بين ولادة البطل الجمهوري محمد فيروز محمد في ذلقيان "صَبْل العِلبَه" بمنطقة ذبحان، بالقرب من مدينة التربة في العام 1942، وبين وفاته في سجن القلعة بصنعاء في 23 من مارس 1974، في ظروف غامضة بعد ست سنوات من اعتقاله على خلفية أحداث 23-24 أغسطس 1968 التي شهدتها صنعاء (ظهرت روايتان لوفاته سنتوقف عندهما لاحقًا،) ثمة سيرة لبطل مهمش، فرضتها طبيعة العلاقات الاجتماعية المتخلفة. تداخلت هذه السيرة بمحطات حيوية من تاريخ اليمن خلال ثلاثة عقود، أمكنني استخلاصها بالاستنتاج القابل هو الآخر للتصويب بواسطة الوقائع المثبتة والمتحقق من صحتها بواسطة قراء المقال المتيقنين من المعلومات.
مما توفر لدينا من معلومات -جمعت بالتتبع وقراءة ما نشر هنا وهناك- يمكن إعادة إنتاج صورة مقربة لسيرة البطل المغدور اللصيقة بثلاثة عقود وقليل من حياته.
في سنوات مراهقته الباكرة غادر القرية إلى عدن مع مجموعة من أقرانه من أبناء المنطقة، منهم "عبد الرقيب عبد الوهاب، وقاسم عبد الله عون المذحجي، ومحمد عبده على غانم،" والتاريخ الأقرب لهذه المغادرة هو منتصف الخمسينيات، حين كان عمره (13 عامًا.) وثلاثة من هذه الأسماء ستصير أسماء عسكرية بارزة في تاريخ سبتمبر والنظام الجمهوري.
من القرية إلى عدن
ولد الابن في الوقت الذي كان فيروز الأب يعمل في بيوت النعمان ومحيطها بقرية ذلقيان بذبحان في مطلع الاربعينيات. وذِكر أسرة النعمان هنا سيحيل إلى جملة من المعطيات خلاصتها الوجاهة الاجتماعية والتعليم والتأثير السياسي.. فمثلاً كان لم يزل عبد الوهاب نعمان حيًا ويعمل بوظيفة حكومية مرموقة في صنعاء، بعد إبعاده من موقع قائمقام الحجرية. أما الأستاذ أحمد محمد النعمان فقد كان ناظرَ معارف في تعز وقريب من ولي العهد (الإمام) لاحقًا، أما الشقيق الأكبر له فكان لم يزل ناظرَ جمارك في المنطقة الحدودية ( معبق.) صحيح أن مدرسة ذبحان، التي شكَّلت علامةً فارقةً في إدخال التعليم الحديث إلى المنطقة بواسطة الاستاذ محمد حيدرة، وتاليًا الأستاذ النعمان في أواسط ثلاثينيات القرن المنصرم، كانت قد أُغلقت بأوامر من الإمام يحيى، بعد تقرير ولده سيف الإسلام القاسم الذي زار المدرسة بعد تحريض من حاكم اللواء علي الوزير، قال فيه إن ما يُدرَّس بها يفسد أخلاق الطلاب. لكنها عادت إلى طبيعتها التقليدية في التعليم (معلامة/ كتاب،) والاحتمال الكبير أن فيروز الصغير قد تلقى فيها قسطاً من التعليم، وصار شغوفًا به.
في سنوات مراهقته الباكرة غادر القرية إلى عدن مع مجموعة من أقرانه من أبناء المنطقة، منهم "عبد الرقيب عبد الوهاب، وقاسم عبد الله عون المذحجي، ومحمد عبده على غانم،" والتاريخ الأقرب لهذه المغادرة هو منتصف الخمسينيات حين كان عمره (13 عامًا) وهو العمر المقارب لعمر رفيقيه (عبد الرقيب وعون وغانم،) وكل هذه الأسماء، باستثناء عون، ستصير أسماء عسكرية بارزة في تاريخ سبتمبر والنظام الجمهوري.
الأندية القروية والتعليم
في تلك الفترة كانت الأندية القروية بعدن في ذروة نشاطها الاجتماعي والثقافي، ومنها نادي الاتحاد الذبحاني، الذي كان حاضنةً اجتماعيةً لأبناء المنطقة اللائذين بعدن بحثًا عن فرص عمل أو تعليم. وفي الغالب أقام القادمون الصغار في النادي الذي وفر لهم فرص عمل في الدكاكين والمطاعم والمقاهي التي يمتلكها بعض أبناء المنطقة في التواهي، حيث كان مقر النادي، أو في مناطق عدن المختلفة. وإلى جانب هذه الاعمال كان يوفر لهم أيضًا منحًا دراسيةً داخليةً في المدارس الأهلية، وللخريجين منهم منحًا دراسيةً للدراسة في الخارج (القاهرة ودمشق وبغداد.)
ترد في سيرة فيروز في نشرة حزب الطليعة (صوت حزب الطليعة الشعبية في الجمهورية العربية اليمنية،) العدد الأول/ الثاني/ الثالث، السنة الثالثة 1977، وبمناسبة الذكرى الثالثة لوفاته- كما نشرها في صفحته الموثق فوزي العريقي- أنه "تلقى تعليمه الأولي في عدن في حي الثورة (القلوعة سابقا.)" هذه المعلومة تحتوي نوعين متقاطعين من التفسير: الأول أن تلقيه للتعليم في القلوعة إن صح سيكون تعليمًا غير نظامي (دينيًا تقليديًا) في معلامة/ كتاب، فلم تكن في القلوعة وقتها مدرسة حكومية حسب إفادة السفير الشطفة "أبو عبد الله،" وإن وجدت فإنها كانت لن تقبل أيًا من المولودين خارج عدن، ولم تكن فيها أيضًا مدرسة أهلية يمكنه الالتحاق بها مثل بقية المدارس في المناطق الأخرى (المدرسة الأهلية ومدرسة "بنجامين إسلام" في منطقة التواهي وبالقرب من النادي الذبحاني، اللتان تقبلان الطلاب القادمين من الأرياف.)
التفسير الثاني يتقاطع مع المعلومة الواردة في نشرة "الطليعة،" لكون الكثير من الروايات تقول إنه تلقى تعليمًا نظاميًا بسيطًا إلى جانب تنقله بين أعمال متعددة تنتمي لمهن متواضعة مختلفة، وهذا يعني أنه درس في إحدى هاتين المدرستين، وفي الغالب في المدرسة الأهلية.
والأمران لا يغيران من حقيقة واحدة، هي أن محمد فيروز كان شغوفًا بالمعرفة، لأنها الوسيلة المثلى التي بواسطتها كان يستطيع تجاوز وضعه الطبقي والتمييزي الذي كرَّسه المجتمع، ووضعه في خانة التهميش الاجتماعي والثقافي.
الرفاق الثلاثة انضموا إلى سلاح الصاعقة، وبعد أشهر قليلة أوفدوا إلى مصر مع متدربين آخرين لحضور دورات صاعقة متقدمة، وعادو بعدها برتب عسكرية (ملازم ثان،) وبخبرات نظرية وميدانية مهمة. كان شغف فيروز كبيرًا في التعلم، واستطاع التدرج في المواقع القيادية حتى وصل مع العام 1967 إلى واحد من كبار المعلمين فيها.
حماس جنود السلال
مع انفجار ثورة السادس والعشرين من سبتمبر تبدل الحال في مدينة عدن، ويصف هذا المشهد د. محمد علي مقبل في كتابه ( الماضي المقلق من العمر) بقوله:
"انقلب كل شيء رأسًا على عقب في أرجاء عدن. كان المواطنون في المطاعم والمحلات التجارية يتحلقون حول أجهزة الراديو يستمعون إلى إذاعة صنعاء ... يستمعون إلى البيانات الأولى للقيادة العامة للجيش تدعو جماهير الشعب اليمني في كل مكان إلى مؤازرة الثورة، والدفاع عنها، وتدعو الشباب للالتحاق بالحرس الوطني وجيش الثورة. فاضت شوارع عدن بالمسيرات الجماهيرية تعلن تأييدها للثورة، وتهتف للجمهورية والحرية وانتصار إرادة الشعب على الظلم والاستبداد والعبودية، وترفع أعلام الجمهورية وصور المشير عبد الله السلال والزعيم جمال عبد الناصر."
كان فيروز ورفاقه (عبد الرقيب وعون وغانم) ضمن الطلائع الأولى التي جهزها نادي الاتحاد الذبحاني، مثله مثل بقية الأندية. بوابير النقل التقليدية مثل إنترناشيونال (الإنتر ناش) منذ أيام الثورة الأولى كانت تقوم بنقل المتطوعين من مقرات الأندية المختلفة إلى مدينة تعز، وكان يُشاهد الكثير منهم يتزاحمون في أحواضها الخلفية، وفي كبائنها الأمامية، وفوق زوائدها الحديدية (الشبوك) وهم يحملون أعلام الجمهورية الوليدة وتصدح حناجرهم بالعبارة الأشهر وقتها (نحن جنودك يا سلال) وفي تعز كانوا ينزلون في معسكر تدريبي في منطقة عصيفرة لأيام معدودة يتلقون فيها تدريبات أولية على استخدام الأسلحة، ثم يتم نقلهم إلى صنعاء على بوابير الجيش مع مرشدين عسكريين.
كانوا بعد يومين من السفر الشاق يصلون إلى معسكر العرضي بباب اليمن، مثلهم مثل القادمين من مناطق يمنية مختلفة. ومن معسكر العرضي كانوا يُوزعون على الحملات العسكرية التي تنطلق لتحرير المناطق المحيطة بصنعاء من القوات الملكية، وكان فيروز ورفاقه من أكثر الجنود حماسًاً للانتصار للثورة التي حملت كل البشائر العظيمة لإخراج اليمنيين من ظلمات القرون، ولهذا خاضوا المعرك ببسالة نادرة.
بعد أن استكملت وزارة الحربية اليمنية، وبمساعدة من الخبراء العسكريين المصريين، تشكيل وحدات الجيش اليمني الحديث (الصاعقة، والمظلات، والمشاة، والمدرعات، والمدفعية، والإشارة، وغيرها،) تم توزيع منتسبي الحرس الوطني عليها قبل أن يُحَل الحرس الوطني مسمى وأفرادًا. الرفاق الثلاثة (عبد الرقيب وفيروز وغانم) انضموا إلى سلاح الصاعقة، وبعد أشهر قليلة أوفدوا إلى مصر مع متدربين آخرين لحضور دورات صاعقة متقدمة، وعادوا بعدها برتب عسكرية (ملازم ثان،) وبخبرات نظرية وميدانية مهمة. كان شغف فيروز كبيرًا في التعلم، واستطاع التدرج في المواقع القيادية حتى وصل مع العام 1967 إلى واحد من كبار المعلمين فيها، وتدرج برتبه العسكرية حتى صار نقيبًا مثله مثل عبد الرقيب وغانم.
اختبار الصاعقة الكبير
لم تختبر وحدة الصاعقة عسكريًا إلا مع حصار صنعاء، عندما أبلت بلاءً كبيرًا في الانتصار حتى صارت عنوانًا بارزًا لهذا الانتصار، فاختير قائدها عبد الرقيب عبد الوهاب بالإجماع من قِبَل قادة الأسلحة والوحدات الذين صمدوا في المدينة المحاصرة رئيسًاً لهيئة الأركان العامة، وهو الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، بعد أن هرب كبار القادة العسكرين الذين ظنوا أن صنعاء على وشْك السقوط بيد القوات الملكية التي أطبقت عليها الحصار من جميع الجهات. الكثير من قصص وحكايات الحصار رويت ومنها قصة فيروز الشهيرة التي تقول:
أثناء تلقي العمليات إشارة من الملازم عبده قاسم أحمد، بطلب الإمداد، كلف الشهيد عبد الرقيب عبدالوهاب كلاً من محمد فيروز وإبراهيم الحاج، وشخصًا ثالثًا، من أفراد الصاعقة، بالتحرك الى الموقع، وتم التحرك بسيارة رنج روفر (حبه ونصف،) كان يقودها فيروز، حوالي الساعة السابعة مساءً، وفي الطريق أثناء توجههم باتجاه الموقع، تعرضوا لهجوم من قبَل كمين تابع للملكية، بالقرب من منزل هادي عيسى، حيث تم استهداف السيارة بثلاث قذائف (بازوكة،) ما أدى إلى توقفهم، وإطفاء النور، ومن ثم الانتشار حول السيارة، وأخذ مواقعهم الدفاعية. وظلوا في حالة استعداد للمواجهة لمدة ما يقارب نصف الساعة، ولم تكن هناك أي إصابات، وعندما تبين لهم أن الضرب تم من أماكن بعيدة، واصلوا التحرك بالسيارة إلى موقع الصاعقة المتمركز في التبة الواقعة خلف جبل نقم، والتي تطل على دار الحيد اتجاه بني حشيش، وكان الموقع بقيادة الملازم أول عبده قاسم، فتم إنزال الإمداد الذي كان بالسيارة، وتم معرفة الاحتياجات المطلوبة، وعادوا بنفس الليله ومن نفس الطريق. وفي صباح اليوم التالي أذيع عبر إذاعة الملكية خبر مقتل اللواء فيروز ومرافقيه، بكمين محكم نصبه لهم الجيش الملكي، وتم تدمير السيارة والقضاء على كل من فيها. فنادى الشهيد عبد الرقيب عبد الوهاب الملازم فيروز مداعبًا: "يا فيروز، مبروك الملكية قد رقتك الى لواء."
تم اعتقاله فور وصوله إلى معسكر قوات الصاعقة، وزُج به في السجن الحربي لمدة عام، تعرض خلالها للتعذيب الشديد، ثم نقل إلى سجن القلعة حتى وفاته في 23 مارس 1974، رغم أن القضاء العسكري كان قد برأه في وقت سابق من وفاته من التهم التي نسبت إليه بضلوعه في أحداث أغسطس.
أفضت مرحلة ما بعد فك الحصار عن صنعاء عن احتقان شديد في الصف الجمهوري، وأفضى هذا الاحتقان إلى انفجار أحداث أغسطس، التي سبق وتناولتها في أكثر من زاوية، وترتب عليها إزاحة وتصفية الكثير من قادة القوات الجمهورية الشابة التي استماتت في الدفاع عن صنعاء، وكسر شوكة القوات الملكية المدعومة بالمال والأسلحة السعودية، ومن ورائها الغرب الاستعماري والمشرق الاستبدادي ومرتزقته.
من المصادفات أن فيروز لم يكن وقتها في صنعاء، وكان بقريته يؤدي واجبًا اجتماعيًا فرضته طبيعة العلاقات الأسرية، وهو الزواج من أرملة أخيه أحمد الذي توفي، حتى يرعى أطفاله. لم يبق مع عروسه غير يومين-بحسب قول نسيم علي فيروز، ابنة شقيقه لكاتب المقال- وعاد إلى صنعاء. ومعلومة وجوده بقريته أثناء الأحداث، تثبتها أيضًا نشرة الطليعة.
تم اعتقاله فور وصوله إلى معسكر قوات الصاعقة، وزُج به في السجن الحربي لمدة عام، تعرض خلالها للتعذيب الشديد، ثم نُقل إلى سجن القلعة حتى وفاته في 23 مارس 1974، رغم أن القضاء العسكري كان قد برأه في وقت سابق من وفاته من التهم التي نُسبت إليه بضلوعه في أحداث أغسطس.
تسمم أم فشل كلوي
هناك روايتان لوفاته بعمر الثانية والثلاثين. تقول الأولى، وهي الأكثر شيوعًا وتداولاً، إنه تعرض للتسمم في السجن، بسبب نشاطه وتأثيره في المساجين. والرواية الثانية توردها نشرة الطليعة هكذا: "استشهد على إثر مرض بالکُلی، وقد ظل يقاوم هذا المرض قرابة ثلاثة أعوام."
لم ينتم فيروز سياسيا، مثل رفيقه عبد الرقيب عبد الوهاب، إلى أي حزب ناشط، حسب الكثير من الروايات. وبقي وفيًا لمهنته العسكرية شأنه شأن رفيقه، وإن كانت ميولهما قومية ولحركة القوميين العرب. لكن هناك من يذهب إلى القول بانتمائه لحزب البعث، وإنه كان لاحقًا جزءًا من تحول كثير من أعضائه إلى الحالة الماركسية، مؤطرين في "حزب الطليعة الشعبية اليمنية." فقد أوردت النشرة في سيرته "كان له شرف الانضمام إلى الحزب في أوائل 1972،" وأنه كان "مثالاً عظيمًا للمناضل الحزبي فكرًا وعملاً."