يتزايد عدد ضحايا الألغام ومخلفات الحرب في محافظة حَجّة يومًا بعد آخر؛ مع استمرار الصراع، تتعمق مآسي الضحايا وتتسع إلى درجةٍ يغدو فيها الحديث عن قصص الموت جراء الألغام أو الإصابة بها، أمرًا عاديًّا لا يضفي جديدًا لدى السامع، لكثرة تكرارها وترددها على ألسنة الناس.
الطفل رائد دهمش (10 سنوات)، أحد هؤلاء الضحايا؛ فقدَ قدمه اليمنى وأصبح قعيدًا على كرسي متحرك، بعد أن انفجر فيه لغمٌ أرضي بينما كان يرعى الأغنام بأطراف بلدته "بني القائد" بمديرية ميدي (شمال غرب محافظة حجة).
يقول رائد لـ"خيوط": "أصبحت الحياة صعبة؛ تلاشت أحلامي وأصبح حلمي الوحيد أن تعود قدمي كالسابق وحياتي إلى ما قبل هذه الحادثة، أصبحت فرصة مواصلة تعليمي وذهابي إلى المدرسة صعبة جدًّا، أخشى أن تحرمني إعاقتي من مواصلة تعليمي نهائيًّا".
أما السيدة أم أحمد (40 سنة)، من سكان "بني الجعدة" بمديرية ميدي، هي الأخرى تعرضت لمأساة مشابهة، حين داست على مقذوف يشبه اللغم الأرضي، أثناء جلبها للماء، كما توضح لـ"خيوط".
أصيبت أم أحمد، بشظايا متفرقة سببت لها ضررًا بالغًا في عينها اليسرى، وأصبحت بحاجة ماسة إلى تدخل طبي لإجراء عملية جراحية باهظة التكاليف؛ لكن أسرتها عجزت توفير نفقات العملية بسبب وضعها المادي المزري، لذا لم يكن أمامها سوى محاولة التصالح مع حالتها الحرجة، نظرًا لتحملها مسؤولية تربية أبنائها الثلاثة (أحمد، غيداء، إبراهيم).
موتٌ يتربص بالجميع
عشرات الأسر النازحة ممن انقطعت بهم السبل وأصبحت عودتهم إلى قراهم خيارًا وحيدًا، على الرغم من خطورة تلك المساحات الشاسعة المفخخة بالألغام حول منازلهم وقراهم، في المناطق التي شهدت مواجهات بين قوات المنطقة العسكرية الخامسة التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا، وجماعة أنصار الله (الحوثيين).
غالبية ضحايا الألغام والعبوات الناسفة المزروعة في مناطق السهل الغربي من محافظة حجة هم من الأطفال؛ كثيرون لقوا حتفهم، وآخرون فقدوا أطرافهم خلال أدائهم نشاطاتهم اليومية، أو ممارسة عادتهم في اللعب أو رعي الأغنام أو التنقل في الحقول الزراعية التي صارت مفخخة وخَطِرَة.
المرة الأولى التي تلوثت فيها أرض محافظة حَجّة بالألغام، كانت عام ٢٠١١، حين شن مقاتلو جماعة أنصار الله (الحوثيين) حربًا على مديرية كُشَر (من مديريات حجور)، وفي إطار عمليات التوسع آنذاك قاموا بزراعة الألغام والمفخخات بأشكالها الخداعية المتنوعة.
لم يقتصر حصاد الموت الناجم عن الألغام الأرضية على البشر المدنيين وحسب، إنما أيضًا كان للحيوانات والماشية نصيبٌ من تلك العبوات المدفونة في القيعان والمساحات المفتوحة. يذكر بعض أهالي ميدي لــ"خيوط"، أنه سبق أن فقدوا قطيعًا من الأغنام بسبب الألغام، كان تأثيرها المادي عليهم فادحًا، كون الماشية تعد مصدر العيش الوحيد لدى بعض القرويين بالمناطق التي يهيمن عليها الفقر في السهل الغربي من محافظة حجة.
حيث تعد مهنة الرعي وتربية الماشية، من المهن الرئيسية التي يعتمد عليها السكان في مديريتي ميدي وحرض اللتين كانتا أكثر مديريات محافظة حجة التي لبثت لفترة طويلة مسرحًا للمعارك والمواجهات العسكرية، الأمر الذي خلَّف وضعًا إنسانيًّا مأساويًّا امتدّ تأثيره إلى المديريات المجاورة في الشمال الغربي من محافظة حجة، إذْ ما تزال المعارك محتدمة في بعض أجزائها حتى اللحظة.
عقد من زراعة الموت
للتثبَّت من حقيقة الطرف الفاعل وراء زراعة الألغام في هذه المناطق، حاولت "خيوط" استيضاح الأمر، من المصادر ذات العلاقة؛ يوضح الصحفي رماح الجبري لـ"خيوط"، أن الأرض اليمنية بشكل عام موبوءة بالألغام، التي عادةً ما تستخدمها القوى المتصارعة في المعارك، لإعاقة تقدم قوات الخصم في جبهات القتال، وهو ما حدث في جبهات محافظة حجة.
يذكر الجبري أن المرة الأولى التي تلوثت فيها أرض محافظة حجة بالألغام، كانت في عام ٢٠١١، حين شن مقاتلو جماعة أنصار الله، حربًا على مديرية كُشَر (من مديريات حجور)، وفي إطار عمليات التوسع آنذاك قاموا بزراعة الألغام والمفخخات بأشكالها الخداعية المتنوعة.
"بحسب الأهالي والمسؤولين والمحليين الذين التقيتهم في عام ٢٠١٢، وكنتُ حينها في مهمة صحفية، أن أكثر من عشرة آلاف لغم زرعها الحوثيون في أجزاء من مديريتي مستبأ وكشر، وهي المناطق التي دارت فيها المواجهات حينها، وقُتل بسبب تلك الألغام نحو ٣٥ شخصًا وأصيب نحو ٤٠، غالبيتهم كانت إصابته بالغة، أو تسببت لهم في إعاقة دائمة"- يستطرد.
حساسية الجغرافيا
حاليًّا اتسعت رقعة المناطق الملغومة لتشمل ست مديريات بحافظة حجة، وجميعها تقع قرب الحدود مع المملكة العربية السعودية؛ هي: (حرض، ميدي، بكيل المير، عبس، حيران، مستبأ)، وهي المديريات التي كانت ميدانًا للمعارك العسكرية، وموجات التشرد لغالبية السكان من الأسر الفقيرة ومحدودي الدخل، وفقًا للجبري.
وبحكم إشراف الجزء الغربي من محافظة حجة، على ساحل البحر الأحمر من جهة مديرية ميدي، يمتهن نسبة من سكانها صيد الأسماك، لكن حتى مهنة الصيد باتت خطرًا الآن، بسبب الألغام البحرية التي صارت تهدد حياة مئات الصيادين وتُضيّق عليهم أسباب أرزاقهم.
قلق مزمن
تعد زراعة الألغام وجهًا آخر لقبح الحرب التي تستهدف حياة المدنيين بشكل مباشر؛ تؤكد إشراق مهدي، التي تعمل في المجال الإنساني لـ"خيوط"، أنه من الضروري أن يحظى سكان المناطق التي شهدت صراعات أو النازحون الذين عادوا إليها بعد استقرار الوضع، بجلسات توعية بخطر الألغام وطرق التعامل معها، لتفادي الموت المتربص بحياتهم تحت الأرض التي يعيشون عليها.
وتشدد مهدي على ضرورة تقديم الدعم النفسي لأسر الضحايا؛ كونها أسرًا منكوبة من الشائع أن تواجه اضطرابًا نفسيًّا حادًّا وقلقًا مزمنًا قد يؤثر على الصحة النفسية، خصوصًا لدى الأطفال، مما قد يؤثر بشكل خطير على نموهم الطبيعي ويجعلهم عرضةً للأمراض النفسية، وضعف الشخصية.
قد تنتهي الحرب، ويخرس دويّ المدافع، وربما يتحقق السلام، لكن الألغام المطمورة في الأرض، سوف تستمر سنينًا وعقودًا في حصد مزيدٍ من الأبرياء، ما يجعل هذه الجريمة أخطر مخلفات الحرب على حياة الأجيال.