحو حرب 1994، من أجل تغيير الدستور "الكافر" هم جميعًا بلا أخلاق، والعبرة في نتائج فعلهم وليس في مقدماته. وفي السياق نفسه، نجزم بأن الحرب الكلامية التكفيرية التي يتعرض لها مركز دراسات المرأة في جامعة تعز، هي حرب لا أخلاقية ويقودها ويحرض عليها أناس بلا أخلاق يتاجرون بالدين لأغراض دنيوية.
ليس صحيحًا القول بأن الأخلاق قامت على أسس دينية، والصحيح هو أنّ الدين قام على أسس أخلاقية. لكن الأيديولوجية الدينية تنزع عن الدين مضامينه الأخلاقية وتحوله إلى أداة من أدوات الصراع السياسي الذي يأخذ أشكالًا كثيرة من بينها الطائفية والمذهبية والإرهاب.
إنّ الدين في أحد تعريفاته الأكثر نضجًا هو "الإيمان بالله مضافًا إليه الأخلاق الكلية". والأخلاق الكلية هي تلك العابرة للثقافات وتتقبلها كل الأمم. والإنسان إذا ألحد فإنه يفقد الإيمان بالله؛ أي يفقد العلاقة الرأسية بالله، لكنه لا يفقد الأخلاق الكلية الناظمة لعلاقته الأفقية بغيره من الناس. بمعنى آخر؛ إذا تخلى الإنسان عن الإيمان بالله فإنه بهذا يكون قد خسر الآخرة (حياة ما بعد الموت)، أما إذا تخلى عن الأخلاق، فإنه بهذا يكون قد خسر الدنيا؛ وبالتالي يتعذر عليه العيش بين الناس ومع الناس. والملحد يخسر بسبب إلحاده حياة ما بعد الموت، لكنه يظل متشبثًا بالحياة الدنيا، وهذا يعني التشبث بشروط العيش في هذه الحياة، والأخلاق هي أهم شروط هذا العيش.
في ختام هذا المقال، من منا لم يقرأ هذه العبارة: "لا بارك الله في عمل يلهيك عن الصلاة". وإذا علمنا أننا نصادف هذه العبارة ليس في بيوتنا وإنما في مؤسسات القطاع العام، فمن حقنا أن نسأل: هل تعطيل مصالح الناس بذريعة الصلاة عمل أخلاقي؟