‍1- الرعدي.. البساطة في الإنسان‍

من خلال معرفتي به ومتابعتي لسيرة حياته، وتحديدًا ما خطّه يراعه من أفكار ورؤى وكتابات، جميعها أكّدت حضور روح المثقف على مستوى رفيع في داخله، حتى فعله السياسي (نشاطه)، من بداية علاقته المبكرة بالشاعر، محمد محمود الزبيري، بدرجة أساسية وتأثّره الواضح به، وبالأستاذ/ أحمد محمد نعمان، بعد ذلك، أقصد نشاطه السياسي وهو طالب في قلب فعل "حركة الأحرار" (الاتحاد اليمني في القاهرة)، حتى نشاطه السياسي المحدود بعد الثورة، إلى حنكته الإدارية في المواقع المختلفة التي تسنّمها، أستطيع القول إنّ الغالب على تكوينه الذاتي هو صورة المثقف (الباحث) الأصيل عن المعرفة، إلى جانب دوره المتميز كإداري مقتدر، جمع بين الصرامة والمرونة. وتقديري أنّ الممارسة السياسية، هي أضعف حلقة فيه، لأنّ الشأن السياسي في مجتمع وواقع سياسي متخلف، ومصطرع مع بعضه، وما يزال يمارس السياسة بعقلية وأدوات تقليدية، وعنيفة، وفي واقع مثل اليمن الخارج من قمقم الإمامة وفي ظروف ما بعد الثورة والعدوان المسلح على الثورة والجمهورية (الحرب)، حيث السياسة وممارستها كانت تحتاج إلى مهارات أخرى لا يمتلكها رجل يمتاز بصفات ذاتية قيمية لا تقبل بأقل من الطهارة في الفعل السياسي (الممارسة)، إضافة إلى كلّ ذلك طبيعته السلمية والمسالمة غير الميّالة للعنف والأكثر اقترابًا إلى لغة الحوار والسلام، ولذلك وجد نفسه يخوض في غمار مواقف سياسية صعبة لا تشبهه باسم "السلام"، إلى حضور مؤتمر "الطائف"، في السعودية عام 1965م، هو حقًّا رجل نبالة وسلام، ولكن تحرك في ذلك باتجاه شروط غير مواتية كليًّا مع قضية السلام.

الأستاذ محمد الرعدي واحدٌ من أجمل وأنبل رموز طلبة "بعثة الأربعين"، الذين صار معظمهم من مؤسِّسي الدولة الجديدة والحديثة، بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م؛ الطلبة الذين توزّعوا بين الهمّ التعليمي والثقافي والسياسي والإداري، وكان الأستاذ الرعدي من القلائل الذين جمعوا بجدارة، بين صورة المثقف والإداري رجل الدولة.

محمد الرعدي الأستاذ والمناضل، يذكّرك بفكره وبسلوكه الحياتي اليومي بصورة المثقف الذي يحمل راية القول تمهيدًا للفعل، يفكّر كثيرًا قبل أن يتكلم، ويتأنّى طويلًا وهو يكتب. هذا ما سمعته منه، للكلمة مكانة رفيعة ومقدسة في عقله، ومن هنا مصدر المسؤولية الثقافية الأخلاقية التي تسيطر عليه وهو يكتب، ولذلك هو قليل الكتابة، والكلام، وقد يكون أميل للصمت، حين يكون الكلام بلا معنى.

يعطي بلا حدود دون إعلام، لا يحبّ الإعلان عن اسمه ودوره، ومن هنا عزوفه عن مظاهر النجومية الإعلامية التي يتوحّد بها البعض، ولذلك يؤكّد في الفكر وفي السلوك كراهته للأضواء، وحبّه للعيش بسيطًا. هكذا كتب مرة، وهكذا كان فعلًا.

فمعَ أنّه اسم علَمٍ فكري وثقافي وسياسي ووطني كبير بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهو غير ظاهر في صفحة الإعلانات السياسية؛ لأنّه ليس من هواة النجومية الإعلامية، وهو الصديق والزميل الشخصي المباشر لعشرات الأسماء القيادية العليا: محسن العيني، حسن مكي، عبدالله الكرشمي، يحيى حمود جغمان ...إلخ، ومع ذلك فظلّه الذاتيّ أكثر حضورًا وامتدادًا من قامات العديد من هواة النجومية الإعلامية.

بسيطٌ في تعامله مع قضايا الحياة، واحتياجاته الخاصة بسيطة جدًّا؛ ولذلك لا يتقبل أن تفرض عليه شروط وقيود لا يحبّها أو لا تعجبه ولا تمثله، وتحدّ من حريته ومن إرادة فعل الذات في داخله.

كان نظيف اليد، طاهر الروح؛ ولذلك بقيَ بعيدًا عن الأضواء كما أراد وأحب، ولم يسعَ أبدًا إلى المناصب، بل هي مَن تأتي إليه. كان بحقّ نجمًا في سماء القيم الوطنية العليا، نجمًا لا تشاهده سوى مُحلّقًا في سماء المعنى والقيمة حيث يجب أن يكون.

غابت نجومية السلطة والمال مع الكثيرين من دفعته ومن مجايليه ومن تلامذته، وبقي هو حياةً خالدة في سماء القيمة والمعنى.

 ذلكم هو محمد بن أحمد الرعدي الإنسان في البساطة والخلود في الفكرة والقيمة والمعنى.

 إنّ العلاقة بين الثقافي والسياسي في تفكيره وسلوكه الحياتي، يأتي ليدعم مكانة وموقع المثقف (الثقافي)، على حساب السياسي، وهو بهذا المعنى يذكرنا بالزبيري الشاعر، الذي تغلب عليه صورة المثقف، والصوفي المتوحد بذات الطهارة والقيم المثالية، حيثُ روحيةُ المثقف والصوفي تطغيان على صورة السياسي المحنك، والمناور الغامض، والأستاذ محمد الرعدي فيه الكثير من روحية الصوفي الحياتية، والثقافية، وتستطيع أن تلمس ذلك من لقاء وحوار عابر معه.

زرته قبل أكثر من ثلاثة عقود إلى منزله بصحبة الصديق الشاعر/ إسماعيل الوريث (رحمه الله)، كما زرته حين كان نائبًا لرئيس "مركز الدراسات والبحوث اليمني"، في مكتبه، دون سابق معرفة شخصية، ووجدته بسيطًا، وجه سموح، يستقبلك ببشاشته وكأنه يعرفك من زمن، وعلى بساطته، وقلة كلامه، وأناقة شكله ودفء روحه، على أنّك تشعر بهيبته وجلال مكانة الإنسان الكبير فيه؛ والأجمل أنّه يبادرك بالحديث ليكسر حاجز صمت قلة المعرفة، فقط ليؤكّد لك أنّه يعرفك. انطباعي من أول زيارة له أنني أمام مثقف كبير، وإداري منضبط في عمله ومتسامح، يجد الأعذار لمن حوله، دون أن ينسى تذكيرك في أنك أخطأت، وذلك من خلال سلوك الإداري العصري (المدني)، الذي يجمع بين دقة العمل، وبين الصرامة والمرونة. إنّ أهمّ صفة تراها وتقابلها مع أول مواجهة شخصية لك به، هي مدنيّته، وأناقة الرجل الحديث (المدني) العصري؛ ففي سلوكه اليومي مدنية ظاهرة تعلن عن نفسها، دون ادّعاء ولا تنطُّع، وفي عقله وروحه كراهة للمذهبية والطائفية، سلوكه المدني الحضاري يقول لك دون أن ينبس بكلمة إنّه ضدّ العصبية والعنف والتطرّف، ومن هنا خطابه وتحرّكه نحو السلام، ومن هنا كذلك محبّة كلّ من عرفه وقلة عداواته، حتى من اختلفوا معه في بعض تفاصيل رحلته السياسية، لم يحتفظوا له في نفوسهم بشيء من العداوة الشخصية، لأنّهم يعرفون صدقه في كل ما يقول وما يفعل، كما أنّ سلوكه الحياتي العام يفرض عليك مناخًا من الألفة والمحبّة الغامرة، تجعلك لا ترى ضرورة لاستمرار الاختلاف معه.

هو بحق رجل مدني، من أبناء صنعاء المسالمة، المتضررة تاريخيًّا من عنف "القُبَل الخَمسَ"، ولذلك كان للحوار والسلام معنى عميق في وجدانه وتفكيره وفي سلوكه الحياتي؛ ولذلك وجد في الشاعر محمد محمود الزبيري قدوته وصورته، ولكن على مستوى الوعي والفكر الأكثر مدنية وحداثة واشتباكًا بقضايا الحياة المعاصرة، أي الفكر المتحرر كلية من العصبية، ومن المذهبية ومن القبَلية. وإذا عرفنا أنّ القائد والشهيد/ محيي الدين العنسي، هو خاله، هنا تكتمل الصورة الذاتية لمعنى اسمه وهُويته: بيئة ذاتية مشجِّعة ومحفزِّة على المقاومة والسلام معًا. وحين أدرك أنّ السلام الذي آمن به، وحلم به، وسعى إليه ليس هو المطلوب لذاته، بل لفرض خيار الاستسلام، وخيانة الثورة والجمهورية، أعلن انسحابه بالتدريج وبهدوء وبدون إعلان عن ذلك "السلام" الذي لم يكن سوى عنوانٍ للاستسلام، وهو ما كان في موقفه لاحقًا من مؤتمر الطائف 1965م، وهي شجاعة رجل السلام الحقيقي، وليس ممّن يستثمرون شعار "السلام"، في كل المناسبات، وبدون مناسبة، لمآرب خاصة لا صلة لها بقضية السلام الاجتماعي والوطني. ذلكم هو الأستاذ/ محمد الرعدي، المثقف والمناضل الديمقراطي.

خروجه صغيرًا (مراهقًا)، من كهف القرون الوسطى وزيارته لأرقى مدن الدنيا (لبنان، مصر، سوريا، فرنسا، بريطانيا)، ودراسته وعمله الدبلوماسي ونضاله الفكري والثقافي والاجتماعي، في كل تلك المراحل والمواقع، شكّلت وصنعت منه وفيه تلك التوليفة الفكرية والثقافية والمدنية المُحِبّة للآخر، والبعيدة عن العنف والعصبية بمختلف مسمياتها، وحتى دينه الحياتي، حين قرّر الزواج اقترن بامرأة لبنانية من أسرة كريمة وعاش معها العمر كله، مع بناته الثلاث، وهنا اكتملت مدنية ابن صنعاء بالمدنية اللبنانية. كان ذلك هو اختيار تحكّمَ به عقل الحب، كما تحكم به العقل المدني المتحرر في داخله من رواسب الماضي المتخلف.

2- الرعدي المثقف والمفكر

عوّدَ نفسه على الهروب من متاعب السياسة والسلطة، إلى حضن المعرفة الواسعة (الفكر والثقافة)، وهو ما يقوله في مقدمته لترجمته لكتاب "من كوبنهاجن إلى صنعاء"، تأليف توركيل هانسن، والذي بدأ في ترجمته عن الإنجليزية في العام 1966م، وانتهى منه في العام 1968م.

واضح أنّ اقترابه وصلته العميقة بالزبيري، والنعمان بعد ذلك، فضلًا عن صداقته الحميمية برفيق بعثته الدراسية محسن العيني، قد ترك أثره في منطق تفكيره، حتى تطابُقه معهم في الشكل العام من قضية الرؤية للسلام، التي تعلّقوا بها بروحية وعقلية الثائر الرومانسي الحالم بالسلام بكل عفوية الصدق الذي في داخله/ داخلهم.

إنّ أول اتصال وتواصل له مع الحداثة والتحديث كان مع وصوله ومعايشته لأنوار المدنية في عدن، ومنها إلى الفضاء الأرحب لأنوار الحرية في لبنان، وأنوار التحرر القومي الثوري في مصر، حتى انتقاله إلى "مدينة النور"، باريس، وإلى بريطانيا.

وفي طريق كل هذه الرحلة، كان فكره يتبلور وعقله المدني الحرّ يتشكّل، ومن هنا بداية تبلور سؤال التحرر والنهضة في عقله بالتدريج، حتى وصوله إلى بداية الستينيات من القرن الماضي. ولأنّ النهضة تبدأ بالمعرفة بمعناها الواسع والعميق، معرفة الفكرة، ومعرفة الآخر والقبول به، ولكنها –النهضة- لا تكمل إلا بسؤال نقد الذات، وهو الجانب الأضعف في سلوكنا وفي رؤيتنا جميعًا– كعرب ومسلمين. لقد استغرق المشهد السياسي الصراعي في ستينيات القرن الماضي، الجميع بدرجات متفاوتة، حتى وجد الجميع أنفسهم في غمرة صراع لا تبدو نهاية طيبة له.

تقديري الشخصي، وقد أكون مخطئًا، أنّ الانقسام في قلب الصف الجمهوري، وانحيازه كليًّا مع طرف بقايا الأحرار، ومع الشيخ القبلي (المؤتمرات القبلية المعارضة الأولى)، قد أبعده عن الانكباب على الهمّ المعرفي والفكري والثقافي –ولو قليلًا- الهمّ المعرفي الذي وجد نفسه فيه مع ترجمته الكتاب، كتاب حاول ترجمته بلغة رصينة وعميقة، جعلت قراءة الكتاب سهلة، ومُحبّبة، ترجمة بدأها وانغمس فيها من بداية النصف الثاني من الستينيات، مع العام 1966م إلى 1968م، والذي قد يكشف بداية لحظة هروب من السياسة، إلى المعرفة والفكر والتاريخ، وإلى التعاطي مع الأسئلة الكبيرة، ولو من خلال خطاب عام لا ينتظمه نسق فكري واضح ومنظم، ولكنه يكشف عن بداية اهتمامات معرفية/ فكرية جدية، بأسئلة معرفية ووجودية وحياتية، حول النهضة على سبيل المثال. فهو يعرف النهضة كما رآها وتكونت لديه، بالتالي: "والنهضة ما هي إلّا تنمية إمكانات البلاد وإصلاحٌ لظروفها، ومحاربة لأوجه السوء في هذه الطروف، وتقوية لأوجه القوة والخير فيها. وليس في استطاعة غيرنا من الشعوب، أن تستورد نهضتنا من الخارج، كما نستورد البضائع، وإلا لكان الأمر سهلًا. 

والنهضة التي نطلبها -كما يقول- ليست مجرد نقل لبعض وسائل المعيشة المادية الحديثة، إنّها بناء كامل للإنسان اليمنيّ من كلّ الوجوه.

إنّ مهمّة الطليعة اليمنية في هذه المرحلة هي أن تعمل بكل جهدها، لتقديم الدراسات العلمية عن واقع بلادها، ومن هذا الواقع عليها أن تحدّد أهدافًا وخططًا علمية لبناء نهضة اليمن المستقبلية، تكون أساسًا لتجميع القوى الجمهورية متحدة في إطار واحد لتحقيق هدف واحد (...)، لسنا ضد الأفكار والنظريات البناءة مهما كانت، فنحن يجب أن نكون دائمًا مع الفكر لكننا فقط ضدّ من لا يُخضع فكره ونظرياته لخدمة مصالح بلاده العاجلة في هذه المرحلة من تاريخها، ويكون سببًا لعرقلة جهودها وإثارة الصراعات المخربة بين أبنائها". (الرعدي، "من كوبنهاجن إلى صنعاء" ط (3)، 2001م، ص10). 

إنّ روح المفكّر والمثقّف هي التي ألقت به أو دفعته لمغامرة الترجمة، وفي وقت كانت البلاد فيها تضطرب بتوترات وصراعات عاصفة، داخلية وخارجية مع الإمامة والرجعية والاستعمار، وهذه الروحية الفكرية والثقافية هي التي وجهت منطق تفكيره بهذا الاتجاه الحواري الجميل. فمن يذهب هذا المنحى من القراءة والكتابة، إنّما يدل على أنه تخلص من رواسب ماضوية كثيرة، والأهم أنّ همّ السياسة بدلالاتها الصغيرة، وهمّ السلطة والثروة هي آخر اهتماماته، وذلك كان عاملًا حاسمًا في تنمية روح المفكر والمثقف في وجدانه وعقله.

في سياق هذا القول الذي أوردته عن الأستاذ الرعدي، وهناك ما لم أورده ممّا كتبه في مقدمة ترجمته، يظهر أمران مختلفان، الأول: شغفه بالمعرفة والفكر والثقافة؛ والأمر الثاني: انحيازه السياسي مع طرف ضد آخر في قلب الصراع السياسي الذي كان قائمًا في قلب الصف الجمهوري، الصراع الذي كان محتدمًا على جبهتين: جبهة مقاومة الملكية والرجعية والاستعمار، وجبهة الصراع السياسي على السلطة الجمهورية، وهو في تقديري ما عوق أو أعاق كل التجربة السياسية والوطنية لنا، في سياق العملية الثورية، بقدر ما أعاق تبلور ونضوج فكره النهضوي الوطني، بصورة جلية وواضحة. وهذا الأمر ينطبق على الجميع بدرجات متفاوتة، والسبب في تقديري هو أنّ الفرز والاصطفافات بين الأطراف والاتجاهات المتصارعة في قلب الصف الجمهوري، لم يكن يتم ويجري على أساس سياسي اجتماعي اقتصادي طبقي، بل كانت تتحكم به المنازع الذاتية والحزبية، بسبب التخلّف في بنية المجتمع الاقتصادية الاجتماعية، وتحدّد وتشكّل الفرز والاصطفافات على أساس من الانحيازات الشخصية/ الذاتية (الحزبية الأيديولوجية)، ووَفقًا لما كان حاصلًا في واقع الصراع الجاري في بنية الصراع العربي/ العربي (المصري السوري)، وهذا غير كافٍ لتشكّل عملية فرز موضوعية سياسية تحكمها المصلحة الواقعية والتاريخية. ولذلك كانت تلك الاصطفافات المتداخلة والمرتبكة، والمحتدمة، ولذلك تقدمت في قلب الصراع الجمهوري/ الجمهوري التعارضات الثانوية، على التناقضات الموضوعية/ الرئيسية في قلب ذلك الصراع؛ فيجد البعض من رموز المدنية والحداثة نفسه مصطفًّا في قلب وإلى جوار رموز الشيخ القبلي، وهكذا... ومن حركة وعملية تبدلات وتحولات الفرز والاصطفافات بين الأفراد والجماعات في المراحل السياسية الصراعية المختلفة، كانت تلك الاشتباكات والارتباكات والتقلبات في مواقف العديد من الأسماء، بل وحتى الجماعات: اشتباك الموضوعي المصالحي التاريخي بالذاتي/ الشخصي، واصطراع الأيديولوجي السياسي، بالاجتماعي الطبقي، على غير من المصالح الواقعية للناس (حاجات التطور الموضوعية)، وهي في تقديري واحدة من إشكالات السياسة والصراع في قلب ثورة 26 سبتمبر 1962م. فالإنسان في التحليل الأخير ابن بيئته ابن مجتمعه، وعيه الاجتماعي والسياسي يتشكّل في علاقة حية وجدلية بما يدور في المجتمع (الواقع الاجتماعي)، ومن هنا حدثت الاصطفافات السياسية الخطأ في الجانبين، وانحيازات البعض مع مواقف لا تشبههم. ومن خلال معرفتي بالأستاذ/ محمد الرعدي عبر سيرته الطويلة حتى رحيله، لا أستطيع القول عنه، سوى أنّ من يمتلك روحية هذا الخطاب الفكري والثقافي الصادق، وبهذه اللغة الفكرية الوطنية العميقة والروحية المتحررة من رواسب الماضي، لا أتصوّر أنّ بإمكانك وضعه أو احتسابه على مواقف الشيخ القبلي/ العسكري، هو وحيد ذاته في قلب ذلك الصراع -مع غيره من الأسماء النبيلة- هو وحيد اسمه، وحيد ذاته، على درب الوطنية اليمنية، يتوحّد متناسقًا ومتكاملًا مع رفاق دربه الآخرين العاملين في اتجاه التأسيس للنهضة السياسية والوطنية على قاعدة دولة المواطنة والحقوق للجميع، الدولة المدنية الديمقراطية، وهو المدني الديمقراطي بالقول والفعل، المدني في موقفه من المرأة، والديمقراطية، وفي موقفه من السياسة والسلطة، إلى موقفه من المذهبية والطائفية والقبلية حتى دعوته للمواطنة وإفساح المشاركة للجميع، وهو القائل: "من حاز على الحرية والإرادة فإنّه لا بدّ أن ينجح في صنع الحداثة، ومن ملك الحداثة لا بدّ أن يكون في استطاعته أن يسير بنجاح نحو سبر أغوار التراث الروحي والثقافي بعقلانية يفقدها الفاشلون في صنع التقدم والازدهار" (من كلمته في المركز الوطني للوثائق بالتعاون مع السفارة الفرنسية- صنعاء 7/10/2004م، من كتاب "اليمن الواحد، ومضات عن وطني مقالات وكتابات نقدية"، ص196)، فكرة ورؤية لا تصدر إلا عن رجل مدنية وحداثة واستنارة، ضدًّا على الثقافة الماضوية، سواء جاءت متلفعة غطاء الاستبداد السياسي أو الديني، أو الاجتماعي القبلي، ثقافة مدنية، بدأ التأسيس لها مع تفكيره ومشروعه في ترجمة كتاب "من كوبنهاجن إلى صنعاء"، لحظة فكرية ثقافية استمرت سيرورتها في حركة تقدم للأمام حتى رحيله. وعودة إلى مقدمة الترجمة، نجده يكتب بروحية نقدية، التالي: "إنّ للبلاد في هذه المرحلة من حياتها مصلحة، ربما اختلفت عن مصلحة بعض الأفراد وبعض التجمعات، وعلينا أن نكتشف بالعلم والدراسة هذه المصلحة؛ أي ليس بقوة الغلبة، لاحظوا قوله بالعلم والدراسة ولاحظوا أنّ هذا الحديث كان من خمسة وخمسين عامًا –الكاتب– حتى نميزها عن غيرها من المصالح الخاصة التي يعرقل وجودها في هذه المرحلة، مسيرةَ الشعب نحو تحقيق آماله، والعمل على تحديد مصالح الشعب، وتوضيحها يوفّر جهود أبناء اليمن جميعًا، كما أنّه يخفِّف من عوامل الفرقة والتباغض في المجتمع اليمني، التي خلقتها لنا مرحلتا ما قبل الثورة، وما بعدها حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 1967م. أمّا إذا تركنا الأمور تسير على علاتها، فإنّ مصلحة اليمن الحقيقية لا بد أن تضيع في خضم الفوضى الفكرية، أو ما يمكن أن نسميه بـ"دوامة الأفكار" التي يعمل غير الواعين على خلقها بالعمل بآراء وحلول قرَؤُوها في الكتب لبلدان ظروفُها غير ظروفنا، وستكون النتيجة الوحيدة لعملهم هذا تفرقة شمل الطليعة المتعلمة من اليمنيين –وهم قلة– وإتاحة الفرصة لتعصف باليمن الانتهازية والتعصبات المذهبية والحزبية والدعوات الانفصالية وتكون النتيجة سيطرة المغامرين على شؤون البلاد، وإبعاد رجال الرأي الخيرين، ومجيء انقلاب عسكري بعد آخر، وضياع البلاد في ظلام التآمر والحقد والفوضى –حتى يقول– ولسنا ضدّ الأفكار والنظريات البنّاءة مهما كانت، فنحن يجب أن نكون دائمًا مع الفكر، ولكنّنا فقط ضدّ من لا يخضع فكره ونظرياته لخدمة مصالح بلاده العاجلة في هذه المرحلة من تاريخها ويكون سببًا لعرقلة جهودها وإثارة الصراعات المخربة بين أبنائها" (مقدمة الترجمة، ص11). وواضح من هذه الفقرة المطولة التي انتزعتها من مقدمة ترجمته، أنّه يدافع عن رأيه، ونهجه السياسي الذي اقتنع به، ضدّ رؤى مغايرة، ولكنّه مع ذلك يقدم عرضه لفكره ورؤيته بلغة وخطاب فكري يحمل رؤية، وبدون لغة عصبوية، وفكر متشنج، بل أورد ما يحبّ قوله ضمن خطاب ينطوي على شيء من الفكر، ومن ثقافة الحوار مع الرؤى الأخرى، وإن لم يوضح معنى وهُوية تلك الرؤى الأخرى، المهم أنّ أسلوبه وأداته في عرض فكرته (رأيه السياسي)، خالٍ من الكلام السياسي المتشنج. 

يكتب ذلك وهو ما يزال في حالة نقد لقيادة جمهورية سبتمبر الأولى 62-1967م، (السلال وجناحه السياسي). على أنّكم ستلاحظون في سياق القراءة أنّه يشمل بنقده حتى انقلاب 5 نوفمبر 1967م، كما أنّه في سياق تسلسل عرضه لأفكاره في هذه المقدمة التي انتهزها فرصة ليقول بعض ما يريد قوله، من أنه يخشى توالي مجيء الانقلابات، أو حسب تعبيره: "مجيء انقلاب عسكري بعد آخر وضياع البلاد في ظلام التآمر والحقد والفوضى"؛ وواضح هنا أنّ نقده مزدوج: نقد الذات، والآخر، نقد يطال ضمنًا جميع الأطراف، وإن بدرجات غير متساوية. فالجميع وخاصة "النخبة"، كانوا يعيشون في "دوامة الأفكار" المتصارعة، بمن فيهم استأذنا الجليل. ما أريد قوله هو أنّ خطابه يغلب عليه القراءة النظرية الفكرية الثقافية، وليس الطابع السياسي العصبوي الحادّ، وقد يكون ذلك عائدًا إلى تفكيره الشخصي وطبيعته الذاتية المسالمة البعيدة عن العنف في الخطاب وفي السلوك، وهو الذي جعله لا ينغمس في صراعات السياسة والسلطة لأسباب ذاتية مصلحية خاصة به، لأنّه ليس من هواة السلطة وجمع الثروة وشراء العقارات، كما أنّه ليس من المحبّين للعيش في وسط ضجيج الأضواء الإعلامية، فقد كتب في كتابه "اليمن الواحد، ومضات عن وطني"، يقول: "أكره الأضواء وأحب أن أعيش بسيطًا" (ص9).

في تقديري، أنّ ترجمته لكتاب "من كوبنهاجن إلى صنعاء"، ومقدّمته التي كتبها لتلك الترجمة، هي بداية رحلته الانتقالية التجاوزية للموروث التاريخي المتحجر والمذهبي والطائفي والقبلي، إلى عتبات عالم جديد من الفكر والرؤية، وهي بداية تخففه من أعباء الحمولات الثقافية والاجتماعية، والانحيازات السياسية التي تقرأ فيها آخر انحياز سياسي له، مهّد لانتقاله إلى فضاءات أرحب وأعمق من التفكير والرؤية، انتقالًا كان مؤهلًا له وبجداره، من زمن بعيد، لولا اشتباكه مع الشرط السياسي في قلب الصراع الذي كان دائرًا، في قلب الصف الجمهوري، ومع ذلك أرى الترجمة والمقدمة هي بداية الانتقال إلى مرحلة نوعية جديدة في الفكر والسياسة. 

إنّ روح المفكر والمثقف هي التي ألقت به أو دفعته لمغامرة الترجمة، وفي وقت كانت البلاد فيها تضطرب بتوترات وصراعات عاصفة، داخلية وخارجية مع الإمامة والرجعية والاستعمار، وهذه الروحية الفكرية والثقافية هي التي وجهت منطق تفكيره بهذا الاتجاه الحواري الجميل. فمن يذهب هذا المنحى من القراءة والكتابة، إنّما يدل على أنه تخلص من رواسب ماضوية كثيرة، والأهم أنّ همّ السياسة بدلالاتها الصغيرة، وهم السلطة والثروة هي آخر اهتماماته، وذلك كان عاملًا حاسمًا في تنمية روح المفكر والمثقّف في وجدانه وعقله؛ المثقف الذي يشعر بالمسؤولية الأخلاقية قبل السياسية، تجاه قضايا شعبه، وهذه الروحية الفكرية والثقافية هي التي أوصلته لاحقًا ليكتب كتابه "القات السلوى والبلوى". ليس من فراغ أن يتفرغ لكتابة كتاب كامل عن القات، وهو من أهم وأدل علامات تطور وعيه السياسي، وأبعاد فكره السوسيولوجي، وعيه وتفكيره بقضايا المجتمع والإنسان فيه، هو بحث عن مداخل وسبل وطرائق تنمية الإنسان من خلال الواقع المأساوي الذي يعيش فيه، وليس عبر التنظير القولي المجرد حول الثورة والتغيير، وهو دليل على حساسية وعي المثقف الوطني بقضايا مجتمعه الحية والمباشرة. ومع بحثه عن القات، يكتمل ويتناسق المعنى الثقافي والاجتماعي التحرري في عقله وفي تفكيره. هو لم يذمّ القات ويشير فقط إلى مضاره وخطورته على المجتمع والإنسان صحيًّا واقتصاديًّا ونفسيًّا، بل إنّه ذهب إلى تقديم دراسة هي أقرب للقراءة السوسيولوجية بروحية نقدية عن القات ومساوئه على الحاضر والمستقبل.

لم يقف عند النقد المجرد، بل بادر لتقديم رؤية حول ذلك، وفي ختام كتابه حول "القات السلوى والبلوى"، يقول الأستاذ/ محمد الرعدي: "للأسف لم نتمكن بعد، نحن -اليمنيين- من أن نجعل من القات مشكلة حقيقية، فلا زال حديثنا عنه يلفه الغموض والتناقض رغم وجود دراسات علمية أولية تؤكّد أضراره الصحية، وبالرغم من أنّ أضراره الاجتماعية والاقتصادية بيّنة وجليّة يعاني منها البعض منا، وربما الكثير، وتعاني منه العديد من الأسر. إنّنا لم نبدأ العمل للوقوف في وجه المتحدي لنا في صمت رهيب قاتل، وهو القات، الذي له كل يوم ضحية وكل يوم مأساة ويفترض أن نكون قد قطعنا أشواطًا من العمل الجادّ والمنظّم ليس في مجال توعية جماهير الشعب بأضراره، ولكن أيضًا في مجال التقنين المؤدِّي إلى التقليل من زراعته، وتعاطيه" (ص92).

إنّ هذا النص السوسيولوجي الذي سردته أمامكم من كتابه، يقول لنا بجلاء أولًا: إنّنا أمام ملامح مفكر اجتماعي وسياسي على صلة عميقة بقضايا المجتمع؛ وثانيًا: إنّنا أمام مثقف عضوي لا يرفع شعار "الجملة السياسية الثورية"، في وجوهنا ليبرهن بما يكتب أنّه وطني أو تقدمي، بل هو يقدم خطاب استنارة فكرية وسياسية عميقة، تمسك بأحد أهم أبعاد المشكلة اليمنية العديدة الوجوه، والقات أكثرها بؤسًا وفتكًا بالإنسان الفرد، وبالمجتمع. 

فقد أدرك بخبرته الثقافية والاجتماعية، أين تكمن المشكلة الاجتماعية، إنّها روحية المثقف عميق الصلة بقضايا شعبه وبلاده، دون ادعاء خطابي؛ وثالثًا: أنّه أدرك الدور المدمّر والخطير للقات في حياة المجتمع والإنسان في اليمن المعاصر، بعد أن تحول القات من بلوى، إلى وهم بالسلوى، فبدأ من نفسه التي وطّنها على موقف جادّ وحاسم من تعاطي القات، فكان الكتاب والندوات الثقافية، والتنزه واللقاءات بالأصدقاء بعيدًا عن مقايل القات التي تتحول من بلوى إلى وهم بالسلوى! وفي نصه نقرأ نقدًا سياسيًّا رصينًا وعميقًا للجهات الرسمية باعتبارها مشجّعة لظاهرة تعاطي القات، من خلال التوسعة في زراعته على حساب المحاصيل الإنتاجية والتنموية المتعلقة بتنمية الإنسان والاقتصاد، وهي رسالة نقدية للدور السلبي للإعلام في التوعية الاجتماعية للمخاطر التي يتركها القات على حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، وهو رابعًا.

هو أحد أهمّ وأبرز أعلام التنوير في اليمن المعاصر، على قلة مساهماته الكتابية، فالقليلُ عندَه يقولُ الكثيرَ الكثير، عن التنوير والمدنية، والإصلاح الاجتماعي، فكيف لا، وهو التلميذ النجيب على هَدي خط ونهج الزبيري والنعمان، لقد أخذ منهما أجمل ما فيهما من العقل المستنير ومن الوطنية الصادقة، وحبّ المعرفة والعلم، والإيثار، ونظافة اليد وطهارة الروح، فتلاقت وتوحدت فيه نبالة الصوفي في الزهد ما يزيد على الحاجة، وكرامة المثقف حامل القيم.

إنّ أصدق تعبير وتجسيد عن الحالة الانتقالية النوعية في سلوك وتفكير الأستاذ/ محمد الرعدي (فكره النقدي)، وفي تكوينه الذاتي والمعرفي، هو هذا النص النقدي الإبداعي الذي رأيت تقديمه لكم، وهو نصٌّ يجمع بين نقد الذات، ونقد والواقع، ونقد السياسة والتاريخ، وذلك عندما يكتب التالي: "حين نمعن النظر في أحداث المجتمع اليمني اليوم، تبدو لنا ملامح المرحلة التي تمرّ بها بلادنا هي –كما تبدو– مرحلة الوقوف السلبي أمام آلاف المشاكل والمخلفات التي تراكمت على مرّ الزمن أحداثًا تفتك بالشعب اليمني، وكل ما عملنا في 26 (سبتمبر) 1962م- هكذا دون ذكر أنّها ثورة –الكاتب– هو أنّنا أبعدنا من كان يحول بينا وبين هذه المخلفات، ومن كان سببًا بوجوده في تكاثرها. وكان عملنا هذا بمثابة دق الطبول بشدة في وجه هذه المخلفات، فاستيقظت من سباتها كلها دفعة واحدة -وهذا القول يذكرني بقصيدة عبدالله البردّوني التي يقول فيها: "الثوار الذين أيقظوا الذئاب وناموا"- واستعدت لقتالنا ورصت صفوفها وبدأت تصرع الواحد منّا تلو الآخر، فقتلت وشردت، وأتت على أخلاق الشعب وعاداته الطيبة (...)، ولم يكفِ هذه المخلفات أنّها استخدمت ضدّ الشعب أسلحتها القديمة، فلجأت إلى الاستيراد من الخارج، فاستوردت بعض مساوئ المدنية الحديثة (...) كما عملت هذه المخلفات على تشتيت الشعب اليمني وضرب وحدته الوطنية فهذا شمالي وهذا جنوبي وهذا قبيلي وهذا مدني وهذا زيدي وهذا شافعي، كما أنّها استخدمت أساليب حديثة من محاولاتها القضاء على البقية من وحدة الشعب، فهذا تقدمي وهذا رجعي، وهذا شيوعي وهذا بعثي وهذا قومي، فوجد الشباب نفسه في دوامة صراعات وهمية نسجته حوله مخلفاته التي نجحت في إلهائه عن مواجهتها والقضاء عليها" (مقدمة الترجمة، ص 16).

إنّ النص السالف على عموميته في بعض المسائل، وفي الاتجاه العام للخطاب، يقدّم تشخيصًا موضوعيًّا فكريًّا سياسيًّا تاريخيًّا نقديًّا لواقع حضور وفعل "الدولة العميقة" في اتجاه تعويق تقدمنا، وحركتنا للأمام، كما أنّه يشير إلى حالة التشوش والاضطراب وغياب الرؤية عند جميع الأطراف –بدرجات متفاوتة– وتحديدًا عند ولدى قوى المدنية والحداثة والجمهورية والتحرر الذين وجدوا أنفسهم بين كماشتَي الفساد، والاستبداد السياسي والديني، وجدوا أنفسهم تلتهمهم وتبتلعهم التعارضات الثانوية في الصراع فيما بينهم البين، تاركين الساحة، والمجال لقوى الإمامة، وورثتهم في الفكر والسياسة (المشيخ القبلي/ العسكري)، الذين انصبّ كلّ همّهم في تغيير الإمام بالشيخ، محافظين ومدافعين على منظومة الحكم القديمة كما هي، لأنّهم –القوى التقليدية/ رموز الدولة العميقة– هم الأكثر إدراكًا لمصالحهم التاريخية من القوى الحديثة، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة بعضهم بعضًا. والنص السالف للأستاذ/ محمد الرعدي يقول ذلك بوضوح، وهو من أهم رموز المدنية والحداثة، ولكنّه وجد نفسه في مواجهة من يقول له وللجميع في لحظة حاسمة: "لا خيار أمامكم سوى "الدولة الإسلامية"، أو العودة للإمامة أو التبعية للخارج".

إنّ قراءة تفكيكية معمقة لنص الأستاذ/ الرعدي قد تفتح أمامنا قراءات متعددة إيضاحية لما كان، قراءات لا يتسع لها مقام هذه التناولة التي أجدها بمثابة تحية للأستاذ/محمد الرعدي في ذكرى رحيله.

الأستاذ الجليل/ محمد الرعدي هو أحد أهم وأبرز أعلام التنوير في اليمن المعاصر، على قلة مساهماته الكتابية، فالقليل عنده يقول الكثير الكثير، عن التنوير والمدنية، والإصلاح الاجتماعي، فكيف لا، وهو التلميذ النجيب على هدي خط ونهج الزبيري والنعمان، لقد أخذ منهما أجمل ما فيهما من العقل المستنير ومن الوطنية الصادقة، وحبّ المعرفة والعلم، والإيثار، ونظافة اليد وطهارة الروح، فتلاقت وتوحّدت فيه نبالة الصوفي في الزهد مّا يزيد على الحاجة، وكرامة المثقف حامل القيم.

الأستاذ محمد الرعدي من الشخصيات الثقافية والسياسية والإدارية والمدنية النادرة، تفكيره يطابق فعله، وهو ما تراه في سلوكه اليومي الذي يتميّز بالعطاء بلا حدود، وبالقيم والمثل الأخلاقية التي جسّدها في فعله الحياتي مع الجميع: من أسرته إلى علاقته بالمجتمع؛ ومن هنا توازنه الروحي واستقامته الأخلاقية، وطهارته السياسية والوطنية... إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، عاش حياته بالطول والعرض منضبطًا على إيقاع صراط الاستقامة، والمثل العليا، من مبتدأ القول إلى منتهى الفعل. كان سؤاله، أو أحد أسئلته في منتصف الستينيات: "متى تنشأ أول جامعة يمنية؟" حتى دعوته المبكرة إلى أنّه يجب إقامة وزارة متكاملة للمظالم، تكون جزءًا من مجلس الوزراء، لها فروع وهيئات ومؤسسات في كل البلاد، وهي قضية مرتبطة بفكرة العدل الاجتماعي، أي بروحية فكرة العدل عند المعتزلة، ففكرة العدل مكينة في عقله وفي سلوكه، ولا غرابة في هذا المطلب من إنسان يكره الظلم -حتى قوله- متى نناضل من أجل حريتنا دون إرهاب". هذه الأسئلة الكثيرة والعميقة، طرحها في مقدمته القصيرة للكتاب المترجم المذكور، تعكس روح ومعنى الاقتصاد في الكلام، كعادته، أسئلة، طرحها ذلك الطفل والإنسان الكبير، الإنسان/ الطفل، الذي نشأ محرومًا من التعليم الحديث، حتى كانت "بعثة الأربعين". حديث وسؤال من القلب ومن الواقع الذي ما يزال يحمل آثار الموروث الماضوي، لأنّ الانقلابات العسكرية التي حذّر منها الأستاذ/ محمد الرعدي، ما تزال تلاحقنا، ورحل عنّا وهو ما يزال يحلم بالسلام، ويرى بأمّ عينيه جرائم الانقلابات من ستينيات القرن الماضي حتى اليوم، انقلابات عبثية تتحرّك ضدًّا على إرادة حلمنا/ حلمه، بالإصلاح والتغيير.

لروحه السلام والطمأنينة، ولذكراه كمثقفٍ عضويّ الرحمةُ والخلود.

‍