منذ زمن بعيد قُسِّمَ المجتمع اليمني إلى طبقات هرمية أدناها طبقة تسمى (الأخدام) وهي تسمية جارحة؛ نظرًا لحمولتها الدونية، لكن المجتمع لاحقًا أطلق على أفراد هذه الطبقة (المهمشين)، وهي طبقة تعيش على الهامش في كل تفاصيل الحياة وتأبى الاندماج في المجتمع، وتساعدها على ذلك السلطة، بعدم التفكير العملي بحل جذري وحازم لهذه المشكلة.

والمهمشون طبقة معدمة مستضعفة محرومة، تسعى في كل حياتها إلى أن تعيش يومها كيفما اتفق، كما تسعى بكل قوة إلى البقاء في الهامش، وهي فئة يكدح فيها الأطفال والنساء والعجزة، ويقضون حياتهم في التسول والتجول من مكان إلى آخر؛ بحثًا عن قوت يومهم. وقد ازداد الأمر صعوبة لديهم بسبب الحرب؛ إذ نزح كثيرٌ منهم من مناطق الاشتباكات إلى محافظات النزوح، مثل إب، وذمار، وشكَّلوا تجمعات هامشية كثيرة أثقلت كاهل المدن وأغلقت معظم مداخلها ومخارجها، وصاروا لا يكتفون بالتسول فقط.

إنّ أفراد هذه الطبقة يعيشون عزلة واسعة عن مجتمعهم، ويرفضون دومًا الاندماج بوصفه ذوبانًا في المجتمع والدخول معه في كينونة واحدة دون تمييز، إنّهم يتشبثون بتمييز ذواتهم عن أفراد الفئات الاجتماعية الأخرى بشكل يمثّل سياجًا حادًّا يمنعون من خلاله الآخرين من الاقتراب من أسرارهم وخباياهم، وبالمقابل يشعر المرء أنّ المجتمع -لا إراديًّا- يسهم في رفض اندماجهم فيه لعدم تكافؤ المستويات الفكرية والصحية والاقتصادية أيضًا.

يعيش المهمشون بمفردهم ولذواتهم بشكل يمثل غموضًا لدى البعض، حتى إنّ حياتهم تكاد تكون أقرب إلى الأساطير؛ إذ لا يعلم أحدٌ شيئًا عن طقوسهم في الحياة ولا تفاصيل حياتهم اليومية، لا يعلم أحد هل يموتون، أم تقتصر حياتهم فقط على التناسل، وقد سأل سائل من قبل: أين يدفن المهمشون موتاهم؟ مثلًا، وهو سؤال لا يقل قلقًا عن أسئلة أخرى، منها: هل يتعلمون؟ هل يدركون أنّ ثمة حياة أخرى غير التي يعيشونها؟ هل يفكرون –ولو لبرهة- في الخروج من راهنية عذاباتهم وعيشهم في الهامش؟ أين؟ وكيف؟

إنّ الاندماج بالنسبة إليهم وإلى المجتمع مشكلة. لكن ما هي أسبابها وتأثيراتها عليهم وعلى المجتمع؟ وما هي الحلول لها؟

من زاوية إنسانية، يمثّل الاندماج لهذه الطبقة مشكلة كبيرة، ومأزقًا يضع السلطة والمجتمع أخلاقيًّا على المحكّ، لكن الأمر يبدو مختلفًا تمامًا إذا عرفنا أنّ المجتمع لا يمنع الاندماج، وأنّ السلطة قد حاولت في تجربة كبيرة في صنعاء ما بين عامي 2005 و2006، توفير حلول وبناء مساكن لهم وتسلميها إياهم مجانًا بعد صدور قرار إزالة مخيماتهم من مداخل العاصمة ومجاري السيول، لكنهم بمجرد أن استلموا هذه المساكن شرعوا في بيعها والعودة إلى مخيمات المهمشين في أماكن متفرقة، لأسباب عدة، من وجهة نظر أحدهم، إذ يقول: 

"لا تعجبنا حياة السكينة والهدوء والاستقرار في منازل فارهة". وحينما تم سؤاله عن السبب، استطرد قائلًا: "السكن في منزل يعني الاستقرار، والاستقرار يعني انقطاع الهبات والصدقات من فاعلي الخير، وذلك يعني البحث عن عمل جادّ كما يفعل أفراد المجتمع الآخرون، ونحن لا نريد ذلك؛ لأنّ ما يمنحنا إيّاه الناس أفضل، ودون عناء أو مشقة، فحينما نكون في مخيمات هامشية مهلهلة وغير نظيفة، وحينما نكون في حالة تنم عن الحاجة والعوز نكون في حال أفضل؛ لأنّنا نستدر عطف الآخرين، إنّ هذا الوضع مفيد لنا بشكل كبير".

إنّ أفراد هذه الفئة -إذن- يرفضون الاندماج، ولا يقبلون بالاستقرار مطلقًا، وهو ما يؤكّده أحد أصحاب المنازل الذي اقتحم أحد المهمشين وعائلته غرفة مجاورة لمنزله واستقروا بها، إذ يسرد الحكاية لهذه الحادثة، قائلًا: "في ليلة احتل أحد المهمشين وعائلته غرفة أمام منزلي، واستقروا بها، رافضين الخروج منها، بحجة أنهم نازحون ليستدرّوا عطفي وعطف الجيران وهو ما حدث، وما إن استقروا بها حتى أحالوها إلى مخيم وألبسوها (طربالًا)، وأحالوا المكان أمامها إلى مجمع للمخلفات والنفايات. ويضيف حاولنا كثيرًا أن نجعلهم يعيشون حياة طبيعية مثلنا، لكنهم رفضوا ذلك، وأصرّوا على بقاء الوضع مهلهلًا ليستدرّوا عطف الجيران والمارّة". ويختتم بقوله: "لقد جعلونا نعيش حياتهم ودفعونا إلى تقبل الوضع الذي يعيشونه، ونتقبّل كل مخلفاتهم الملقاة أمام منازلنا، لكنهم رفضوا بالمقابل أن يعيشوا حياتنا برغم ما نمنحهم من هبات تستطيع أن تنسيهم أنّهم مهمشون، وترتفع بهم إلى الحياة الطبيعية".

من الحكايتين يتضح أنّ ثمة قابلية للانفراد من قبل المهمشين، وعدم قابلية الاندماج مع مكونات المجتمع فعليًّا، وهو ما يؤكّد أن تحقيق هذا الاندماج يحتاج إلى وضع خطة واسعة وشاملة ومرحلية يتم من خلالها تأهيل أفراد هذه الفئة فعليًّا، ودفعهم إلى التعليم بأي شكل، وزرع حب الانتماء والاندماج في نفوسهم؛ حتى يتمكّنوا من تقبل الحياة بشكلها الطبيعي، ويتحولوا إلى فئة فاعلة في المجتمع، لا عالة عليه، ومن زاوية أخرى، جَعْل المجتمع ذاته يسهم في دفع أفراد هذه الفئة إلى الاقتراب منهم والعيش مثلهم ومعهم.

إنّ المهمشين في اليمن كله يعيشون حياة العوز والفاقة والتيه، لكن ذلك بفعل أيديهم أولًا، وبإهمال الدولة لهم ثانيًا، كما أنّهم يشكّلون ثروة بشرية مهدورة تعيق تنمية المجتمع ولا تسهم فيها، وهو ما يستدعي الوقوف الجادّ من قبل الدولة والمجتمع فعليًّا أمام حالتهم، أو الإسهام في إخراجهم من نفق التهميش إلى فضاءات الحياة السوية، والارتقاء بهم إلى المتن؛ ليصبحوا مكونًا سليمًا في مجتمع مترابط تذوب فيه الطبقية وتبعاتها، ويكدحوا سوية من أجل بناء مجتمع تتعاون فيه المكونات كلها.

‍