في شبابه الباكر، قَدِمَ عبد الله الجرادي، من مديرية "بني العوّام" بمحافظة حجة، مع عائلته إلى مدينة جدة السعودية (حيث يعمل) هناك، وُلدت ابنته "وردة"، التي عاشتْ برفقته بداية طفولتها، قبل أن تعود لاحقًا مع بقية العائلة _عدا الأب_ إلى اليمن، وفيه نشأتْ وتعلمتْ أبجديتها الأولى وصولًا إلى البكالوريوس في قسم المكتبات وعلم المعلومات، من كلية الآداب بجامعة صنعاء.
من بين قلّة من النساء في حجّة، أُتيحَ لـ"وردة" ما لم يُتَحْ لقريناتها من تشجيعٍ عائلي ورعاية ساهمتْ في إرواءِ نزوعها اللافت إلى المعرفة واقتناء الكتب، دون مساسٍ بحقها في التفكير والاختيار والتعبير عن الذات؛ شأن أي عائلةٍ عصريةٍ تؤمن بأبنائها دون مِحَكٍ جِندري؛ الأمر الذي كان له أثر حاسم في حياتها وشخصيتها فيما بعد.
في وجود الحافز والشغف، لمعت موهبة "وردة" في الكتابة الإبداعية والسردية، دون أن تتقيد بغرض واحد، إنما بما يمليه الواقع وتجيشُ به العاطفة، تكتب "وردة " للوطن، للسلام، للحب، والجمال.. بعفوية لا تخلو من دهشة لا تبارح أسلوبها السهل الممتنع، جِدًّا أو هزْلاً، شأنها في ذلك شأن الكاتب المجيدين.
مثابرة وكنف دافئ
لا تنفي الجرادي حقيقة أن النجاح الفعلي لا يولد اعتباطًا أو مصادفة، إنما نتيجة رصيدٌ تراكمي من الخبرة والمثابرة، وقبل ذلك وجود هدف يستنهض العزم من البدء إلى المُسْتَقر. وجدت وردة سندًا عائليًا أزاح عنها كثيرًا من الموانع التي كان من الممكن أن تكبح إبداعها.
لذا يرافق "وردة" شعورٌ كبير بالامتنان لعائلتها، نظير التشجيع الذي أُحيطتْ به منذ الطفولة، واستمر معها إلى حيث هي الآن، فهي تعزو نجاحاتها إلى عائلتها المتمثلة في الأب والأم وأخوات ثلاث وأخ وحيد.
أسهمت في صياغة مواد قانونية للحد من عمليات التهريب والاتجار غير المشروع بالمخطوطات اليمنية، من خلال جهودها كعضو في لجنة صياغة قانون حماية المخطوطات بمجلس النواب اليمني، مع مجموعة من الخبراء والمشرعين في هذا المجال.
بكثير من الإعزاز والثقة تتحدث وردة لـ"خيوط"، عن والدها، قائلة: "لدي أب يملك من الحنان والحب والعطاء والتضحية ما يكفي لملء قلوب البشرية على هذا الكوكب، فهو من ترك لي الحرية الكاملة لاختيار ما أريده في مسيرة حياتي؛ دعمني وساندني، وأزال عني جميع المخاوف التي من الممكن أن تواجه أي فتاة في مقتبل الحياة؛ أمي أيضًا كان لها دور مماثل، فقد تحملت غربة أبي، وقاومت الأوجاع والتعب، ليتسنَّ لنا اكمال تعليمنا الجامعي".
في ذلك الكنف الدافئ، ترعرعت موهبتها في الكتابة، متأثرة بخالتها البروفيسور آمنة يوسف، الناقدة والقاصة، التي نقلت إليها عدوى الكتابة القصصية، إضافةً إلى المساحة التي أتاحها لها الدكتور عبد العزيز المقالح، لنشر بعض كتاباتها في الصفحة الخاصة به بصحيفة 26 سبتمبر.
شعر وكتاب في التراث
بوهجٍ مُتَّقد، تطِلُّ وردة الجرادي عبر مجموعتها الأولى التي ستنشر قريباً "أسطورة الصدى"، التي تحوي نحو خمسين نصًا أدبيًا، كل نص في المجموعة يجسِّد دهشة خاصةً، بالإضافة لكتاب مُعدّ للنشر بعنوان "نفائس المطبوعات بدار المخطوطات"، وهو كتاب توثيقي عن المخطوطات اليمنية القديمة بالدار، ومن المقرر أن يكون مرجعًا مهمًا للباحثين والمهتمين حال طباعته.
كما أنها دأبت منذ سنٍ مُبكِّر على كتابة العديد من المقالات العلمية والأدبية التي نُشرت في منصات ووسائل إعلام محلية وعربية، إلى جانب مشاركتها في سلسلة من الندوات التي تنظمها المراكز والمؤسسات المعنية بالمخطوطات خارج اليمن.
شغف وانتماء
بعد تخرجها من كلية الآداب جامعة صنعاء، قادها الشغف إلى الالتحاق بـ"دار المخطوطات اليمنية" بصنعاء بدافع شعورها بالانتماء إلى التراث اليمني، ويقينها بقدرتها على القيام بدور استثنائي في حماية الإرث التاريخي والثقافي للبلاد، فضلًا عن كونه مكاناً يعزز تخصصها الأكاديمي، وقد تسنى لها ذلك سنة 2011.
تتحدث وردة لـ"خيوط"، عن تلك التجربة قائلةً :"عملت حينها في مجال الفهرسة والتوثيق والترميم وصيانة المخطوطات، ومديرةً للشؤون المالية والإدارية بالدار، عندها كرست جهودي القصوى في خدمة المخطوطات، من خلال توعية المجتمع بأهمية الحفاظ على ميراثهم الثقافي، وحاولت _بشتى الطرق جلب الدعم للدار عبر مشاريع لحماية المخطوطات، من مؤسسات ومنظمات داخل اليمن وخارجها".
خلال إحدى عشرة سنة، ساهمت الجرادي، من واقع كونها عضوًا في لجنة الاقتناء بدار المخطوطات اليمنية في إثراء الدار بعدد وافر من المخطوطات التي كانت بحوزة المواطنين، بعد أن نجحت في إقناعهم الدار، نظير مبلغٍ عادلٍ ومرضٍ تحدد قيمته المُستحقة بمقتضى خبرتها الموسوعية بالتراث المسطور.
كما أسهمت في صياغة مواد قانونية للحد من عمليات التهريب والاتجار غير المشروع بالمخطوطات اليمنية، من خلال جهودها كعضو في لجنة صياغة قانون حماية المخطوطات بمجلس النواب اليمني، مع مجموعة من الخبراء والمشرعين في هذا المجال.
وبالرغم من العطب الذي لحق معظم القطاعات الحكومية جراء الصراع الدائر في البلاد، لم يكن بالنسبة لها سببًا مقنعًا للتوقف بمبرر قلة الحيلة، بقدر ما شكل لديها دافعًا أخلاقيًا تجاه الوطن صونًا لتراثه الأثير من الضياع.
في هذا الصدد تقول الجرادي: "في 2019، نسقت مع مؤسسة الشعب الاجتماعية للتنمية، لتقوم المؤسسة بتمويل مشروعٍ ترميم 30 مخطوطًا من مقتنيات الدار، وأثناء جائحة كوفيد_19، قمت بتقديم مقترح مشروع لحماية التراث الثقافي في دار المخطوطات لمنظمة أجنبية، وتم تنفيذ المشروع في 2020.
بحكم خبرتها وتخصصها في مجال المخطوط، تمت دعوتها من قبل منظمة اليونسكو لحضور مؤتمر التراث العربي الذي أقيم في قطر نهاية العام قبل الماضي، لتمثيل اليمن في مجال التراث الوثائقي والمخطوط.
التوقف لا يعني التخلّي
بالرغم من عزم وردة ومحاولاتها المتكررة لكسر التحديات ، إلا أن تبعات الصراع وقفت حائلاً دون الاستمرار في تحقيق مزيد من الإنجازات وهو ما استدعى إلى تعليق تلك المشاريع، ريثما يتهيأ وضعٌ أقل ضراوة، أو تضع الحرب أوزارها.
رغم ذلك، تعتقد أن الوقت قد حان لاستئناف طموحها الأكاديمي للحصول على رسالة الدكتوراة في مجال تخصصها، إلى جانب العمل على تأسيس منظمة خاصة تُعنى بالجانب التراثي والمجتمعي، تحمل اسم "منظمة روز للتراث والتنمية"، كامتداد للمبادرة التي أسستها مع مجموعة من الشباب (مبادرة روز للتراث والتنمية)، التي تَكرَّسَ نشاطُها لمساعدة الأسر الفقيرة في المجتمع، من خلال العمل الإنساني في مجالات مختلفة، دون أن تغفل عن تكرار رسالتها لنظيراتها من النساء، أن تحقيق الطموحات والأهداف العظيمة، مرتبط بالعزيمة والإرادة.