يعمل محمد شاكر في حياكة الأحذية (إسكافي) منذُ طفولته، حيث تعلم هذه الحرفة من والده الذي كان يعمل إسكافيًّا أيضًا، إذ يؤكد أنه حينما تزوج زادت عليه المسؤولية وتوجب عليه أن يبحث عن حرفة أخرى، فلم يجد أمامه سوى أن يعمل في تنظيف مجاري الصرف الصحي ودورات المياه المسدودة.
يقول محمد (40 عامًا)، في حديثه لـ"خيوط": "إنها مهن (محتقرة) مجتمعيًّا، لكنها مهننا الأساسية التي وجدنا عليها أباءنا؛ لذا استسلمنا للواقع، والأهم أننا نحصل على لقمة العيش"، مضيفًا أنّ هذه المهن محصورة على هذه الفئة وعددهم قليل؛ لذا تتوفر لديهم فرص للعمل بهذا المجال أفضل من ذوي البشرة البيضاء الذين يفضلون الموت جوعًا على أن يعلموا أعمالًا كهذه.
هكذا تعاني فئة "المهمشين" في اليمن من التمييز والإقصاء، مع وصول الأمر إلى استثنائهم بطريقة غير مباشرة من الوظائف العامة الحكومية والخاصة، وحصرهم في أعمال ومهن ينبذها المجتمع.
الناشطة الاجتماعية مسك المقرمي، تقول في هذا الخصوص لـ"خيوط"، إنّ الفقر الشديد الذي يعاني منه المهمشون تسبب في كونهم يعملون في أعمال دونية، وهو ما جعلهم "منبوذين" من المجتمع، والدافع الأساسي هو أنهم لم يجدوا غيرها من المهن للعمل فيها.
يتواجد ذوو البشرة السمراء في جميع محافظات اليمن، إذ تتركز النسبة الأكبر منهم في الحديدة، حيث تُقدر نسبتهم بنحو 35%، يليها محافظة حجة بنسبة 13%، وذمار بنسبة 10%، وتصل النسبة في عدن إلى حوالي 8%، و5% لكلٍّ من تعز وصعدة، وأخيرًا صنعاء بنسبة 4%.
تفيد المقرمي، وهي من فئة المهمشين، أنّ هناك متعلمين ومتخرجين من الجامعات ولو بنسبة ضئيلة إلا أنهم لم يحصلوا على وظائف وأعمال لائقة؛ بسبب الفجوة الاجتماعية ومستوى التعايش بينهم وبين المجتمع، لذا اضطر كثير منهم للعمل في مجال التنظيف أو الإسكافية، وهذا ما شجّع الآخرين على التخلي عن التعليم والانخراط مباشرة في هذه الأعمال، وفقرهم يلصق هذه المهام عليهم.
عدم انخراط المهمشين في التعليم سبب رئيسي لعدم توظيفهم بالوظائف العامة، فهم الأكثر تسربًا من التعليم، حيث إنّ أغلبهم لم يكملوا المرحلة الإعدادية والثانوية.
وتضيف أنه تم إدماج 80-90 حالة مهمشة مع المجتمع ضمن أنشطة جمعية كفاية للتنمية الاجتماعية، فأحدثوا تفاعلًا وعلموا أبناءهم وتركوا التسول واكتسبوا مهارات تمكنهم من العمل وكانت النتائج إيجابية.
وترى أنه عندما تغيب المهارة والتعليم والتمكين الاقتصادي في أوساط الشباب المهمش ويبتعد عن الاندماج مع المجتمع، يعزف عن الأعمال المجتمعية ويتجه صوب الأعمال الدونية التي لا تحتاج مهارات وتعليم، وذلك بسبب غياب العدالة المجتمعية وعدم توزيع الموارد بعدالة.
تهميش ونبذ مجتمعي
تخرج أكرم الشرعبي من كلية الحقوق عام 2017، على أمل أن يجد عملًا شريفًا وفق حديثه، يجعل المجتمع يتخطى النظرة العنصرية تجاهه، ويثبت وجوده وهويته كأي إنسان يمني آخر.
يقول لـ"خيوط": "لم أستطع العمل في هذا المجال الذي قضيت فيه أربع سنوات دراسة، بسبب التهميش والعنصرية المنتشرة في اليمن تجاه أبناء البشرة السوداء؛ لذا توجهت إلى صندوق النظافة والتحسين للبحث عن وظيفة".
يعمل أكرم براتب 50 ألف ريال؛ أي ما يقارب 38 دولارًا بعد الترقية إلى مرتبة مشرف، ولكونه متعلمًا كما يقول، يحاول تجاوز النظرة القاصرة حول نفسه كونه أدرك قيمة ذاته؛ لذا هو في قيد التدريب والإصرار ليتحول من عامل نظافة إلى محامٍ.
اقتصر عمل أبناء هذه الفئة في اليمن على وظائف وأعمال ينبذها المجتمع، مثل: تنظيف الشوارع، إحياء حفلات الزفاف، حياكة الأحذية (الإسكافية)، إصلاح مجاري مياه الصرف الصحي وتنظيف دورات المياه والمؤسسات، إضافة إلى زراعة الثوم والبصل والفجل، إلى جانب انخراط نسبه كبيرة منهم في التسول بسبب ما يواجهونه من ممارسات التمييز ونبذ المجتمع.
في حين يعمل عبدالله القريضي، من أبناء هذه الفئة والحاصل على شهادة جامعية في العلوم المالية والمصرفية في العام 2000، مديرًا للشؤون المالية في مستشفى المسراخ بمحافظة تعز، بعد أن تنقل في عدة وظائف إدارية في عمله.
يتحدث القريضي لـ"خيوط"، بالقول: "حصلت على هذه الوظيفة وكل الوظائف السابقة بعد أن أثبت كفاءتي واستحقاقي للعمل، وأيضًا بالعمل والمثابرة والصبر والعزيمة والإصرار، فبهذه الطريقة نستطيع انتزاع كافة الحقوق المكفولة بالقوانين والتشريعات."
عبدالله القريضي وعدة نماذج أخرى، استطاعوا أن يجابهوا النظرة الدونية لهم، وانخرطوا في التعليم بكفاح وإصرار، واستطاعوا أن يثبتوا وجودهم في المجتمع، ويكون لهم أثر إيجابي في البلاد.
استبعادهم من الوظائف
في السياق، يؤكد رئيس الاتحاد الوطني للمهمشين نعمان الحذيفي، في حديثه لـ"خيوط"، أنه لا يسمح للمهمشين بالحصول على وظائف عامة كالوظائف الإدارية، إذ تسببت هذه التراتيب المهنية في اليمن في استبعاد المهمشين عن المشاركة في حياة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وإدارة الشؤون العامة بالدولة، نتيجة النظرة الاجتماعية القاصرة تجاههم، محملًا المجتمع ونظرته الدونية المتوارثة لهذه الفئة المسؤولية والسبب الرئيسي لانزواء المهمشين في مهن محتقرة ومنبوذة اجتماعيًّا.
ويعتبر الاتحاد الوطني للمهمشين الذي يرأسه الحذيفي، منظمة مدنية تهتم بأحوال المهمشين في اليمن وتُعنى بالدفاع عن حقوقهم والعمل على تمكينهم من المشاركة في مختلف المجالات، وهو أحد الأطر التي ظهرت وساهمت في الإضاءة على واقع معاناة مستمرة منذُ عقود.
من جانبه، يرى ماهر العبسي، ناشط حقوقي، في حديث لـ"خيوط"، أنّ عدم انخراط المهمشين بالتعليم سبب رئيسي لعدم توظيفهم بالوظائف العامة، فالمهمشون هم الأكثر تسربًا من التعليم حيث إنّ أغلبهم لم يكملوا المرحلة الإعدادية والثانوية، لذا فإن كثيرًا من أرباب العمل يتعاملون بعنصرية تجاه المهمشين ولديهم انطباع بأن هذه الفئة لا عمل لها سوى في النظافة والحراسة، في ظل عدم ثقتهم بخبراتهم كونهم لم يحصلوا على تعليم كافٍ ولم يندمجوا في المجتمع.
ويتابع: "إذا تعامل كلٌّ من الدولة والمجتمع والمحيط مع هذه الفئة بدون تهميش، فسيؤدي إلى رفع مستوى تفاعلهم بشكل كبير في التعليم، وقد يحصلون على الوظائف التي تحتاج إلى مستوى تعليمي معين ومهارات وخبرة".
ويؤكّد العبسي أنّ القانون لم يقصِ هذه الفئة من الوظائف العامة والحكومية، فهي متاحة للجميع، لكن بالنسبة للمهمشين تجدهم يفتقرون للخبرات الكافية والقدرات والشهادات الجامعية التي تؤهلهم لذلك.
الجدير بالذكر أنّ عدد المهمشين في اليمن يتراوح بين 153 ألفًا و3,5 ملايين نسمة، لكن دراسة صادرة عن (مركز صنعاء للدراسات) تقدر أعدادهم ما بين 427 و800 ألف نسمة؛ ما يعادل 1,4% إلى 2,6% من إجمالي سكان اليمن، وجميعهم منحصرون في أعمال ومهن ينبذها ويحتقرها المجتمع.