"في بيت أبي، لا أتذكر ولو مرة واحدة أني أكلت فخذ أو صدر دجاجة، فقد كانت لأمي قسمة معتادة لا تتغير، وقانون واحد لا يميل سوى لإخواني الذكور، كنا عندما ننتهي من طبخ الدجاجة، تأتي أمي، فتعطي لاثنين من إخوتي فخذَي الدجاجة، وتجعل الصدر من نصيب أبي وأخي الأكبر، وتضع أمامي الذنب وأختي أحد الجناحين، كان أبي وأمي يقدمون الذكور في كل شيء، لكن بحكم غياب أبي المستمر فقد كانت أمي هي وجه الظلم الدائم والمطبّق الفعلي لكل أحكام العائلة، أما قسمة الدجاجة فقد كانت مجرد نبذة صغيرة للتمييز في المعاملة".

هكذا شرعت منال حُميد، مربية أطفال في إحدى مدارس صنعاء، وهي تتحدث لـ"خيوط"، عن معاناتها مع التمييز في إطار أسرتها الصغيرة، حيث تقول: "الحديث حول هذا الموضوع، قد يبدو لبعض القرّاء أمرًا غريبًا، أو قد يقول قائل إنه حديث مبالغٌ فيه، لكنه بالنسبة لمنال وللعديد من الفتيات مجرد نقطة واحدة من حبرٍ أسود، سال من شفاه منال وكأنها تتقيّأ ذكريات طفولتها زمنًا حالك السواد". 

تمييز بصكوك دينية

في مجتمع تهيمن عليه النزعة الذكورية، يصبح الحديث عن قضية التمييز بين الجنسين من الأبناء، نوعًا من التحليق خارج السرب، والتجديف باتجاه مهمل ومجهول لا يلتفت له الغالبية من الناس، ويعتبرون الخوض فيه اعتراض على مشيئة إلهية ودعوة لتشجيع المرأة على التحرر والانفلات، ومن ثم فهذه القضية غير قابلة للنقاش، فضلًا عن النقد، وعلى الأغلب يكون ممارسة هذا التمييز سلوكًا معتادًا وغير ملاحظ بالمرة.

هناك استثناءات، وأُسَر تنظر إلى الأبناء نظرة واحدة دون تمييز أو تفضيل، لكنها تبدو ضئيلة للغاية، وتكاد لا تُرى أمام سلوك عام مبني على قوامة وهيمنة ذكورية لا تقبل بمساواة الذكور بالإناث، لا ماديًّا ولا معنويًّا، ولا تسمح بالاقتراب من هذه المسلّمات المجتمعية التي تسير عليها المعاملة عمومًا منذ أجيال متعاقبة، بل تعد مطالبة الفتاة بالمساواة بينها وبين أخيها عيبًا توبخ عليه أو حتى تعاقب. منال تضيف: "كلما ثرت في وجه أمي: لماذا كل هذا الحب لإخواني الذكور، وكلنا عيالكم؟ ترد بمنتهى القناعة والرضا بأن هذا كلام منزل من رب العباد -"للذكر مثل حظ الأنثيَين"- وبهذا يتحول النقاش من نقاش في أمور عدالة أسرية، إلى فتوى دينية، الاعتراض عليها بمثابة اعتراض على مشيئة الرب". 

لم يكن تساؤل منال لأمها، تساؤلًا عاديًّا، بل خلاصة ما اعتمل بداخلها من سخط وغضب وشعور بالظلم، في حين لم يكن ردّ الأم سوى جهل مقنّن ترعاه منظومة اجتماعية عبرت مجنزراتها عليها بصفتها امرأة في البداية، ثم ها هي تدرّس فتياتها، وقد تمضي قُدمًا أبعد من المستقبل المنظور.

في سياق متصل، تتحدث لـ"خيوط"، نسيبة منصور، ممرضة في أحد المستشفيات الخاصة بصنعاء، بلهجة المستسلم المذعن: "علّمتنا أمي أن كلمة (لا) لإخواني الذكور ممنوعة، وأن التأخر في تلبية ندائهم خطيئة، تعكس سوءًا في أدبنا وتربيتنا، مع العلم أنني وأختي أكبر سنًّا منهم، لكن من العيب أن يشتغل الذكر أيًّا مِن مهام البيت، وطلباته تأخذ أهميتها وقداستها من قداسة الوالدين".

الأُسَر المتفهمة في عائلتنا تسمح لفتياتها بإكمال تعليمهن الثانوي فقط، مبررة هذا القرار بأن التعليم قد يُفسد الفتاة، التي نهايتها بيت زوجها، ومن ثم فتعليمها ليس أولوية مقارنةً بالذكور، الذين ستترتب على عاتقهم مسؤوليات تحمّل أعباء الأسرة، علاوة على أنهم الامتداد الحقيقي الذي سيحمل اسم العائلة.

التمييز وصل إلى الرضاعة

نسيم محمود (اسم مستعار)، طالبة في المرحلة الثانوية، تتحدث لـ"خيوط"، عن بعض الممارسات التمييزية التي يرتكبها والداها لصالح إخوانها الذكور، حيث تقول: "نحن أربع بنات وولدان، أمي وأبي يفرقان بيننا في كل شيء؛ المعاملة، الحنان، الأكل، الخروج، اللباس، مصروف المدرسة، حتى أثناء جلسات الأسرة، ينهرنا أبي إذا قطعنا كلام أخوينا، بينما لا يلتفت إذا كانا هما من عملا نفس الخطأ". 

وتضيف: "حين يطلب مني أحد إخوتي عمل شيء، أو إحضار حاجة، وأتأخر أو أنسى، يضربني ويرفسني تحت قدميه، ولا يسمح لي بالمقاومة أو حتى إظهار التذمر من سوء معاملته، وإذا اشتكيت يكون الرد من أبي أو أمي: لا تردي على أخويك فهم رجال!". 

تتطرق ريم الغزالي، من محافظة إب، إلى شكلٍ آخر من أشكال التمييز، وهو الاهتمام والتركيز على تعليم الذكور دون الإناث، تقول الغزالي لـ"خيوط": "الأُسَر الجيدة والمتفهمة في عائلتنا تسمح لفتياتها بإكمال تعليمهن الثانوي فقط، مبررة هذا التمييز بأن التعليم قد يُفسد الفتاة، وأن الفتاة نهايتها لبيت زوجها، ومن ثَمّ فتعليمها ليس أولوية مقارنة بالذكور الذين ستترتب على عاتقهم مسؤوليات تحمل أعباء الأسرة، علاوة على أنّهم الامتداد الحقيقي الذي سيحمل اسم العائلة". 

من جانبها، تقول سهام منصر (اسم مستعار)، من المحويت، في حديث لـ"خيوط": "وصل التمييز في العائلة إلى حد الرضاعة، فلدي خالة رُزقت بتوْءَم؛ ذكر وأنثى، كانت ترضع الذكر أكثر من الأنثى، وإذا رأت طفلتها تطيل في الرضاعة، تبادر لتنزع الحلمة من فم الطفلة، وتغرسها في فم الطفل الذكر؛ لأنه ولد والولد يأخذ نصيبه سهمين؛ حد تعبير خالتي".

قائمة المحظورات الطويلة

عن تبعات السلوك العام للتمييز بين الجنسين، تجد الفتاة نفسها مجبرة على الخضوع والانقياد لهذا العُرف القسري، وتمضية أزهى سنوات عمرها في دروب لا تعنيها كثيرًا، وهو ما تؤكده، راوية سليمان (19 سنة)، من صنعاء، حيث تقول لـ"خيوط": "نعيش نحن البنات التمييزَ في مواقف لا تعد ولا تحصى، دائمًا نعاني من تفرقة الأهل بيننا وبين إخواننا الذكور، نُحرم من الخروج حتى لا يتكلم علينا أحدٌ بسوء، خاصة البنات العزبات، ممنوعات من التأنق، وحضور مجالس النساء الكبيرات حتى لا نسمع كلامًا غير مرخص لنا سماعه، وقائمة طويلة من المحظورات التي علينا الالتزام بها".

راوية تضيف: "بسبب الحصار والتشدّد المبالَغ فيه، حدث أن مجموعة من بنات عائلتنا، اتجهن لتعاطي الشيشة والتدخين، إلى أن وصل بهن الحال إلى تعاطي الحشيش عن طريق جارة لنا، كانت تأتي إلى البيت، اقترحت علينا تجريبه".

وتردف قائلة: "المساحة الممنوحة للذكور في بلادنا، في ممارسة هواياتهم، والصلاحيات الواسعة التي يتمتعون بها في اتخاذ قرارات تخص حياتهم وحياة أخواتهم الإناث، قابلها تقلّصٌ كبير حد الاختناق، لحقوق الفتيات، ما أجبرهن على تفريغ حنقهن واحتقانهن، وسد فراغهن بالتدخين، وما شابه ذلك".

التمييز الذي يحظى به الأبناء الذكور لا يقتصر على عطايا ودلال وحنان أكبر من البنات، ولا ينتهي عند حصولهم على قدر غير محدود من الحرية، بل إنّ ذلك التمييز يمنح الأبناء أحقية ضرب وتعنيف أخواتهم بدون شرطٍ أو قيد، ودون أحقية مطلقة غير كونهم ذكورًا.

مفاضلة على أساس النوع

المفاضلة بين الأبناء على أساس النوع، يؤثر سلبًا في شخصية الأبناء لاحقًا، إذ يسيطر على الفتيات الشعور بعدم كفاءتهن، والارتباك والخوف، وبذلك تكون هذه التنشئة قد قدّمت للمجتمع نساء غير قادرات على التفوق في الكثير من جوانب الحياة، وهذا الأمر تثبته دراسة نُشِرت في 2017، أشارت إلى أنّ الفتيات قبل أن يبلغن الستة أعوام من عمرهن، من المحتمل أن يتصورن الفتيان أكثر براعة منهن، وأفادت كريستيا براون، أستاذة علم النفس، في جامعة كنتاكي، بأن الدراسة تُظهر أيضًا أنّ الفتيات يستوعبن هذه الرسائل الثقافية في وقت مبكر من التطور، معتقِدات أنه من الممكن أن يعملن باجتهاد، لكن بالفعل لا يعتبرن ذكيات بشكل طبيعي، ويمكن أن تكون لهذه المعتقدات تأثيرات مهمة على نوع المسارات الأكاديمية التي يختار الأطفال خوضها، كما توضح السبب في اختيار الفتيات الابتعاد من مجالات رئيسية، مثل الفيزياء، رغم حصولهن على درجات عالية في المدرسة.

إن التمييز الذي يحظى به الأبناء لا يقتصر على أنهم يحظون بعطايا ودلال وحنان أكبر من البنات، ولا ينتهي عند حصولهم على قدر غير محدود من الحرية، بل إنّ ذلك التمييز يمنح الأبناء أحقية ضرب وتعنيف أخواتهم بدون شرطٍ أو قيد، ودون أحقية مطلقة غير كونهم ذكورًا. 

رانيا كمال (اسم مستعار)، طالبة ثانوية، تؤكد أن أفضليتها في التعليم لم تمنحها أي أفضلية، بل لم تمنع عنها تعنيف أخوَيها الأكبر والأصغر منها؛ وتضيف كمال في حديث لـ"خيوط": "أتعرض للركل واللطم، ويحدث أن يبصق أخي في وجهي وأكتفي بمسح بصاقه، وأنا متكورة حول نفسي، فعار كبير أن ترد البنت على أخيها أو تقاوم؛ هذا ما تقوله أمي ويصرح به أبي".

أعلن إخوة في المدينة

تتعاظم قسوة الحياة على الفتيات في الريف، إذ تتحمّل المرأة أعباء الفلاحة والمنزل والاعتناء بالمواشي، وتربية الأطفال، فالحياة هناك قائمة على جهد الفتيات والنساء عمومًا، فيما يكون الذكور إما مغتربين أو في المدن لإكمال تعليمهم، ومن ثَمّ يزداد حرص الأُسَر على العمل وبعث الأموال للأبناء الذكور في المدن. في المقابل، تحرق الفتيات أجمل سنوات عمرهن تحت أشعة الشمس في الحقول والوديان. في هذا الصدد، تتحدث بمرارة ووجع، أمل محسن (اسم مستعار)، من إب، لـ"خيوط": "عمري الآن أربعون سنة، لم أتزوج لا أنا ولا أختي الأكبر مني بسنتين -التي ترفض الحديث عمّا مضى وتعتبره عيبًا- حيث أجبرتنا أمي على البقاء دون زواج، وكانت ترفض كلَّ من يتقدّم لخطبتنا، وفضّلت بقاءنا للعمل في مزارع القات، نرسل المال لإخواني الذكور للدراسة". 

وتتابع أمل: "ذلك الكد كلّفنا كثيرًا، تشوّه وجهي بالبقع الداكنة والكلف، وخسرَت أختي الكثيرَ من صحتها، اليوم أنا وأختي عانسات، بينما إخوتي موظفون متزوجون ومستقرون في المدن، يكتفون بالاتصال بنا في المناسبات والأعياد".

‍