أخطاء طبية قاتلة

استهتار يدفع ثمنه المرضى في الأرياف
حاشد الشبلي
October 10, 2023

أخطاء طبية قاتلة

استهتار يدفع ثمنه المرضى في الأرياف
حاشد الشبلي
October 10, 2023
.

الأربعيني مراد الصيادي، من سكان منطقة قعطبة بمحافظة الضالع (جنوبي اليمن)، ضحية حقنة دوائية من المضادات الحيوية أنهت حياته بدل إنقاذها، بعد تشخيص خاطئ من قبل أحد الأطباء.

يقول شقيق الضحية، عبدالواحد الصيادي، لـ"خيوط": "ذهب أخي مراد على قدميه إلى مستوصف "العناية الطبي" الواقع في منطقة قرين الفهد التابعة إداريًّا لمحافظة الضالع، للحصول على حبة دواء تحد من ألمه، وتنهي معاناته بعد أن تعرض للالتهابات في المسالك البولية، وتورم في القدمين، إلا أن قدره ساقه إلى أيادي العذاب بدلًا من الرحمة فخرج جثة هامدة"، حد وصفه.

تزايدت الأخطاء الطبية في اليمن بعد اندلاع الحرب بداية العام 2015، خاصة في المناطق الريفية، البعيدة عن رقابة الجهات المختصة، التي تشهد تزايدًا في عدد المراكز الصحية بشكل عشوائي مع افتقاد الكثير منها للمعايير الطبية المناسبة، والتي تقوم بعضها باستقطاب وتوظيف أطباء، كثير منهم أطباء غير مؤهلين من اليمن، ومن خارجها على وجه التحديد.

حيث أصبح الموت قدرًا حتميًّا يلازم مرتادي المراكز الصحية في الأرياف، وآخر حل يلجأ إليه المريض قد ينجح أو يفشل مع تدهور المرافق الطبية التي أصبحت تشكّل مصدر قلقٍ وخوف للمواطنين من سكان هذه المناطق.

في المستوصف الريفي لهذه المنطقة التابعة لمحافظة الضالع، اطلع "الكادر الطبي"، الذي يعمل مساعد طبيب، على المريض، إذ تم توجيهه لإجراء فحوصات وظائف الكلى وأشعة تلفزيون، ليقر على ضوئها حقن المريض بحقنة "سيفترياكسون" (علاج للالتهابات، عبر الوريد)، مع وصف بعض الأدوية الأخرى، حسب اعترافات الكادر الطبي في تحقيق اللجنة الطبية المكلفة من قبل مكتب الصحة بمديرية قعطبة. 

يتابع الصيادي حديثه: "تجاهل العاملون في المركز صوت أخي الذي أعلمهم بحساسية في الجلد من حقن المضادات الحيوية؛ إلا أن هذا "الكادر الطبي" في طوارئ المستوصف -بشهادة إسعافات أولية- لم يعر الأمر أي اهتمام"، وجرى حقن المريض بحقنة "السيفترياكسون" عبر الوريد، لتُنهِي حياته بعد دقائق معدودة بعد أن تسببت له بحساسية مفرطة، وهبوط دقات القلب مع ضيق في التنفس، بينما كان في صيدلية المركز، يأخذ العلاج الذي وصفه له هذا "الكادر الطبي" كما ظهر في فيديو كاميرا المراقبة الذي حصلت عليه "خيوط".

يعمل هذا "الكادر الطبي" القادم من خارج اليمن، من إحدى الدول الآسيوية، في المركز الصحي الريفي بقسم "العناية الطبية"، كطبيب عام واستشاريّ بالخبرة فقط، بمؤهل مساعد طبيب، وتخصص أذن وأنف وحنجرة، حسب ما أدلى به من اعترافات للجهات المختصة، اطلعت عليها "خيوط" في مركز أمن مديرية قعطبة. 

رغم تعارض عمل هذا "الكادر الطبي" مع قانون المجلس الطبي رقم (28) لعام 2000، في مادته التاسعة التي تنص على منع أيّ طبيب من ممارسة العمل كأخصائي إلا بعد الحصول على شهادة اختصاص (دبلوم، ماجستير) أو ما يعادلهما بعد البكالوريوس مجازة من المجلس، فإنّه عمل في المستوصف كطبيب عام واستشاري، والذي يعد، وفق حديث الناشط الاجتماعي غانم صالح لـ"خيوط"، خطوة غير موفقة للمركز الصحي الذي لا يدقق في مؤهلات وسجلات الأطباء الذين يتم استجلابهم من الخارج، أو من داخل اليمن، وعدم مراعاة هؤلاء الأطباء لتقدير المجتمع اليمني للكادر الطبي بشكل عام، والأجنبي الذي يصفونه بالأفضل بشكل خاص، مع غياب دور الرقابة والمحاسبة من قبل وزارة الصحة والمجلس الطبي.

مختصون في علم الأدوية 

عميد كلية الصيدلة بجامعة صنعاء، أحمد السباتي، وهو أستاذ الصيدلة السريرية في الجامعة، يقول لـ"خيوط"، إن استخدام المضاد الحيوي "سيفترياكسون" لبعض الحالات -وهي نادرة- قد يسبب لها حساسية شديدة، وخاصة إذا كانت عبر الوريد.

يؤدي هذا العقار الطبي "سيفترياكسون" وفق السباتي إلى الإصابة بحساسية مفرطة عند بعض الحالات ينتج عنها هبوط شديد لدقات القلب، قد تؤدي إلى الوفاة كما يؤكد، وإذا كانت الحالة ذات حساسية عالية من المضادات الحيوي يصبح من الصعب جدًّا إنقاذها، حتى لو تم إعطاء المرض "ديكساميثازون" وهو الترياق المضاد للحساسية.

بدوره، يوضح عبد ربه الشاوش، أخصائي صيدلة مجتمع، لـ"خيوط"، بالقول: "يمنع الأطباء أخذ محلول "سيفترياكسون" مع "الليدوكايين" في الوريد، إلا أنه يمكن مزج "السيفترياكسون" مع "الليدوكايين" في الإبرة (الحقنة) العضلية لا الوريدية، وفي حال تم حقن المريض في الوريد، قد يتسبب في بعض الحالات بمضاعفات تؤدي إلى الوفاة.

يشير الشاوش إلى عدم استخدام "السيفترياكسون" للمريض الذي يعاني من تفاعل تحسسي لمادة "سيفترياكسون" وغيرها من "السيفالوسبورينات"، دون استشارة الطبيب المختص.

تقارير متعارضة وحبر القانون

يقر تقرير اللجنة الطبية المكلفة من قبل مكتب الصحة العامة والسكان في مديرية قعطبة، في يوم الأربعاء 23 أغسطس/ آب 2023، عقب نزولها إلى مركز أمن المديرية للتحقيق مع عاملي المركز الطبي؛ حدوث خطأ في تشخيص الحالة من قبل "أحد الكوادر الصحية" وطريقة استخدام الدواء، مع سوء إدارة الحالة للمريض، وبمشاركة جميع الكادر العامل في المركز، وقد حصل معدّ التحقيق على نسخة من اعترافات الكادر الطبي مع تقرير اللجنة الطبية.

كما يؤكد أن جميع الكادر العامل في المستوصف يحملون نفس المؤهل التخصصي المهني (شهادة الإسعافات الأولية للكادر العامل في الطوارئ، ومساعد طبيب، ودبلوم مختبرات لطبيب المختبر)، إضافة إلى فقدانهم شهادة مزاولة المهنة، موصيًا بإغلاق المركز لعدم وجود ترخيص طبي للمنشأة، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.

إلا أن تقرير الطبيب علاء عبدالغني الضبعي، الطبيب الشرعي المساعد بمكتب النائب العام، والذي حصلت "خيوط" على نسخة منه، يوضح أنّ الوفاة سببها ذبحة صدرية في جدار القلب عند البطينين الأسفل والجدار السفلي للقلب الناتج عن حدوث انسداد كامل للشريان التاجي القلبي، مؤكدًا أنّ العقاقير الطبية المرسلة من النيابة ليس لها علاقة في إحداث الذبحة الصدرية للمريض.

أقارب الضحية طالبوا بنقل القضية إلى محكمة دمت الابتدائية بعد أن شعروا بالتلاعب في تقرير الطبيب الشرعي، على حد تعبير شقيق الضحية، وسعي الوساطات القبَلية لحل القضية وفقًا للعُرف القبَلي؛ إلا أنهم عبروا برفضهم لتلك المساعي وتمسكهم بحقهم القانوني في إعادة تشريح الجثة ومحاسبة الجناة.

بحسب قانون المجلس الطبي فإن من يمارس مهنة الطب والوظائف المرافقة لها بدون تراخيص مزاولة المهنة من قبل المجلس يعتبر منتحلًا لمهنة الطب، وفقًا للقانون رقم (28) لسنة 2000، الذي ينص في المادة (10) منه على تولي المجلس الطبي إصدار التراخيص، ووضع قواعد لآداب وسلوكيات ممارسة المهنة، وتحديد المؤهلات والخبرات اللازمة للحصول على الشهادات الاستشارية والتخصصية لمزاولي المهنة.

وتنص المادة (4) من ذات القانون على حظر مزاولة المهنة قبل الحصول على ترخيص بذلك من المجلس، ويسري هذا الحكم أيضًا على الأطباء المتقدمين والزائرين قبل مباشرتهم العمل في المنشآت الحكومية والخاصة.

تزايد الضحايا

لم تكن حادثة الصيادي هي الوحيدة الناتجة عن مثل هذه الممارسات في اليمن؛ فالطفل أنس عبدالحكيم عامر (12 عامًا) ضحية أخرى لخطأ طبي في مستشفى المسجدين الحكومي بمحافظة ريمة (غربي اليمن) علي يد طبيب كان ينسبه هذا المرفق الطبي إلى الجنسية الروسية. 

فقدَ الطفل حياته، بعد إجراء عملية إزالة اللوزتين على يد الطبيب الذي اتضح أنه من جنسية أخرى، باكستاني (ح. ك)، أخصائي جراحة عامة، كما ورد في إعلان المستشفى الذي أعلن عن وصوله، والذي أشار إلى أنه طبيب جراحة عامة متخصص في إجراء العمليات التالية: (الزائدة، والفتاق، والمرارة، واللوزتين، والبواسير، والتصاق الأمعاء، والغدد، والكسور، وإزالة الحصوات، وجراحة الأطفال).

بحسب مصدر خاص من أبناء مديرية السلفية بمحافظة ريمة (غربي اليمن)، فضل عدم ذكر اسمه، تحدث لـ"خيوط"، عن توجه الطفل إلى مستشفى المسجدين لإزالة اللوزتين برفقة خاله شقيق والدته، وبعد إجراء العملية تعرض الطفل لنزيف حاد حتى فارق الحياة.

يضيف أن المستشفى يفتقر إلى الإمكانيات المؤهلة لإجراء العمليات، مؤكدًا عدم وجود غرفة العناية المركزة واحتياجاتها، إذ لا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن هذا المرفق الطبي لا يمتلك "سخانة" (آلة خاصة لسد الأوردة الدموية بعد إجراء العملية لمنع تدفق الدم)، وهذا ما حدث مع الطفل أنس الذي استمر بالنزيف حتى فارق الحياة.

حاولت "خيوط" التواصل مع والد الضحية وأقاربه إلا أنهم رفضوا الإفصاح عن معلومات حول هذا الموضوع، مؤكدين توصل إدارة المستشفى معهم إلى صلح قبَلي انتهى بتحكيم أولياء الدم الذين قبلوا التحكيم، واكتفوا بذلك وعفوا عن المتسبب في الحادثة. 

وفق هذا المصدر فإن الطبيب قد لاذ بالفرار بعد إجراء العملية، حيث ظل في المستشفى لمدة ثلاثة أيام فقط ثم غادر المحافظة بعد حادثة الخطأ الطبي إلى محافظة إب (وسط اليمن).

ثقة السكان بالكادر الأجنبي

يُرجع الناشط الحقوقي مطهر الخضمي، في حديثه "لخيوط"، سبب تزايد الأخطاء الطبية في الريف اليمني، إلى عقلية ملاك المراكز الصحية التجارية البحتة، واستغلاهم جهل المجتمع، وتهاون الجهات الرسمية في أوراق اعتمادهم كأطباء يمارسون مهنة الطب باعتبارهم أجانب وذوي خبرات عالية، وغياب دور الرقابة والتفتيش من قبل وزارة الصحة والمجلس الطبي.

ويتابع: "في حال تسبّب بحدوث الخطأ طبيب أجنبي، يعود إلى بلده دون معرفة الناس بحقيقة المؤهل الذي يحمله، هذا الأمر يتطلب حرصًا وتدقيقًا من الجهات الرسمية على الأجانب الذين يمارسون مهنة الطب، وفق معايير عديدة".

يَعدّ القانون اليمني الخطأ الطبي جريمةً جسيمة إذا نجمت عنه وفاة المريض، كما يوضح الخبير القانوني عنتر ناصر في حديثه لـ"خيوط"، إذ تنص المادة (241) من قانون الجرائم والعقوبات اليمني رقم (12) لسنة 1994، على: "يعاقَب بالدية المغلظة أو الحبس مدةً لا تزيد على ثلاث سنوات مَن اعتدى على سلامة جسم غيره بأية وسيلة، ولم يقصد من ذلك قتلًا، ولكن الاعتداء أفضى إلى الموت".

يرى ناصر أنّ القضاء لا يصدر أحكامه وفقًا للقوانين الطبية فقط، وإنما يعود إلى قانون الجرائم والعقوبات اليمنية رقم (12) لعام 1994، بما يتناسب مع حيثيات القضية، ثم يصدر الحكم القضائي وفقًا لذلك، في حين يعد المتوقع أعلى من ذلك؛ نظرًا لغياب الوعي بالإبلاغ عن الأخطاء، فضلًا عن حل الكثير منها في إطار الصلح القبَلي مع المتسببين بها.

وفقًا لإحصائيات المجلس الطبي -المتوفرة على المصادر المفتوحة- يصل عدد الكادر الطبي الأجنبي العامل في اليمن إلى نحو 4 آلاف طبيب وفني مختبرات وممرض بدون ترخيص في العام 2012، في حين انخفض العدد منذ نهاية 2014 ومطلع العام 2015 مع بداية الحرب في اليمن، إذ لا توجد إحصائية دقيقة لعدد الأطباء الأجانب العاملين بدون تراخيص في العام 2023. 

يشار في هذا الصدد إلى أنه في فبراير/ شباط من العام 2019، عقد مجلس النواب التابع لسلطة صنعاء، جلسة خاصة لمناقشة تزايد الأخطاء الطبية في المستشفيات الخاصة والحكومية، وأوضح خلالها وزير الصحة العامة والسكان في حكومة أنصار الله (الحوثيين)، طه المتوكل، أنّ "إجمالي الأخطاء الطبية والإهمال والقصور في اليمن يوازي 20.4% بالمقارنة مع بقية دول العالم، حيث تتوزع نسبة الأخطاء مناصفة بين الكوادر الطبية اليمنية والأجنبية العاملة في اليمن".

وفي عام 2018، وصل عدد الشكاوى الواردة للمجلس الطبي الأعلى إلى نحو 785 ملفًا، علمًا أن المتوقع أعلى من ذلك؛ نظرًا لغياب الوعي بالإبلاغ عن الأخطاء، فضلًا عن حل الكثير منها في إطار الصلح القبَليّ مع المتسببين بها. 

"خيوط" سألت عددًا من المختصين عن أسباب تزايد الأخطاء الطبية وحالات الوفاة، وتلخصت ردودهم في سببين رئيسَين: زيادة هجرة الأطباء الأكفاء من البلاد بحثًا عن فرص أفضل في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وتشغيل ممرضين وصحيين في القطاع الصحي ليس لديهم مؤهلات أو قدرات للتعامل مع الحالات الطارئة.

•••
حاشد الشبلي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English