تواصل جماعة أنصار الله (الحوثيون) هجومها العسكري المكثف في محاولة مستميتة ومكلفة للسيطرة على مأرب شمال شرقي اليمن، المحافظة النفطية الاستراتيجية، منذ ما يقارب تسعة أشهر، في ظل انحسار التحركات الدبلوماسية الأممية والدولية تحسبًا لمن ستميل الكفة في هذه المعركة المصيرية التي ستحدد مستقبل الحرب في البلاد التي دخلت عامها السابع ومسار واتجاهات مفاوضات السلام.
ويلاحظ خبراء ومراقبون أن القوى الدولية المتحكمة في الملف اليمني نجحت في حصر المعركة في مأرب وجعلها بطريقة غير مباشرة كأنها حرب بين طرفين أو فصيلين متناحرين يدفعان -خصوصًا الطرف الذي يقوم بالهجوم العسكري في أكثر من جبهة- تكلفة بشرية هائلة في جبال وشعاب مأرب، في حين، يتعرض المدنيون والنازحون في هذه المحافظة للاعتداءات والانتهاكات بسبب هذه المعارك المشتعلة مخلفةً أوضاع إنسانية كارثية.
وبعد أربعة أسابيع من القتال والحصار في العبدية جنوب غربي مأرب، انتقلت المعارك إلى مديرية الجوبة الاستراتيجية، التي تشهد معارك طاحنة بين القوات التابعة لأنصار الله (الحوثيين) والقوات التابعة للحكومة المعترف دوليًّا مدعومة برجال ومجاميع قبلية.
واتهمت السلطات المحلية في مأرب أنصار الله (الحوثيين) باستهداف المدنيين والأحياء السكنية بالقذائف والصواريخ البالستية، آخرها ما حدث أمس من استهداف الأحياء السكنية بمنطقة العمود الآهلة بالسكان في مديرية الجوبة بصاروخ بالستي أدى لسقوط ستة قتلى وإصابة العشرات؛ العديد منهم جراحهم خطيرة في حصيلة أولية للقصف الصاروخي الذي استهدف منزل الشيخ عبداللطيف القبلي نمران.
تؤكد رضية المتوكل، رئيسة مواطنة لحقوق الإنسان: "إن استهداف المدنيين والمنشآت المدنية والطبية المحمية وكذلك الترويع الذي يطال المدنيين وغيرها من انتهاكات القانون الدولي في مأرب، يعكس درجة عدم اكتراث أطراف النزاع بحياة المدنيين، إذ إن إخفاق المجتمع الدولي في الاستجابة وإنشاء آليات دولية للتحقيق، يعزز سياسة طويلة الأمد لإفلات الجناة من العقاب".
وأكدت السلطات المحلية في مأرب أن فرق الإنقاذ ما تزال تجري البحث تحت الأنقاض عن ضحايا، مرجحة ازدياد حصيلة القتلى مع التوقعات بوجود آخرين كانوا متواجدين في المكان أثناء القصف.
وكانت السلطات المحلية التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا قد أعلنت سابقًا مديرية العبدية منطقة منكوبة بعد نحو شهر من حصار أنصار الله (الحوثيين) لها قبل سيطرتهم عليها، وذلك بعد ما تسبب حصارها بمنع دخول الغذاء والدواء والمياه وغيرها من الاحتياجات الاساسية للمواطنين، إلى جانب القصف المتواصل على المدنيين والقرى السكنية في المديرية بالصواريخ والأسلحة الثقيلة والمتوسطة.
فيما دعت الأمم المتحدة أطراف الصراع في اليمن إلى ضمان حماية المدنيين وتوفير ممر آمن للخروج من مناطق الصراع، في الوقت الذي تتواصل المعارك الضارية، بما في ذلك في محافظات مأرب وشبوة والبيضاء.
ويعاني النازحون مؤخرًا أوضاعًا سيئة غير مسبوقة منذ احتدام المعارك مؤخرًا بين القوات التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا وبين القوات التابعة لأنصار الله (الحوثيين)، منذ مطلع العام الحالي 2021 بشكل غير اعتيادي، ناهيك عن تعرض مخيمات النازحين لقصف صاروخي.
وبعد احتدام المواجهات في مأرب مطلع العام، اشتعلت المعارك بين الطرفين لتمتد خلالها جبهات القتال حوالي 250 كيلو مترًا من مديرية جبل مراد، الجوبة وصرواح ورغوان ومذغل والوادي، والتي تعتبر جبهة واحدة على خط طويل.
كما يسكن بعض هذه المناطق نازحون هربوا من معارك الجوف ومن الخانق ونهم إلى مأرب، إضافة إلى نازحين سابقين من محافظات مختلفة، كان هذا النزوح ليس الأول ولا الثاني، إذ إن البعض نزح نزوحه الخامس إلى هذه المناطق، والتي سبقتها رحلات من النزوح من محافظة إلى أخرى.
استهداف الأبرياء
وفي الوقت الذي كشفت فيه الأمم المتحدة عن نزح حوالي 10 آلاف شخص في مأرب شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، وهو أعلى رقم تم تسجيله في المحافظة في شهر واحد هذا العام، أكد حقوقيون أن الوضع الإنساني الحرج الناتج عن استمرار الأعمال العسكرية في مأرب على مدى أشهر يحتاج إلى تحرك أممي ودولي فوري لحماية عشرات الآلاف من السكان المدنيين العالقين وسط العمليات العسكرية.
في السياق، قالت مواطنة لحقوق الإنسان في بيان الأربعاء 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، إن الأطراف المتحاربة ارتكبت انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وسط تصعيد عسكري واسع النطاق في مأرب شمال شرق اليمن. تتحمل جماعة أنصار الله (الحوثيون) المناوئة لقوات الحكومة المعترف بها دوليًّا، مسؤولية العدد الأكبر من الانتهاكات التي وثقتها.
وأكدت رضية المتوكل، رئيسة مواطنة لحقوق الإنسان: "إن استهداف المدنيين والمنشآت المدنية والطبية المحمية وكذلك الترويع الذي يطال المدنيين وغيرها من انتهاكات القانون الدولي في مأرب، يعكس درجة عدم اكتراث أطراف النزاع بحياة المدنيين، إذ إن إخفاق المجتمع الدولي في الاستجابة وإنشاء آليات دولية للتحقيق، يعزز سياسة طويلة الأمد لإفلات الجناة من العقاب، وأضافت: "هذا الوضع مشين ويجب أن ينتهي بخلق مسارات مساءلة شاملة تردع المنتهكين وتنصف الضحايا وتحقق عدالة أوسع".
ومنذ أوائل العام 2021، اشتدت وتيرة النزاع المسلح في محافظة مأرب، حيث وثقت (مواطنة) هجمات برية وجوية وزراعة ألغام، وتورط الأطراف المتقاتلة في ارتكاب أنماط متعددة من الانتهاكات على الأرض، شملت ممارسات الاختفاء قسري والاحتجاز التعسفي للمدنيين، مع تصاعد أنشطة التعبئة والتحشيد والتجنيد العسكري للأطفال، واستهداف المنظمات الإنسانية بفرض قيود ومضايقات أثرت على عملياتها وتدخلاتها الضرورية تجاه المدنيين العالقين وسط حدة القتال المتصاعد.
ويطالب القانون الدولي الإنساني الأطراف المتحاربة بالتمييز في جميع الأوقات بين المقاتلين والمدنيين وبين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية، ويحظر الهجمات التي قد تسبب ضررًا غير متناسب للمدنيين. على نطاق أوسع، يجب على الأطراف المتحاربة اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتقليل الضرر اللاحق بالسكان المدنيين. في كل من هذه الهجمات، أخفقت الأطراف المتحاربة في الوفاء بهذه الالتزامات، وتسببت في أضرار لا داعي لها للمدنيين اليمنيين.
كما تسببت هذه الهجمات في موجة إضافية من الأذى للمجتمع الكبير من النازحين داخليًّا الذين يعيشون في مأرب. ومنذ بدء النزاع المسلح في اليمن في سبتمبر/ أيلول 2014، ارتفع عدد السكان في مأرب نظرًا لازدياد موجات النزوح الداخلي إليها، حيث تعد مركز استقبال للنازحين من مختلف محافظات البلاد، إذ نزح داخليًّا ما لا يقل عن مليوني نازح. فر الكثير منهم إلى مأرب.
وعقب العمليات العسكرية المتصاعدة في المحافظة، شهدت منذ منتصف يناير/ كانون الثاني 2020 حتى أواخر أغسطس/ آب 2020، مديريات مجزر ومدغل شمال مأرب موجات نزوح واسعة، بالإضافة إلى مخيمات صرواح (مخيم ذنة، ومخيم الهيال، ومخيم الصوابين). العديد من هؤلاء الأفراد، وخاصة أولئك الذين يعيشون في مخيمات صرواح، سبق أن نزحوا من قبل وأجبروا مرة أخرى على الفرار بحثًا عن الأمان.
وحسب مصفوفة حركة النزوح الخاصة بمنظمة الهجرة الدولية التي تمتلك إمكانية الوصول إلى سبع مديريات من 14 مديرية في محافظة مأرب، فإنه قد نزح ما يقارب 10 آلاف شخص في شهر سبتمبر/ أيلول 2021، وهي أعلى المعدلات المسجلة في مأرب خلال شهر واحد من هذا العام 2021.
ودعت المتوكل إلى "فتح ممرات آمنة وتسهيل الوصول الفوري وغير المشروط للمساعدات الإغاثية والطبية إلى جميع المناطق دون استثناء".
ويتطلب تفاقم الأوضاع ومعاناة المدنيين وقف شن الهجمات ضد الأعيان المدنية والمدنيين، وغيرها من انتهاكات القانوني الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ إذ يتحمل المدنيون الكلفة الأكبر نتيجة النزاع المسلح، ولم يروا بعد أي تحولات نحو المساءلة.
يرى ناشطون وسياسيون ومراقبون أن الصمت الدولي المطبق وبعض الأطراف المحلية على ما يجري في مأرب تركها للبندقية لتحدد مصيرها ومستقبلها، إذ رغم التفوق النسبي الحاصل من قبل القوات التي تهاجمها التابعة لأنصار الله (الحوثيين)، إلا أن القوات المدافعة عن مأرب تستمر بالدفاع المستميت عن آخر معاقل الحكومة المعترف بها دوليًّا في شمال اليمن.
ومع استمرار تصاعد أعداد الضحايا، يجب على الأطراف المتحاربة وضع حد فوري للانتهاكات المروعة للقانون الدولي التي يرتكبونها ضد السكان المدنيين في مأرب واليمن على نطاق أوسع. كما يجب على المجتمع الدولي أن يقف لمساندة ضحايا هذه الهجمات ومحاسبة مرتكبيها ووضع حد لسبع سنوات من الإفلات من العقاب.
صمت وزحف
يرى خبراء ومراقبون أن عملية استنزاف هائلة تجري في المناطق الجنوبية في مأرب، خصوصًا من قبل جماعة أنصار الله (الحوثيين)، التي دفعت بأعداد هائلة من المقاتلين في محاولاتها المستميتة للسيطرة على آخر معاقل الحكومة المعترف بها دوليًّا في شمال اليمن.
فيما هناك طرف آخر، وفق هؤلاء المراقبين، المتمثل بالقوات المشتركة التي تضم تشكيلات عسكرية متعددة من حراس الجمهورية التي يقودها طارق صالح وألوية العمالقة الجنوبية، والتي أشرف على تكوينها التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات- يعاين المعركة كطرف محايد، وترتيب نفسه ليكون المستفيد الأول منها بعد إنهاك الأطراف المتقاتلة خصوم الإمارات، الداعم الرئيسي للقوات المشتركة المتركزة في الساحل الغربي من اليمن.
فيما تغض الحكومة المعترف بها دوليًّا الطرف عمّا يجري في مأرب بعد عودتها مؤخرًا من الرياض إلى عاصمتها المؤقتة عدن، وتظهر تركيزًا أكبر على مواجهة الأزمات الاقتصادية والانهيار المتواصل للعملة المحلية.
ويرى ناشطون وسياسيون ومراقبون أن الصمت الدولي المطبق وبعض الأطراف المحلية على ما يجري في مأرب، تركها للبندقية لتحدد مصيرها ومستقبلها، إذ رغم التفوق النسبي الحاصل من قبل القوات التي تهاجمها التابعة لأنصار الله (الحوثيين)، إلا أن القوات المدافعة عن مأرب تستمر بالدفاع المستميت عن آخر معاقل الحكومة المعترف بها دوليًّا في شمال اليمن.
وكتب حسين الوادعي على موقع التواصل الاجتماعي تويتر أن الحرب في اليمن انتهت فعليًّا مع سقوط "نهم". لكي تكون الحرب حربًا تحتاج لطرفين في حالتي هجوم ودفاع، أما حين يصبح الهجوم من طرف واحد فقط، والدفاع والهزائم من نصيب الطرف الآخر، فهذا يعني أن الحرب انتهت، وأن ما يجري لا يتعدى معارك مسح الطاولة!
فيما يرى الصحفي جمال حسن أنه عندما فضل بعض الأطراف (يقصد المنضوية في إطار الحكومة المعترف بها دوليًا) الانخراط في خصومات جانبية منحوا جماعة الحوثي المكاسب، لافتًا إلى أن تلك الخصومات الجانبية انبرى لها ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي وفضلوا أن يكونوا أدوات صغيرة، بينما "الحوثي" كرس نفسه لمشروعه دون سواه، وفي الغد سيتساقط المتفرجون كأحجار الدومينو.
وقال حسن إن المعركة في آخر ثلاثة أعوام تركت لجماعة الحوثي أن يختار هو زمانها ومكانها، وأن يكون هو الطرف الذي يهاجم وخصمه يكتفي بالدفاع، وفي معادلة كتلك يمتلك المهاجم الأفضلية؛ إنها معركة لا يمكن تقييدها بحدود، فحين يتوقف الزحف شمالًا، لا بد أنه سيتخذ مسارًا عكسيًّا، متسائلًا: أين سيتوقف؟