وما يزال عشقه طريًّا كأنه حدث بالأمس، لا حديث إلا عنها، ولا ترنم إلا باسمها، إنها نبض قلبه الجريح، وضياء أيامه ولياليه، وليس في الجُبّة إلا هي. هي قلبه ولسانه، وسميرته في غدوه ورواحه، وهي وحدها من يتأملها في الليالي، يراها مصباح السماء، دُرَّة ساطعة، بين النجوم، تضيء قلوب العاشقين وتهديهم سواء السبيل.
ثم صمت مُكْردين، توقف عن كل كلام، ثلاثة عقود ونيف وهو صامت. يقول صاحبه مدهش؛ إنه وجد في الصمت بلاغة أعمق، وقربًا منها أشد.
وحده العم مدهش، صاحب مقهى مدهش الشهير، يمكنه فهم مُكردين، بالإشارة ولغة العين، يدري أن صاحبه يرى في تفاصيل المقهى ورواده وجهها الذي غاب، في هذا المقهى ترنم باسمها، وباح لها بأعذب عبارات العشق والغرام، وكتب لها أرق الرسائل وأشجاها.
يقتعد مُكْرِدين مكانه المألوف في المقهى الذي صار كل عالمه، ومتحف ذكرياته الغابرة. هنا يتنفس بعمق، وهنا ينفث دخان سجائره، كأنه ينفث أحزان الدهور، هنا يشرب شاي الحليب الذي أسهم يومًا في تجويد وصفته، فشاع باسم شاي مدهش وازدحم ذوَّاقة الشاي منذئذٍ دون انقطاع، القلة فقط تشرب الشاي كما يفعل مُكْردين، يرتشفه بزطات يُسمع لها صوتٌ خاص، كأنها قُبَلٌ موسيقية، أو كأنه في اختبار للذوق له نغم وخشوع.
يقترب منه العم مدهش، يربت على كتفه بحب وتَحْنان، يقول له: "ستعود، ستعود يا صاحبي، ستعود شابّة فَتيّة كما عهدتها". وهذا طقس آخر مألوف بين الصديقَين منذ عقود، يسمع مُكردين مؤاساة صاحبه، يشكره بنظرة رقيقة، يرفع عينيه بعدها للبعيد، يومئ بابتسامة عذبة، تسقط على خديه دمعتان، ويسرح مع ذكرياته حزينًا مُنغَّصًا. يتذكر أيامه معها، ساعات عناقه الساخن، ساعات ولعه الليلي وهو يملأ ظلام الجبال بضوء بندقيته دفاعًا عنها. يكفيه أن يتخيل بسمة رضاها عنه، ثم يغفو، يغفو مصطحبًا طيفها، مترنمًا بأنشودة المرشدي (أنا الشعب زلزلة عاتية، ستخمد نيرانَهم غضبتي).
في ضُحى الأيام، وفيما يشبه التوقيت المحدد، يقوم مكردين من مقعده في مقهى العم مدهش، يحرك ساقيه منتصبًا لتحملا سنواته الثمانين، ترافقه عصاه الغليظة، يغيب في الشارع المجاور، يذرعه ما استطاع جيئةً وذهابًا، يقف أحيانًا لتفحص الوجوه والبضائع وحركة السيارات، يصغي إلى مفردات الصِّغار، ويهز رأسه سعيدًا تارة وحزينًا أخرى، ينعطف إلى ميدان التحرير، يعجبه الميدان، سَعةً وأفُقًا، في الطريق إليه يشتري وردة حمراء، يجلس على السور الحجري القصير المحيط بنصب تذكاري مهجور، هنا يتنفس مُكردين بعمق، يسعد رئتيه بهواء مخلوط بأنفاسها، يتأمل حُسْن وجه محبوبته، كم أكل الصدأ جوانبها ونقر الطير ضياء عينيها، لم تعد تراه، لكنه واثق أنها تعرف أنه هنا بجانبها، يتقدم منتشيًا ليضع وردته الحمراء على صدرها، يتأملها مليًّا بحرارة عشق الأيام الخوالي، حتى لو صارت حجرًا أو قطعة من حديد، لا شيء يشبهها، ولا كل فاتنات الدنيا يقدرن على محوها من خلاياه ونبض فؤاده. إنها أيقونته الأجمل، وهو هنا وحيد معها، في خُلوة حزينة، وقد كانت ذات يوم مهوى العشاق وملء السمع والبصر.
يحزنه أن يرى كيف يأتي عاشق مزيف مع فتاته، وكيف يغافلها، فيلتقط الوردة من صدر أيقونة مُكردين، يصطنع حركة صبيانية مع فتاته، تغمض عينيها فتفتحها على وردة حمراء يعلن بها العاشق المزيف حبه الكاذب لها.
ينتهي وِرْدُه اليوميّ فينهض بجسمه الهزيل وجُبَّته العسكرية العتيقة، يعود إلى مقهى العم مدهش، إلى شارع المطاعم، المجاور لشارع رفيقه في الحب، وشهيد الغرام المبكر قبله. لعل هذا سر غرامه بمقهى مدهش، أن يكون قريبًا من رفيقه في قلب صنعاء، حتى لو كان حجارة ودكاكين.
ينزعج مدهش جدًّا، إذ يرى بعض روّاد المقهى يمدّون أيديهم ببعض النقود، يصرخ فيهم قائلًا: "هذا ليس متسولًا، إنه مُكردين، إنه الشعب".
"الشعب، أهذا هو الشعب؟!"؛ يتساءل بعض الرواد بفضول أمام مدهش، متعجبًا ومُستخفًا.
أيّ شعب هذا؟ أما مدهش فيرى الجمال كله في ثيابه المتسخة، جبته العسكرية العتيقة، تلك الغابة البيضاء الكثيفة النابتة بعشوائية في وجهه وحول فمه، بالكاد يُرى له فم إلا من خلال فوهة دخان سجائره، أو حين يخرج لسانه تتلوى كثعبان جائع لتلعق ما علق بها من بقايا، لونها قسمة بين الأحمر والأخضر، عيناه غائرتان تشبهان بوابات المتاحف التراثية، يصطرع فيهما شعاع من عذوبة وعذاب. حين يبتسم، كأنه يراها، يراها تأتيه بأبهى حلة، مترفةً بشباب فاتن لا يضمر ولا يموت. يراها ملاكًا جميلًا تهبط عليه من السماء، تلقي عليه بشرى سارة وتختفي. يستمر صمته، لا يكلم الناس إلا رمزًا. قال العم مدهش إنه صمت في وقت ما بعد أن لاحظ أنّ حبال صوته تشيخ، وتراءى له أن الأجيال الأحدث من الناس تُخلق بلا آذان.
وفي الليل وقد هجعت المدينة كلها، يأوي العاشق مُكْرِدين إلى زاوية الشارع المغلق، يأوي إليه مصطحبًا صورتها ليغفو على فراش مهترئ، أو كراتين يجدّدها العم مدهش كلما تمزقت أو أصابها بلل، يرفض أن ينام في غرفة صغيرة أعلى المقهى، إنه الشعب لا ينام في سجن كما يقول، يريد سماءً وهواءً، يريد أُفقًا، حتى في الليل، ليرى النجوم ويحلم. لكنه لا ينام حقًّا إلا بعد سماع ترنيمة عشقه الخالد، أنشودة المرشدي (أنا الشعب زلزلة عاتية، ستخمد نيرانَهم غضبتي)، يتغلغل اللحن في أعماقه فينام، ينام بعمق يستعيد به ما ذهب من صحته وعنفوان أحلامه. اشترى له العم مدهش سماعة أذن حديثة، فلا وقت في الليل لسماع أنشودة منسية، إلا عند مُكْردين.
ولَعُه بأنشودة المرشدي أورثه ذات زمان لقب "الشعب". رفاق العشق منحوه هذا اللقب لكثرة ترديده عبارة "أنا الشعب". وكيف يستمتع برجع صداها مدويًا في الجبال والوديان، أعجبه اللقب فتمسك به.
وعند تباشير الصباح، لا يصحو العم مكردين على ضجيج زبائن المقهى، بل على دغدغتها اللذيذة لخياشيمه، كأنها رائحة عروس تقبل إليه للعناق، إنها رائحة خبز الطاوة المميزة، هي من توقظه، بل توقظ الحي كله وتعينه على البدء بيوم جديد. يضع العم مدهش بضعة أقراص منها مع شاي الحليب أمام الشعب، إفطاره المفضل، يمسك بالكأس، يضعه أمام أنفه لالتقاط رائحة الشاي المعلقة بالبخار الطالع من الكأس، يأخذ نفسًا عميقًا، يطوف بالبخار على أنفه كأنه يستنشق رائحة الجنة، وأنه كما قال يومًا: "بخار ذكريات مُعتق".
منذ بعض الوقت، يُظهر مدهش انزعاجًا وقلقًا، يرى مجموعة شبّان تقتعد طاولة قريبة من طاولة مُكردين، بينهم حفيده نشوان. ينظرون باستغراب جارح لمكردين، يتضاحكون ببلاهة واستفزاز، غيّروا من نظراتهم إزاءه في الأيام الأخيرة، صارت نظراتهم قلِقة حذِرة ممزوجة باستخفاف، ثم يراهم متحلقون حول بعضهم يقلّبون صور هواتفهم أو يشاهدون فيديوهات قصيرة، تصفق أكفهم بين الحين والحين أو ترتفع ضحكات هازئة هازلة أو يُصدرون علامات فرِحة بكم المشاهدات التي أحرزتها فيديوهاتهم القصيرة.
يرتاب مدهش، يلتفت إلى مكردين، يراه غير مكترث بالمجموعة، يطيل النظر فيهم أحيانًا مشفقًا، أو ينظر بربع عين وهم يتضاحكون، ثم ينظر إلى السماء. يطلب الشاي ويزطه زطًّا عالي الصوت، يرمقهم بنظرات حزينة وقد التفتوا إليه وتغامزوا فيما بينهم.
يحقّق مدهش مع حفيده نشوان عن سرّ صحبته الفجائية مع مجموعة الشباب المريبة هذه، لا يجد جوابًا مقنعًا، يرتاب أكثر.
تحين فرصة مناسبة في يوم تالٍ. في غمرة انشغالهم بمشاهدة الفيديوهات يقترب مدهش منهم، ويشاهد، يا لهول ما شاهد، شاهد صاحبه مُكردين يظهر في الفيديوهات وهو يشرب الشاي ويزطه، ثم وهو ينام على كراتين وفي أذنيه سمّاعة، ثم وهو يجلس متأملًا لنصب محبوبته التذكاري في ساحة التحرير، ثم وهو يضع وردته في صدرها، وهو يتأمل شارع صاحبه وما فيه من صور معلقة بكل شكل ولون وحجم، ثم كيف ينفث دخان سجائره لتختلط بشاربه الكث ولحيته التي تشبه قطعة من ضباب أبيض رست فوق وجهه.
ما لم يحتمّله مدهش، أن يرى صاحبه مكردين في وضع تغيير ثيابه الداخلية في غرفته الصغيرة أعلى المقهى، رآه عاريًا إلا مما يستر عورته، وتظهر ندوب جروحه الكثيرة في كل جسمه، ندوب وجراحات قديمة اجترحها في معارك متفرقة دفاعًا عن محبوبته، مدهش يعرف هذه الندوب وتواريخها، يعرفها تمام المعرفة.
يصرخ مدهش صرخة مدوية، أفزعت المجموعة: "يا كلاب، يا أبالسة".
قال غاضبًا يخاطب حفيده، وقد هرب الباقون:
- ألم تطلب إليّ فيما مضى أن نطرد مُكردين؛ لأنه بمنظره يشوّه صورة المقهى، كما قلت؟
- نعم طلبت ذلك، لكن الشباب طرحوا فكرة الاستفادة منه. صنعوا موقعًا في اليوتيوب بعنوان "أغرب رجل في العالم"، شدّ إليه الأنظار، وقد بدأنا نستفيد منه فعلًا يا جدي، المشاهدات بالآلاف وتتصاعد كل يوم، مثله نادرٌ هذه الأيام، إنه قطعة متحفية نادرة من أناس انقرضوا.
- نعم؟ قطعة نادرة، نادرة جدًّا، إنه مُكردين، إنّه الشعب.
هوى بكفه فارتطم بخد حفيده، أدارت الصفعة رأسه إلى الجهة الأخرى، انتزع هاتفه وأتى بمطرقة لتهشيمه، وفي مثل لمح البصر توسطهما مكردين يحول بينه وبين حفيده، انتزع منه الهاتف والمطرقة، أعاد الهاتف لنشوان. طبطب عليه وهدَّأت نظراته غضب مدهش.
شربوا جميعًا شاي الحليب، اقتاد مكردين نشوان إلى غرفته وتبعهما مدهش مستغربًا، جلسا على حافة السرير، تناول مكردين صندوقًا عتيقًا، فتحه، أخرج منه ألبومات صور كثيرة مرتبة حسب السنين تحكي قصة غرامه كلها، وما تبقى من صور محبوبته في الجبال والطرقات والمدن وما قيل فيها من شِعر ونثر. كان نشوان يحدّق مستغربًا، يقلّب عينيه بين الصور وحال مكردين اليوم. ورأى فيما رأى صورة أبيه مع مُكردين في جبل عالٍ وبأيديهم نواظير وبنادق، وحولهم دخان ونار. دُهش نشوان، وسالت دمعة في خد مدهش. رن جرس الهاتف:
- نشوان، ها، هل هدأ جدك؟ لا نريد التوقف، المشاهدون ينتظرون الجديد.
- لقد وقفت على كنز، لدينا ما يكفي لعمل فيديوهات لا تنتهي. قصة الرجل الغريب من أولها، قد نغير العنوان ليكون قصة "أغرب عاشق في العالم"، الصور مدهشة ومثيرة.
- رائع رائع، هذا خبر سار إلى اللقاء.
تكلم مكردين أخيرًا، وارتسمت بسمة فرحة في وجه مدهش:
- لا مانع من استخدام كل هذه الصور لفيديوهاتكم. الصور تشرح نفسها ومكتوب عليها أسماء الأمكنة والتواريخ. لي شرط واحد فقط.
- اشرط يا عم مكردين، اشرط.
- أن تُرافَق فيديوهاتكم بأنشودة (أنا الشعب).