ليس بالضرورة أن تكون أي امرأة، وخاصة النماذج الرائعة، زعيمة حزب أو بلد لنكتب عنها ونُشيْد بقدراتها، ونحييها في مثل هذا اليوم الذي تعتبره كثير من الدول يومًا لتكريم المرأة، فتعتبره يوم إجازة.
هنا وهناك كثير من النماذج العظيمة؛ نساء قدمن ما لم يقدمه كثير من الرجال، ضحين وبذلن الجهد ونحتْنَ الصخر في سبيل أولادهن ومجتمعاتهن ونجحن من بيوتهن في صناعة حياة متميزة وربين أولادًا ناجحين وأثبتن بالفعل أن وراء كل عظيم امرأة، يدفعن أزواجهن إلى العُلا ليقفوا مع العظماء في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة ومختلف مناحي الحياة.
اليوم العالمي للمرأة 8 مارس، قالها زميلي محمد راجح: اكتب عنه، ثم عاد ليقول: اكتب عن الفاضلة أم هشام وحسام، قلت على الفور: شرف كبير أن أكتب عن "بنت الحاج"؛ النموذج الملهِم لكثير من النساء في الحب والتضحية والإيثار ومد يد الإنسان لكل من يستحق أن تمد إليه وإليها الأيدي.
قد يكون الأمر يعنيني وأسرتي شخصيًّا، لكن بإشارة المهني المتميز محمد راجح، يعني أنها قدّمت في مسيرتها ما جعل الآخرين يطلبون الكتابة عنها.
في هذا اليوم، التحية واجبة لها ولحسن، تلك التي ربت 11 ولدًا وبنتًا وأخرجتهم للحياة ناجحين، ذكورًا وإناثًا، التحية واجبة لفتحية التي تُوفِّي زوجها لتجد نفسها أمام ولد وبنت يتيمَين، وفي بيتها غير اليباب لا يوجد، لكنها صممت وربّت ونجحت، واليوم يشار إليهما ولها بالامتنان على نجاحها.
"الأم مدرسة إذا أعددتها …" تنطبق هنا على حالة بنت الحاج التي لا تكل عن العمل ولا تمل، ها هي هذه اللحظة برغم حالة النسيان التي تخيم على ذاكرتها، هي في المطبخ الآن بجانب مريم التي أتت يومًا طفلة من المحويت، ربتها واعتنت بها حتى أحيت لها حفل زواجها، كما اهتمت ببنتها.
التحية واجبة لصاحبة ثلاء، التي لم تترك سيارة الخضرة وراحت تجوب بها الأسواق بحثًا عن الرزق، وتربي أولادها لتصير علامة من علامات النجاح.
اليوم العالمي للمرأة التي أقصدها:
تبدأ الحكاية من مِعْلَامَة القرية عند الفقيه علي نعمان (رحمه الله). تقوى وعبدالرحمن؛ بنت الحاج وابن الشيخ يقرَأَان عند الفقيه، والدها الحاج كان يدري أن المرأة لها حقوق وأي حقوق، وأنها لا تقل عن الرجل في شيء، فعلّم الأولاد والبنات.
قرأنا باللوح وجزء "عم" حتى إذا وصلنا إلى المنتصف، هي ذهبت إلى عدن أيام بريطانيا، وأنا إلى تعز أواخر أيام عهد الإمام.
تمر السنين، تعود من عدن إلى القرية، أعود أنا في إجازة، يلعب القدر دوره لحظتها، لنجد أنفسنا زوجين منذ ليلة 1 أبريل العام 83، لتبدأ رحلة النحت عن اللقمة المغمسة بالشرف والكرامة.
بدأت من شقة شارع الزبيري، تغطي النوافذ بأعداد صحيفة الثورة والصحف الأخرى. وفراش يسير ومطبخ متواضع وامرأة ربة بيت متميزة تدري كيف تدبر نفسها على قلة القروش الآتية من مرتب بلغ يومها 24 ريالًا، وبه تفتح بابها لإخوتي وأولاد عمي. كنا قد سكنا في بيت داهمه ذات ليل دفق من مياه المطر وكدنا نغرق ونحن نائمون.
من شقة الزبيري إلى منزل في حدة بالإيجار ووتيرة الحياة تجري ولا تتوقف.
يأتي أول ولد فتكبر أعباء الحياة، لكنها تدبر نفسها، وكلما زاد المرتب بضعة ريالات فتحت بها آفاق جديدة. يوم تصلح مطبخها، وآخر تضيف دولابًا تبحث عنه في سوق الحراج، تربي الأول، تعتني به، يأتي الثاني والثالث، ونختم أسرتنا بتاج الصغيرة.
تستقر حياتنا إلى حد كبير بفضلها، وبفضلها بنينا بيتنا وسكنّا في 28 يوليو 94، ولم تستقر هي، تتعرف على جيرانها، تذاكر لأولادها، تجدد حياتها وحياتنا كل يوم، إذا سافرت داخل البلاد أو إلى الخارج أعود وقد أضافت جديدًا، وإن لم تجد تزحزح الدواليب من مكانها.
عدت من تعز العام 2006، لأجد واجهة حوش البيت، وقد "انتعث" (امتلأ) ترابًا، فسألت صديقي المهندس أحمد سيف: ما هذا يا أحمد؟ قال: بنت الحاج أصرت على عمود هنا، حيث أشار، ليكبر ديوان الطابق الثاني، وهذا الذي كان.
رعت بنت الحاج إخوتي، لم تقصِّر في حقهم أبدًا، وهم يرعون الجميل. أولاد عمي مروا من بيتنا، وكان لهم نصيب من اهتمامها ورعايتها، وإلى القرية حتى عندما اشترت ثلاجة جديدة رممت اب "إيديال" وأرسلتها إلى القرية لبنات عمي، ولا تزال تستخدم إلى اليوم.
ظلت ترعى أمي إلى القرية، آخر كل شهر ينتصب أمامي الكيس إياه، وأدري أن بنت الحاج جهزت كل المطلوب، تأمرني بأن أمر به إلى السيارة التي تذهب إلى القرية ففعل.
لا يوجد أحد في قريتي وقريتها لا يشكر الله و"بنت الحاج" التي تسأل وتمد يدها بما تستطيع، وعندما حان تخرُّج حفيدات شيخ مشائخ الجنس الأسود ورفض حتى عمهن حضور حفل تخرجهن، انبرت تقوى نعمان محمد غالب، أو بنت الحاج، لتقول: "أنا أمهن وأنت أبوهن"، اشترت الورد والهدايا وذهبنا إلى القاعة واحتفلنا بمن يتهرب أقرب الناس لهن من الظهور معهن.
ليس لأنها أم أولادي أقول كل هذا -بل هذا بعض ما يفترض أن يقال- بل لأنها "بنت الحاج" والتي أكملت الثانوية العامة وكانت ترغب بالمواصلة وأنا شجعتها، لولا أن البيت والأسرة شغلتها عن نفسها، لكنها نالت درجة دكتوراه الحياة بما ظلت تقدمه لأسرتها وعائلتنا وجيرانها طوال أعوام لا تزال تجري، لولا أن حالتها الصحية أضرت بنا إلى حد كبير، ومع هذا نراها عندما تخرج معي، ونمر على ابن عمي المعاق بسبب حادث مروري، لم تنسَ السؤال المعتاد: هل أكلت؟
"الأم مدرسة إذا أعددتها …" تنطبق هنا على حالة بنت الحاج التي لا تكل من العمل ولا تمل، ها هي هذه اللحظة برغم حالة النسيان التي تخيم على ذاكرتها، هي في المطبخ الآن بجانب مريم التي أتت يومًا طفلة من المحويت، ربتها واعتنت بها حتى أحيت لها حفل زواجها كما اهتمت ببنتها. ومريم ترد الجميل، وابنها يتربى عندنا، ويدرس في مدرسة خاصة على حساب نجلي الأوسط هشام.
سأفرد يومًا كتابًا عن زمن بنت الحاج، الزمن الذي لا يزال مستمرًا رغم كل التعب.
في اليوم العالمي لبنت الحاج، التحية إلى كل امرأة يمنية في الريف أولًا، وفي المدن ثانيًا، وبالذات كل امرأة ضحّت وصنعت حياة حقيقية على أي صعيد.