تعتبر مدينة مأرب القديمة بمساحتها البالغة 110 هكتارات، والمحصورة داخل سور غير منتظم الشكل يبلغ محيطه 4.5كم، أكبرَ موقعٍ أثريّ تشهده الجزيرة العربية خلال فترة تاريخها القديم، إذ لا يوجد موقع آخر يضاهيه في أيِّ جزءٍ آخر منها.
إذا ما أردت أن تعرف مدى عراقة الدولة وعمرها الحقيقي، تلقائيًّا ستجد نفسك تنبش عن آثارها لتعرف عمقها في التاريخ وعمرها الفعلي، وما هي مدلولات تلك الآثار وجذورها التاريخية من خلال النقوش أو البنيان أو الأطلال التي تدل على معنى زمانها.
إضافة إلى معرفة مدى التطور الذي وصلت إليه تلك الشعوب وعاداتها وتقاليدها، ونمط الحياة، وبعض الديانات التي اعتنقوها والعبادات التي مارسوها، وكذلك نقل صور من حروبهم وملاحمهم البطولية التي قاموا بها.
لكن ما تشهده مدينة مأرب التي تعتبر إرثًا تاريخيًّا منذ آلاف السنين، وسجلًّا عامرًا بالفنّ وباذخًا بالعطاء، يضرب بعرض الحائط كل هذه الأهمية الحضارية للآثار والمعالم السياحية التي يطالها عبثٌ واسع وإهمالٌ واختفاء لقطع أثرية نادرة.
يقول الخبير المختص في الآثار، صادق سعيد عثمان، لـ"خيوط"، إنّ هناك عددًا من المخاطر المحدقة بالآثار اليمنية بصفة عامة، وآثار مأرب بصفة خاصة، تتمثّل بالجهل الذي جعل من الإنسان عدوًّا لها، وبالإهمال القسري، وغياب التنمية والافتقار إلى التخطيط، ونقص الوعي العسكري، فضلًا عن التدمير المتعمّد، والعرّضي، وإعادة الاستخدام المتعمد للمواقع الأثرية، ونهب وترحيل العديد من القطع والنقوش اليمنية القديمة إلى مواطن جديدة.
المعالم الأثرية والسياحية في مأرب، تعرّضت للعديد من المخاطر نتيجة تركها بدون حماية، وعدم توفر متحف يضمّ العديدَ من القطع الأثرية القابلة للاندثار، وتركها تتعرض للأمطار والرياح، وفي متناول أيادي الجماعات الإرهابية التي لا تقدّر أو تعي مدى ثمن هذا المخزون القومي للبلاد.
ويشدّد عثمان على ضرورة التحرّك الجادّ لتصحيح هذا الوضع والحفاظ على هذه الآثار من المخاطر، من خلال إجراء تغييرٍ واسع في عمل الهيئة العامة للآثار والمتاحف، يشمل مختلف الجوانب الإدارية، والتشريعية، وأساليب وآليات الأعمال الميدانية المختلفة، حتى لا نصحو يومًا -بحسب حديثه- ولم يعد فيه وجودٌ لبقايا سدّ مأرب القديم أو لأيّ موقعٍ من المواقع الأثرية على الساحة اليمنية.
كما يتطلب الأمر تشكيلَ فريقٍ من المختصين الآثاريين والمهندسين المعماريين والمصوّرين المحترفين، والسماح لهم بالنزول الميداني إلى المواقع الأثرية لتوثيق وتقييم حجم الأضرار التي لحقت بالمواقع والمعالم الأثرية، والمدن والمباني التاريخية، ووضع تصورٍ أوليّ حول الإجراءات الإسعافية السريعة التي يمكن اتّخاذها للحدّ من تلك الأضرار.
جرائم تاريخية
بفعل الحرب التي تشهدها اليمن، غابت السياحة في هذه المحافظة، ولم يعد يقصدها أحدٌ سوى أبناء البلاد والسياح المحليين، أو بعض البعثات الدبلوماسية، والصحفيين، لتصوير برامج أو تصوير شخصي من المجتمع، أو بعض الزيارات النادرة والشحيحة التي لا تكاد تذكر من بعض الأجانب.
مدير دائرة الإعلام والفنون في مكتب الثقافة والسياحة بمحافظة مأرب، محمد القاضي، يقول في تصريح لـ"خيوط"، إنّه منذ انقلاب "الحوثيين" قبل ما يزيد على ثماني سنوات، تم تهريب العديد من القطع الأثرية والمخطوطات إلى الخارج، وشاهد الجميع العديدَ من الآثار تُباع بمزادات دولية، إذ يعد القاضي ذلك بمثابة جريمة تضاف إلى جرائم الحرب تجاه البلاد، حيث تتسبّب مثل هذه الممارسات بخسائر جسيمة في حقّ موروث البلاد الحضاري، وكذا منح الآخرين تأريخ بلادنا إلى تأريخهم.
ويشير القاضي في حديثه، إلى أنّ الحرب تركت آثارًا وأضرارًا بالغة على قطاع السياحة في بلدٍ تنعدم فيه وسائل الحماية والأمن لأبنائه.
كانت مأرب وصنعاء القديمة تعدّان قِبلة عالميّة للسياحة، حسب منظمة اليونسكو، وكذا شبام حضرموت ومدينة ثلاء ومأرب والجوف وشبوة وعمران، والعديد من المناطق التاريخية والأثرية في اليمن. ولكن بسبب الحرب وانعدام الأمن توقّفت السياحة؛ الأمر الذي انعكس سلبًا على المعالم الأثرية في اليمن عامة، ومأرب خاصة.
ويضيف القاضي أنّ المعالم الأثريّة والسياحيّة في مأرب، تعرّضت للعديد من المخاطر نتيجة تركها بدون حماية، وعدم توفر متحف يضمّ العديد من القطع الأثرية القابلة للاندثار، وتركها تتعرض للأمطار والرياح، وفي متناول أيادي الجماعات الإرهابية التي لا تقدر أو تعي مدى ثمن هذا المخزون القومي للبلاد.
وجود التنقيبات الأثرية العلمية المنظمة في موقع مدينة مأرب القديمة، ستكشف عن جزء كبير من جوانب الغموض التي تكتنف التاريخ اليمني القديم.
ويؤكّد مدير دائرة الإعلام في مكتب الثقافة والساحة بمأرب، أنّ من الطبيعي عندما تشتعل فتيل الحروب في البلدان، تنقطع السياحة، فالناس تخاف على أرواحها، فالزائر إلى مأرب حتمًا سوف يذهب للسفر عبر الزمن إلى ما قبل خمسة آلاف سنة من خلال إمعان النظر في الآثار والشواهد التاريخية، ولكن في الآونة الأخيرة نتيجة استهداف مأرب بالصواريخ الباليستية من قبل "الحوثيين"، قلّ الزوار من أبناء المحافظات الأخرى إلى مأرب، وكذا اقتراب المعارك من أسوار المدينة كان له تأثيرٌ كبير في هذا الخصوص.
تدمير منظم
تعتبر المعالم الأثرية في مأرب إرثًا تاريخيًّا منذ آلاف السنين، حيث تتمثّل أبرز معالمها بعرش بلقيس ومعبد إلمقه، ومعبد أوام، ومعبد باران، والسد القديم، ومدينة مأرب القديمة، ومدينة صرواح القديمة، وغيرها من الأماكن التاريخية والأثرية.
ويرى الباحث في مجال الآثار والتاريخ، يحيى حمران، في حديثه لـ"خيوط"، أنّ هناك أهمية للحفاظ على الآثار والمعالم التاريخية في حالة السلم، فضلًا عن وضع الحرب والصراع الذي تشهده اليمن بسبب انقلاب "الحوثيين"، بحسب حديث حمران، حيث تتعرّض المعالم الأثرية والتاريخية إلى تدميرٍ منظّم، في حين تم اتخاذ بعضها ثكنات عسكرية أو مخازن حرب.
ويتطرق إلى أنّ عوامل التعرية، في ظل افتقاد المواقع الأثرية للمختصين الخدميين، كارثة بحدّ ذاتها على الآثار التي يربو عمر بعضها على الثلاثة آلاف عام.
ويشرح حمران أنّ ما تم العثور عليه في مأرب من معابد وآثار حتى اللحظة، لا تمثّل ما نسبته 1% من حضارة عريقة، حكمت حتى أقاصي قارة آسيا وأفريقيا، فمعالم السدّ الشهير تظهر بارزة للعيان، إضافة إلى قنوات الري، والعديد من المعابد والصروح المشيدة، ويبدو أنّها كانت تستخدم للاجتماعات، وكذلك ما زالت معالم المقابر الملكية ماثلة للعيان حتى اللحظة، ما يدلّ على أنّ الكثير من الآثار والمعالم المهمة ما زالت مطمورة تحت الرمال.
ويؤكّد أنّ وجود التنقيبات الأثرية العلمية المنظمة في موقع مدينة مأرب القديمة، ستكشف عن جزء كبير من جوانب الغموض التي تكتنف التاريخ اليمني القديم.
ويتطلب خطورة الوضع الذي تشهده مأرب ومعالمها الأثرية والسياحية، توجيه نداء عاجل للمنظمات الإقليمية والدولية المعنية بحماية التراث الثقافي للتدخل السريع، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الآثار اليمنية، وعلى رأسها آثار مملكة سبأ، وذلك تمهيدًا لإطلاق حملة دولية واسعة النطاق للحفاظ على التراث الثقافي اليمني، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من التراث الإنساني.