أصبحت لازمة الحديث عن المؤتمر الشعبي العام هي: (إنّ فكرة إنشاء المؤتمر تعود لإبراهيم الحمدي). عن نفسي لم أجد مصدرًا موثوقًا يمكن الركون إلى روايته حول هذا الزعم. وحتى لو صدقنا القول، فالشاهد أنّ المؤسسين لم يأخذوا بجوهر الفكرة بل بظاهرها. ثم إنّ الرئيس إبراهيم الحمدي لم يكن بحاجة لتأسيس تنظيم بديل، إذا كان ينتمي تنظيميًّا للناصريين.
إذن، نحن أمام إشكاليتين؛ الأولى تكمن في صدقية الانتماء التنظيمي للحمدي للناصريين. وهل كان الحمدي ناصريًّا أو مجرد متحمس لبعض الطروحات الناصرية؟ وتكمن الثانية في حاجة الحمدي عمليًّا للتنظيم.
فإذا كان ناصريًّا ففي هذه الحالة سيكون في غنى عن تجشم عناء بناء تنظيم جديد، بينما لديه تنظيم يمتلك تاريخًا نضاليًّا وتجربةً غنية. أما في الحالة الثانية فهو سيغامر بتأسيس تنظيم عديم الملامح والتجربة؛ وبالتالي مجهول القادم.
أصحاب مقولة إن تأسيس المؤتمر كان فكرة الحمدي، يصطدمون بتناقض حاد بين صاحب الفكرة والمؤسسين. فالمؤسسون هم خصوم الداء لصاحب الفكرة (المفترض)، هل أرادوا مثلًا تشويه صورته بعد رحيله؟ إذا كان كذلك فهم لم يفلحوا، فقد ظلت صورة الرجل ناصعة بهية، وربما حصل العكس تمامًا.
دعونا من هذه الفرضيات. لدينا روايتان حول تأسيس المؤتمر الشعبي العام؛ الأولى نجدها عند البردّوني في كتابه الثقافة والثورة في اليمن. ومفاد هذه الرواية أنّ النظام كان يعكف على تأسيس تنظيم يحل محل لجنة التصحيح المنحلّة تلقائيًّا -بمقتل الحمدي- وحل الجبهة الإسلامية ذات الفكر الوهابي -المشكّلة والممولة سعوديًّا- لمقاتلة الجبهة الوطنية الديمقراطية (باسم الدفاع عن النظام)، والدافع لذلك تنامي المخاوف من استيلاء هذه الجبهة على السلطة بحكم توغلها في مؤسسات النظام العسكرية والمدنية.
أما الرواية الثانية فنجدها في مذكرات الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، حيث يقول: "جاءت فكرة الميثاق الوطني" ولم يحدد من أين جاءت، ولكنه يقرر بأنه "لا بد من وجود أيديولوجية لمواجهة (الفكر الإلحادي) في الجنوب"، وبالتالي لا بد من حامل تنظيمي لهذه الأيديولوجية، فكان قيام المؤتمر بالطبع.
إذن، نحن أمام حقيقتين؛ الأولى: أنّ هناك مخاوف قد بدأت بالظهور من سيطرة الجبهة الإسلامية على الحكم في صنعاء، والثانية أنّ رسائل تطمين تلقاها الرئيس صالح من التيار الإخواني بإعادة ترتيب بيت النظام بالقسمة بين مختلف مراكز القوى المتنافسة بحيث يجتمع الكل في خيمة نخبوية واحدة؛ وهذا كفيل بالمحافظة على مصالح متوازنة لهذه الأطراف مع وجود درجة ميل نسبي للمصالح حسب الظروف، وقد أورد موريس دو فيرجيه في كتابه الأحزاب السياسية تصنيفًا للأحزاب بينها حزب النخبة، ولكن ما كانت لتخطر على باله نخبة بهذه التوليفة.
وهكذا حشدت كل المراكز قواها في التأطير التنظيمي النفعي مع توفير الحماية الكاملة لمصالحها. فحشد كبار البيروقراطيين والعسكريين موارد الدولة، وحشد الإخوان ومشايخ القبائل جل مواردهم البشرية والمادية، بينما لاذ كبار التجار بتأثيرهم المالي على بقية الأطراف. حيث شكّلوا موردًا مهمًّا وحاكمًا، ليس فقط في الدورة الاقتصادية، بل وفي مسار مشروع الحوار الوطني الذي صاغ الإخوان جوهره الأساسي، وهذا ما يفصح عنه الشيخ عبدالله الأحمر بدون مواربة في مذكراته: "نحن جميعًا متعاونون على إخراج هذا الميثاق إخراجًا إسلاميًّا وطنيًّا تتحدد فيه هوية الشعب اليمني المسلم، والذي سيصبح فكرًا يواجه الفكر الإلحادي والشيوعي الانتهازي الفوضوي" هكذا.
ولأنّ الأمر كذلك، فلا مجال للحديث هنا عن شراكة وطنية في الدولة التي يتحدث عنها الأحمر، فالمصلحة المشتركة تقضي بعدم السماح لأصحاب الفكر المغاير من الوصول إلى قيادة التنظيم المزمع بناؤه، ومن أجل ذلك يقول الأحمر: "دخلنا في حوار وجدل وصراع أيضًا من أجل تكوين قيادات هذا التنظيم". فالمخاوف هنا بينة من أن تتسرب العناصر اليسارية والقومية والوطنية إلى قيادات التنظيم الوليد، وبالتالي تفقد مراكز القوى بعض هيمنتها لاحقًا بفعل التواصل والتقاء الأفكار المعادية لها.
وفعلًا كان التيار (المتأسلم) هو الأقوى كما يقول الأحمر، وهو الأقدر على فرض رؤيته على مسار العملية السياسية والنظام العام برمته، وقد "عارضنا بقوة، وكنا نستطيع أن نرفع أصواتنا وننجح لأننا نعارض من داخل الصف ومن داخل النظام، ولم يكن التنافس بين أحزاب وتنظيمات علنية -إذ كلنا في حزب واحد- إنما كان التنافس بين اتجاهات وتيارات معروفة وأحزاب غير رسمية".
في الجانبين، الشمال والجنوب، كان هاجس فقدان السلطة أقوى من الرغبة في بناء نظام سياسي مستقر يسرع بنهوض البلاد. وقد تنبه لهذه المسألة لاحقًا الشهيد جار الله عمر -بعد أحداث 86- وقدّم مشروعًا متكاملًا للإصلاح والانتقال السياسي كان يجب العمل به قبل التوصل لاتفاق الوحدة، ولكن شنت عليه حملة شعواء داخل حزبه.
وتحت كلمة حزب واحد وجب وضع ألف خط أحمر؛ ذلك لأنّ وجود حزب أو تنظيم سياسي علني يتعارض تمامًا مع المادة (37) من دستور الجمهورية العربية اليمنية لعام 1970م. ولإنشاء تنظيم أو حزب حتى وإن كان للسلطة، فقد كان يفترض القيام بتعديل دستوري يبيح ذلك. لكن التعديل من شأنه أن يفتح على النظام ثغرة لا يمكنه سدها، لأنه سيكون مضطرًا للاعتراف بالأحزاب السرية جميعها (يسارية وقومية ووطنية وغير ذلك)، ومن ناحية ثانية كان التعديل سيغير مسار الحوار الوطني من حوار بين قوى النظام نفسه إلى حوار بين أحزاب وتيارات ندية تقف على نفس الأرضية.
لكن تحالف مراكز القوى أدرك أنّ ذلك يعني فقدان أو ضياع الهدف من تأسيس المؤتمر -أَلَا وهو الإبقاء على السلطة في هذا المثلث (إخوان وجزء من كبار مشايخ القبائل + العسكر وجزء من القبائل + كبار التجار)، وفي وسط المثلث تلعب مجموعة من كبار بيروقراطيي الإدارة العليا والمتهافتين من هنا وهناك. وهكذا يتضح أنّ الهدف لم يكن بناء نظام ديمقراطي حسب الشعارات المرافقة، بل الحفاظ على طبيعة التوازن القائم ومواجهة رغبات التغيير.
بهذه الطريقة يلتقي مؤسسو المؤتمر الشعبي مع تنظيم الجبهة القومية، فبدلًا من أن يعمل تنظيم الجبهة على بناء نظام سياسي تنافسي متعدد الأحزاب والرؤى، جمع التيارات المتناقضة في كومة واحدة بغية الحفاظ على السلطة وكان ما كان.
في الجانبين، الشمال والجنوب، كان هاجس فقدان السلطة أقوى من الرغبة في بناء نظام سياسي مستقر يسرع بنهوض البلاد. وقد تنبه لهذه المسألة لاحقًا الشهيد جار الله عمر -بعد أحداث 86- وقدّم مشروعًا متكاملًا للإصلاح والانتقال السياسي، كان يجب العمل به قبل التوصل لاتفاق الوحدة، ولكن شنت عليه حملة شعواء داخل حزبه.
وهكذا أنشأ نظام 17 يوليو 1978 معادلة عجيبة للكيمياء السياسية في اليمن. تفاعلت كل العناصر الداخلة في تلك المعادلة بصورة غير متسقة؛ وبالتالي كان ناتج التفاعل غير متسق مع التوقعات.
ولأنّ الكيانات جميعها تحمل بذور فنائها، أو فلنقل تهتكها في ذاتها، فإن المؤتمر لا يشذ عن هذه الحقيقة. فعكس كل الأحزاب اليمنية المعروفة نشأ المؤتمر في أحشاء السلطة ثم احتوى السلطة التي أنجبته، ولم يعد بمقدور أي مراقب للشأن السياسي التمييز بين السلطة والمؤتمر. فقد تمت هندسة النظام الأساسي للمؤتمر بحيث يقود إلى هذه النتيجة. فكل قيادي في الإدارة العامة يجد نفسه قياديًّا في أعلى هيئات المؤتمر، والقيادي في التنظيم حتمًا لا بد أن يصنع له منصبًا حكوميًّا، بسبب ذلك صار المؤتمر مطمعًا لانتهازيّي بقية القوى، تشد إليه الرحال، وبسبب استقطاب المؤتمر لعناصر القوى الأخرى بالإغراءات المختلفة صار مكبًّا لها.
بصرف النظر عن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الاشتراكي في مضمار الوحدة اليمنية، فإن المؤتمر ورديفه قد تفننا في تسميم الحياة السياسية برمتها، بدءًا من الحركة النشطة المناهضة للوحدة والدستور، التي قادها الزنداني من السعودية، ومؤتمرات القبائل والمبالغة في تكفير الجنوبيين واليسار اليمني عمومًا، وماراثون حوار 1993م، وتفجير حرب 1994م.
وظل حال المؤتمر حتى بعد الوحدة على حاله، فرئيس الدولة هو رئيس المؤتمر، ووفقًا لذلك لا يوجد احتمال لأن يكون رئيس الدولة من خارج التنظيم. هذه واحدة من كوابح تطور التنظيم الحزبي للمؤتمر.
أما الكابح الثاني وصاعق التفجير الذاتي للمؤتمر، فهو إيعاز الرئيس صالح للإخوان بتأسيس حزب خاص بهم يكون ملحقًا ورديفًا للمؤتمر كما يذكر ذلك الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر بغرض تفجير التوافقات التي يتم التوصل إليها بين المؤتمر والاشتراكي.
لكن الذي حدث حينها أنّ الإخوان لم يسحبوا جميع أعضائهم دفعة واحدة من المؤتمر، بل أبقوا على جزء مؤثر فيه؛ تحسّبًا لأي مهمة مستقبلية داخل المؤتمر.
كما أنّ جماعة الإخوان نفسها كما هو الحال في مصر، لم تتحول بالكامل إلى حزب سياسي، بل جزء منها، وظلت الجماعة كما هي كرافد بشري، وهذا الأمر تحدث عنه الرئيس الراحل محمد مرسي بإسهاب في حديثه لمؤلف كتاب وصفات الربيع العربي الصادر عام 2013م.
بصرف النظر عن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الاشتراكي في مضمار الوحدة اليمنية فإن المؤتمر ورديفه قد تفننا في تسميم الحياة السياسية برمتها، بدءًا من الحركة النشطة المناهضة للوحدة والدستور، التي قادها الزنداني من السعودية، ومؤتمرات القبائل، والمبالغة في تكفير الجنوبيين واليسار اليمني عمومًا، وماراثون حوار 1993م وتفجير حرب 1994م.
لم يرشّد انتصار 7 يوليو أو يُعقلَن الخطاب السياسي والإعلامي للنظام وحلفائه ضد الطرف الخاسر، بل أطلقوا العنان لنزقٍ سياسي جديد قاد نحو مزيد من الاحتقان في البلاد، وصار الحديث عن المصالحة كواحدة من الشركيات. وبدأت عملية شق تفريخ الأحزاب والتنظيمات تدار من الرئاسة، على سبيل المثال: ظهرت تجنحات للاشتراكي؛ جناح "فتاح"، وجناح "الصباحي"، لكنها فشلت بفعل صلابة وحنكة الراحل علي صالح عباد مقبل، الذي ظهر كرجل تاريخي تمكّن من جمع شتات الحزب ووضعه على طريق التعافي برغم الدعوات الإخوانية الهستيرية لحله. وحده عباد وقف بينما تخلّى عنه حتى أبناء منطقته الذين ظلوا حلفاء لخصومه حتى آخر حياته.
فلت عقال التنافس بين الإصلاح و"أمه الرؤوم"؛ حسب تعبير الشيخ عبدالله في مقابلة صحفية. وشهدت مديرية الرضمة أولى تجارب كسر العظم بينهما في انتخابات 1997م.
وبين رفض المصالحة بعد الحرب وحتى بروز حركة المتقاعدين في 2007م، جرت مياه كثيرة لم تصب في صالح المؤتمر ورئيسه برغم كل الاحترازات. فمن تدهور الخدمات العامة وتضاؤل فرص العمل وتنامي معدلات البطالة 40%، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي وتدهور العملة، إلى تفجير الحروب الصغيرة والكبيرة إلى عمليات التزوير الممنهج للعمليات الانتخابية، ظل النظام على تجاهله الاستجابةَ لمقتضيات الواقع.
2011م كان عامًا مفصليًّا في حياة المؤتمر. كالعادة بالغ المؤتمر بقدرته على تجاوز الوضع المستجد، لكن الناس كانت قد وصلت إلى نقطة اليأس في إمكانية إصلاح النظام.
اكتظت الشوارع بالمحتجين على طول البلاد. لم يلتقط المؤتمر اللحظة في إعادة صياغة العملية السياسية بما يضمن خروجه والبلاد من المأزق بأمان.
في هذه الأثناء، بدأ التشظي الأول، إذ غادرت بقايا الخلايا الإخوانية مواقعها في المؤتمر نحو البيت الحقيقي، ومن ساحة الجامعة انطلقت الدعوة الإخوانية لحل حزب المؤتمر وشخصنة الثورة، وتحول شعارها الأساسي من المناداة بإسقاط النظام إلى الدعوة لإسقاط شخص الرئيس.
في هذا الوضع العصيب، ظلّ صقور المؤتمر على موقفهم السلبي من التغيير السياسي. وعندما وقّع الرئيس صالح على المبادرة الخليجية بعد مماطلة في 23 نوفمبر 2011م، حدث التشظي الثاني. حدث هذا التشظي على خلفية مناطقية بواجهة تنظيمية، هي أن "رئيس الدولة هو رئيس المؤتمر".
مع اندلاع الحرب كان المؤتمر جاهزًا لمزيد من التفتت، وظهر أنّ عناصر التفاعل لا ريب عائدة إلى أصولها الأولى. وهكذا تكرر انقسام المؤتمر، ولكن هذه المرة بين ما سمي بتياري الشرعية الذي يمثله هادي، والوطنية الذي يمثله صالح.
خاض التياران احترابًا دمويًّا وسياسيًّا لا ينكره أحد. ومع تباين أجندات التحالف العربي من جهة، والأجندات الداخلية للمؤتمر من جهة ثانية، زادت حدة التشققات.
مثّل استعراض صالح للقوة في 24 أغسطس 2017، تجربة الغطس في المياه الموحلة. فقدَ المؤتمر بعدها القدرة على التنفس. التفت حول عنقه كل ثعابينه القديمة والجديدة، وتحول المؤتمر من مفجر عن بعد إلى متفجر ذاتي. وبالنهاية التراجيدية لصالح في 2 ديسمبر 2017م، أسدل الستار تقريبًا على المؤتمر الذي نعرفه. كل شيء عاد لأصله الأول؛ توزعت شظاياه بين الداخل والخارج، وفي قاع الدورق ركدت كتلة صلبة لا تتأثر إلا بمصالحها وفقد الاتصال بها. وتاهت بروتوناته التي سكنت وسط المثلث في فضاء لا لها من صاحب. فمن يلملم هذه الشظايا يا ترى؟