في التغريبة اليمنية المغناة بصوت الفنان عبدالباسط عبسي، وبلهجتها العامية المعافرية "مسعود هجر" تتكثف واحدة من مآسي هجرة اليمنيين وانعكاسها المباشر على النساء الريفيات. غادر مسعود بلاده فجر يوم إثنين من زمن ما، وبعد أسبوع من الزواج فقط، بعد أن تراكمت عليه الديون، وتمدد الفقر فوق قريته وكل القرى المحيطة به، بل وفي كل أرض من بلاد اليمن؛ لخصت الأغنية بكلمات محفورة في أعماق الأرض وبلهجة أهل المعافر الريفية معاناة أغلب أبنائها في تلك الفترة (غير المحددة زمنيًّا). تسرد التغريبة في مطلعها لماذا وكيف جاءت فكرة السفر والاغتراب والهروب، من ظلم حكم نظام الأئمة الجائر، إلى أرض الله الواسعة بحثًا عن الرزق والحياة، مرددًا بصوت غنائي ريفي حزين:
من قلة المصروف وكثرة الدين
بكّر مسافر فجر يوم الاثنين
يوم الوداع سلّم وقال مودع
لا تحزني شَشْقي سنة وشرجع
شفارقك بعد الزواج بأسبوع
العين تدمع والفؤاد موجوع
ويوم الإثنين 30/12/2024، غادرنا وغادر الحياة صاحب كلمات هذه التغريبة اليمنية الشاعر والأديب الدكتور سلطان سعيد الصريمي. أظنها مصادفة غريبة وحزينة وثقيلة أيضًا.
التاريخ حين يكرر نفسه مرتين
قيل: "التاريخ يكرّر نفسه مرتين؛ مرة بشكل مأساة، ومرة بشكل ملهاة أو مهزلة"، وهي مقولة تنسب لكارل ماركس.
في المأساة عمقت هذه التغريبة جراح أغلب من عاشوا تلك الحقبة من الزمن ومنحها الفنان عبدالباسط العبسي لحنًا حيويًّا ضاربًا في جذور وأعماق حياة اليمنيين الحزينة والمعنونة بالفقر والعوز وقلة الحيلة، ولحن الموت اليومي الذي يعزف كل صباح لمغادرة مسعود أرضه دون أن يعود ليرى زوجته وأمه، والأهم طفله الذي لم يكن يعلم أنه بذره في أحشاء الزوجة في الأسبوع الأول من الزواج، وتركها في عز الشباب تقاوم حياة البؤس والشقاء والحاجة وتتألم، وحين لم تستطع الكبت صرحت بما تعانيه بكثير من الألم، ابتداء من مخاطبة العمة (أم الزوج الغائب) بشكل حزين جسّده صوت الفنان بطريقة مؤلمة، تلامس حياة كل يمني عاش في الريف وتعرض أو شاهد نفس التجربة لقريب هنا أو هناك:
وا عمتي كيف البصر لحالي
ضاع الشباب وطالت الليالي
قوتي القليل من الشقاء مع الناس
البسل أكل وجهي وشيَّب الراس
وهنا تتجلى المأساة بكل عناوينها وتفاصيلها الحزينة والمبكية.
وتستمر شكوى المرأة لتعلن عدم قدرتها على مواجهة صعوبات الحياة وفقًا لتغريبة تعودت أغلب الأسر تكرار مآسيها، ناقلة شكواها وتعبها لكل من حولها بشكل غنائي فيه تعب واستسلام لظروف الحياة القاهرة :
"ما اقدرش عاد اشقي ولا اقدر اسأب
ولا اقدر اتمهر ولا اطحن الحب
شهرين مريض ما احد ظهر يراني
يا رب تسامح الذي بلاني
لقد عاش صاحب هذه التغريبة حياةً مليئة بالصراعات والتناقضات، وعانى كثيرًا في سبيل إيصال فكرته إلى الناس، وهي تجسيد شخصية الإنسان البسيط (المهاجر والفلاح والراعية والمطارد السياسي وغيرهم)، التي نقش سيرها بدقة، وجعلها تتحرك وتعيش بيننا وتتجسد أمام أعيننا، والأهم أنه مدّنا من خلالها بالكثير من تفاصيل الحياة اليومية على هيئة قصائد حيوية، بطلُها الأول هو الإنسان البسيط، ولم تزل مثل هذه القصائد المغناة تفعل فعلها في ذائقتنا الموسيقية.
تتجسد المأساة التي تتكرر في كل بيت كلعنة أصابت اليمنيين منذ تغريبتهم الأسطورية إثر تهدم سد مارب، ومنها تحولت قصة مسعود إلى عنوان واضح لحياة اليمنيين خلال تلك الفترة وما بعدها وفي تفاصيلها أيضًا.
وفي الملهاة، غادر صاحب التغريبة يوم الإثنين أيضًا، ولكن بعد عقود خمسة من الزمن مرت بينهما، ولخّصت لنا أين يكمن وجع هذا الإنسان اليمني البسيط الذي ترك أرضه بحثًا عن حياة جديدة.
بين مغادرة مسعود ووفاة صاحب الكلمات حكايات وحكايات، منها المأساة ومنها الملهاة.
وفي المأساة أيضًا، أن مسعود بعد كل هذا العناء والتعب والشقاء لم يعُد إلى بلاده وأسرته، ويتجلى ذلك من خلال حديث الزوجة لابنها محمد:
أحرقتني لا تبكي يا محمد
الموت أفضل للفقير وأسعد
أبوك نسى الحنَّا وحُمرة الخد
أبوك نسى الزفَّة واليد باليد
وأني الوفاء لحدي والموت يشهد
وفي الأخير تلتمس له العذر وتسامحه على تركه لهم لمواجهة نوائب الدهر وتقلباته وحدهم، قائلة:
وصيتي يا بني تكن شهادة
بأنّ ابوك احرمني السعادة
لكن مسامح قد يكون معذور
وربما هو الأخير مقبور
ماذا لو عاد مسعود من جديد
في حديث للشاعر الصريمي، قال: "لو أعطيت لي فرصة إعادة الكتابة لهذه القصيدة من جديد، فإنني سأعيد مسعود حيًّا إلى أرضه ليزرعها ويهتم بتعليم ابنه محمد كي يساهم في بناء بلده وتعميرها، خصوصًا بعد ثورة ضحّى فيها أبناء اليمن كثيرًا ليغيروا واقع حياتهم التعيس"، إلى هنا وانتهى كلام الشاعر، لكن كل ما حدث في التغريبة هي تعبير وتجسيد للمأساة بكل تفاصيلها، التي ظلت تلاحق اليمنيين فترة طويلة من الزمن، والتي ما زالت عجلتها تدور بشكل عبثي حتى الساعة واللحظة، وحالما تنتهي قصة مسعود تبدأ معها تغريبة يمنية أخرى داخل كل بيت وكل أسرة، ومن تغريبة الصريمي وعبدالباسط "مسعود هجر" إلى تغريبة "البالة" لمطهر الإرياني وعلي السمة، وكذا تغريبة البردوني الشعرية "الغزو من الداخل":
لماذا نحنُ يا مَربَى
ويا منفى بلا سكَنِ
بلا حلمٍ بلا ذِكرى
بلا سلوى بِلا حَزَنِ؟
يمانيُّون يا (أروى)
ويا (سيفَ بن ذي يزنِ)
وتبقى الملهاة أيضًا، حاضرة بكل تفاصيلها بمغادرة صاحب التغريبة الحياة، تاركًا وطنًا متشظٍّ وممزق يغزوه الفقر والجهل والمرض من جديد، بعد 62 عامًا من قيام ثورة 26 سبتمبر ويهاجر أبناؤه من جديد بحثًا عن حياة جديدة ورزق في بلاد الآخرين، لتعود من جديد على شكل ملهاة، ومن هذه الملهاة تتحول حياة اليمنيين إلى جحيم من المفارقات التي عاشها الأجداد لتتكرر بين الأحفاد وليجدوا أنفسهم في نفس الدوامة والدائرة ونفس المآسي. وفي هذه الملهاة أيضًا تم تجاهل صاحب التغريبة وتركه وحيدًا دون اهتمام ودون عناية وبلا مستحقات أو رواتب بعد أن قدَّم لبلده عصارة أشعاره المغناة وخلاصة تجاربه الوطنية وحياته السياسية والثقافية.
لقد عاش صاحب هذه التغريبة حياة مليئة بالصراعات والتناقضات، وعانى كثيرًا في سبيل إيصال فكرته إلى الناس، وهي تجسيد شخصية الإنسان البسيط (المهاجر والفلاح والراعية والمطارد السياسي وغيرهم)، التي نقش سيرها بدقة، وجعلها تتحرك وتعيش بيننا وتتجسد أمام أعيننا، والأهم أنه مدّنا من خلالها بالكثير من تفاصيل الحياة اليومية على هيئة قصائد حيوية، بطلها الأول هو الإنسان البسيط، ولم تزل مثل هذه القصائد المغناة تفعل فعلها في ذائقتنا الموسيقية.
ارتبطت سيرة الشاعر بالكثير من النصوص، منها ملحمته "أبجدية البحر والثورة" التي أدتها فرقة الطريق، وأغنية "نشوان" التي أدّاها المرشدي، والكثير من كلمات الأغاني العاطفية التي تجسد عشقه للأرض والمرأة والحياة، مثل "تليم الحب في قلبي" التي أدّاها أيوب طارش، إلى جانب القصائد التي لحّنها وأدّاها توْءَم روحه الفنان عبدالباسط العبسي، مثل "متى وا راعية شمطر"، و"يا خضبان وردك جماله ثاني"، و"حنين الأرض يا سلمى"، و"يا هاجسي"، و"وا راعية"، و"باكر ذري"، وغيرها من القصائد المحفورة في مدونة الاستماع الشعبي في اليمن.