كتيب "محمد علي باشا.. باني نهضة مصر" صغير حجمًا، كبير دلالة ومعنى. إنه كتاب الأستاذ الجليل عبدالله محمد إسحاق، وهو مفكر اقتصادي وسياسي، له العديد من الكتب والإصدارات المنيرة والمستنيرة.
الكتيب قراءة وتوثيق لأخطر وأهم مرحلة في التاريخ العربي، وفي أهم مركز من مراكز الحضارة والنهضة العربية؛ مصر، ولواحد من أهم مؤسسيها وبُناتها؛ محمد علي باشا، إلى جانب حفيده الخديوي إسماعيل.
يقع الكتيب في 125 صفحة قطع صغير. يتناول فيه الباحث الاقتصادي والسياسي، دور محمد علي باشا في نهضة مصر 1805- 1848. يتناول شخصية محمد علي باشا ذي الأصل الألباني، وذكاءه وحذره، ومكره وفطنته الباكرة، واهتمامه بالتفوق والنجاح. ويدرس وضع مصر منذ الوجود التركي، والتنافس الفرنسي- البريطاني، ودور محمد علي البطولي في مقارعة الإنجليز في غير موقع، والأسلوب شديد الدهاء في التعامل مع العثمانيين، والمماليك، والأرناؤط، والعلماء والمشايخ، ومدى إعجابه وتأثره بالفرنسيين والنهضة الفرنسية.
يذكر محمد علي أنه عندما جاء إلى مصر لم يكن بها أكثر من مئتي شخص يعرفون القراءة والكتابة، باستثناء الكتبة، وأنه لم يكن بها شخص واحد يصلح لأن يكون سكرتيرًا له، وفي هذه المقولة ثناء عاطر على النفس، وتعظيم لها، وتهوين من شأن مصر التي كانت تمتلك مقومات النهضة التي قادها باقتدار، ذكاؤه وانفتاحه على العصر الأوروبي والفرنسي بخاصة، ومكّنه من الاطلاع على أسرار النهضة، وعوامل غرسها في تربة مصر ذات الخصوبة والقابلية الشديدة. [القارئ]
يشير الباحث عبدالله إسحاق أن محمد علي لم يبتكر نظام الحكومة المركزية، إنما استمده من الحكومات المستبدة المستنيرة في أوروبا. أخذ بمبدأ الاكتفاء الذاتي، وبأن يصدّر أكثر مما يستورد، وتحولت مصر في عهده إلى مزرعة كبيرة.
وحقًا، لم يحتكر محمد علي فقط، العنف والقوة- أخص خصائص الدولة، والتي كانت موزعة بين المماليك والأرناؤط والمشايخ وأتباع الدولة العثمانية، وإنما احتكر أيضًا الزراعة وتملّك الأرض، وهيمن على التجارة والصناعة والثروة ومصادرة القوة كلها. [القارئ].
اهتم بضبط الموارد ومصادر المياه، وأنشأ القناطر الخيرية، واستورد البذور، والكوادر والخبرات الزراعية والصناعية، وتوسع في الرقعة الزراعية معتمدًا في البداية على السخرة، وتجييش الفلاحين للزراعة، والعمال للحرف والصناعة. ويشير الباحث إلى انفتاح الباشا على احترام القيم والتقاليد والعادات المصرية؛ فلم يعادِ عقيدة من العقائد، كما لم يضع قيودًا على ممارسة أهل المِلل والنِّحل لعباداتهم وطقوسهم بكل حرية.
كانت قوة الدولة المركزية التي بناها محمد علي باشا تتجلى في العصرنة والتحديث، وبناء التعليم الحديث، والصناعة المزدهرة، والتوسع في الرقعة الزراعية، وكان البناء العسكري وبناء الجيش الحديث جزءًا من حداثة الدولة
يربط الباحث محقًا بين الحملة الفرنسية، وبدء النهضة التي قادها محمد علي باشا، ثم يتناول التعليم. فقد أنشأ الباشا المدراس الابتدائية وصولاً للتعليم العالي، واهتم بإيفاد البعثات وبالهندسة والتطبيب والألسن والترجمة، وبدأ التعليم محدودًا لبعض السيدات، واهتم بالتنقيب على آثار مصر، وسمح للآثاريين والمنقبين، وتمكن شامبليون من اكتشاف حجر رشيد، واكتشاف رموز الهيروغليفية، وبرز الاهتمام بكنوز مصر الفرعونية، وتوالت البعثات إلى إيطاليا وفرنسا وإلى أمريكا والأرجنتين، وتأسست "المطبعة الأميرية" في بولاق عام 1820، وكان محتفيًا بالحضور في الصحافة الأوروبية، وكان بناء القوة العسكرية أساس في تفكير الباشا وأبنائه أيضًا، مستعينًا بالخبرة الفرنسية؛ فأنشأ المدرسة الحربية. لقد كان بناء الجيش أولوية لديه، وعانى كثيرًا في تجنيد الفلاح المصري، وفي إرسال هذا الجيش إلى السودان، وإلى الحجاز ونجد واليمن، وفيما بعد إلى بلاد الشام واليونان، وصولاً إلى احتلال مناطق شاسعة من تركيا- دار الخلافة العثمانية.
كانت قوة الدولة المركزية التي بناها الباشا تتجلى في العصرنة والتحديث، وبناء التعليم الحديث، والصناعة المزدهرة، والتوسع في الرقعة الزراعية، وكان البناء العسكري وبناء الجيش الحديث جزءًا من حداثة دولة محمد علي باشا، ولكن التوسع العسكري ومحاولة الإطاحة بالرجل المريض دفع بالدول الأوروبية: بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، للتحالف مع تركيا، وتظافرت مع هذه القوى الدولية حينها الأوبئة الفتاكة- الكوليرا- في تهديم قوة الباشا، وانكسار التوسع الحربي. والواقع أن العسكرة والحملات العسكرية، سواءً لصالح العثمانية أو ضدها، كانت مقتل المشروع الحضاري والحداثي الذي قاده باقتدار محمد علي باشا. ويجيء دور خلَفه وحفيده إسماعيل؛ فإسماعيل كان همه واتجاهه الأساس التمدن والتحضر، واللحاق بالعصر، وبفرنسا تحديدًا. كان تأثر إسماعيل باشا بفرنسا كبيرًا؛ فقد ترك نهج أسلافه، ورأى أن الاقتصاد والإدارة هما أساس النجاح. في عام 1863، تولى عرش مصر، وكان سكان القاهرة حينها 270 ألفًا، والشوارع ضيقة، والنيل يغمر جلّ أحياء القاهرة، ويحوّل حوافيها إلى مستنقعات، فاتجه كليةً للبناء والتعمير، وتحديث المدينة والسياسة والإدارة والزراعة والاقتصاد والمعالم الحضارية والعمرانية: الأورمان، والأوبرا، وبناء المدينة الحديثة، وتوسيع شوارعها، وإنشاء سكك الحديد، وتحديث الزراعة، وفتح قناة السويس، وإنشاء المسرح، وإنشاء الأحياء الجديدة، والإصلاح الإداري.
وفي العام 1870، أصدر إسماعيل أوامره- كما يشير الباحث- إلى تعميم استخدام اللغة العربية في كافة المصالح والدواوين، واحتفى بالإصلاح الاجتماعي، وإعلاء قيم الحداثة والعصرنة، وتأسيس الإدارات الحديثة، والمجلس البلدي، وإنشاء القناطر الخيرية، والتِّرع، والجسور، والموانئ والفنارات، وصولاً بها إلى البحر الأحمر في مختلف المناطق.
ما بين عام 1862- 1879، صدر ما يقرب من 40 صحيفة منها 23 باللغة العربية، واجتذبت مصر الأدباء والمفكرين والصحفيين الشوام الفارين من بطش العثمانية وتخلفها، كسليم وبشارة تقلا، مؤسسا صحيفة الأهرام.
ويشير الباحث إلى اهتمام الخديوي إسماعيل بتجديد الأسطول البحري، وإصلاح ميناء الإسكندرية، واهتم بالعلاقة العسكرية مع ألمانيا بعد هزيمة صديقته فرنسا، وقاتل مرغمًا في البلقان، استجابةً للدولة العثمانية، وحارب تجارة الرقيق في أفريقيا، مجاراة لاتجاه إبراهام لنكولن. وفي عهده تورطت مصر في الحرب ضد الحبشة 1875- 1876، وكان ضم السودان في عهده، وأنشئت في عهده المحاكم المختلطة ضدًا على تفرد الامتيازات الأجنبية والقضاء القنصلي. وكان الإنجاز الحقيقي لعهده إعادة المدارس الابتدائية التي أغلقت في آخر عهد محمد علي باشا، وجرى بفضل علي مبارك تقسيم التعليم إلى المستويات الثلاث، وتحويل الكتاتيب إلى مدارس تتفوق على تركيا وروسيا، وتقترب من إيطاليا، واهتم بالتخصصات العليا، وبتعليم المرأة، والتعليم في المجالات المهنية المختلفة، واشتهر في تلك الفترة أدباء كبار ومفكرون وعلماء، وكان الملمح الأهم انتشار الصحافة وازدهارها، وظهرت الصحافة المعارضة: أبو نظارة يعقوب صنوع، الذي أُبعد من مصر، فأصدر الصحيفة من باريس باللغة العربية، وكانت تُوزع وتباع في مصر بالآلاف.
ويشير الباحث إلى أنه ما بين عام 1862- 1879، صدر ما يقرب من أربعين صحيفة منها ثلاثة وعشرون صحيفة باللغة العربية، واجتذبت مصر الأدباء والمفكرين والصحفيين الشوام الفارين من بطش العثمانية وتخلفها، كسليم وبشارة تقلا، مؤسسا الأهرام 1875، كأول صحيفة سياسية في مصر. وجاء سليم نقاش وأديب إسحاق، وفي تلك الفترة شهدت مصر حضور الداعية جمال الدين الأفغاني الذي أخرج "مصر الفتاة"، رافعةً شعارات الثورة الفرنسية: الحرية، الإخاء، المساواة، كما أصدر المجدد الإسلامي جمال الدين الأفغاني "العروة الوثقى"، وأصدر جورجي زيدان "الهلال"، و"المصور"، وأصدرت لاحقًا فاطمة اليوسف المجلة "روز اليوسف"، ولعب الشوام دورًا رائعًا في الصحافة والمسرح والفنون الأدبية والشعبية والفكر. [القارئ].
وفي هذا السياق تحسن وتطور وضع "الوقائع المصرية"، وأصدر إسماعيل جريدة "وادي النيل" في مواجهة "الجوائب" التي كان يصدرها فارس الشدياق في تركيا، وفي العام 1870، أسس دار الكتب، ونشطت حركة الأدب والترجمة والشعر والغناء، وجرى إحياء المطبعة الأميرية.
ويشير الباحث إلى تأسيس الشورى، والحياة النيابية. والحقيقة، إذا كانت العسكرة والغزوات والطموح اللامحدود قد أطاح بإمبراطورية محمد علي، فإن الترف- حد البذخ، والإنفاق- حد السرف، قد أغرق مصر في الديون، ودفع بإسماعيل إلى بيع أسهم القنال للإنجليز، وسلم مصر كلها للاستعمار البريطاني بسبب الديوان الخرافية، وفي نهاية المطاف يجد نفسه منفيًا خارج مصر.
الباحث عبدالله إسحاق يدرس عهد محمد علي باشا بتمعن وعمق، كما يدرس عهد الرخاء والتحديث والبناء في عهد حفيده إسماعيل، وانكسار العهدين المهمين في التاريخ المصري الحديث والعربي بصورة عامة.