عندما يريد أطفال قرية بربرة، القرية المنسيّة، البعيدة من مركز مديرية خنفر، بحوالي 30 كيلو مترًا، التوجه إلى مدرستهم، يقطعون مسافة أربعة كيلومترات، وبالتحديد إلى قرية الطرية، لذا يضطر معظمهم إلى ترك تعليمهم بسبب البعد، وينخرطون في الوظيفة الوحيدة المتوفرة، وهي رعي الأغنام.
عندما نشبت الحرب في العام 2019، بين قوات الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا من جهة وبين قوات الحزام الأمني التابعة للمجلس الانتقالي المدعوم إماراتيًّا، اتخذ الحزام الأمني من القرية موقعًا استراتيجيًّا للقتال ضد قوات الحكومة.
هذا الأمر اضطرّ معظم أهالي القرية إلى النزوح، لكن بالمقابل ظلّت بعض الأسر في أماكنها، لأنّها لا تمتلك خيارات أخرى. ومنذ اندلاع الحرب الأخيرة بين المتحالِفِين وحتى الآن، تحمّلت هذه الأسر ما تبقّى من ويلات الحروب وأصوات المدافع، وكثير منهم من الأطفال والشباب ذهبوا للتجنيد بسبب الفقر مقابل أجر يومي.
كانت خيام (معسكرات) الحزام الأمني منتشرة في كل أرجاء القرية الصغيرة، وقد أقاموا متاريس في قرية الطرية. لذا كانت قرية بربرة بين جبهتين؛ الجبهة الخاصة بقوات الحكومة، وتبعد حوالي 2كم، والجبهة الخاصة بقوات الحزام الأمني التابعة للمجلس الانتقالي بحوالي 200م.
في ديسمبر/ كانون الأول 2020، وبعد تنفيذ اتفاق الرياض ودخول قوات حفظ السلام، وانسحاب قوات المجلس الانتقالي، تركت الأخيرة خلفَها كلَّ أنواع مخلفات الحرب منتشرةً في كلِّ مكانٍ من القرية. أطفال القرية ومن عادوا إليها كانوا -كعادتهم- يلعبون ويرعون الأغنام، ولا يعلمون أنّ هناك من ينتظرهم ليفتك بطفولتهم البريئة.
كان مهدي طفلًا في الرابعة عشرة، ويعيش مع أسرته في منزل من القشّ. لديه خمسة إخوة؛ أنيس (26 سنة)، وعلي (21 سنة)، وعبدالرحمن (18 سنة)، ورحمة (11 سنة)، وهند (7 سنوات)، فيما هو السادس في أسرته، إلى جانب أبيه العاطل، وأمه.
تعتمد أسرة مهدي في معيشتها على الرعي. عندما اشتدت الحرب في 2019، نزحت أسرة مهدي مع بعض الأسر إلى منطقة القريات التي تبعد 20 كيلومترًا، وتتبع مديرية زنجبار.
كان كلما مرّ في مكان شاهد أجسامًا غريبة، لا يعرف كينونتها. عند إحداها أفلت زمزمية الماء من يده اليسرى، ورمى عصاه من يده الأخرى، وأدنى من قامته لالتقاط المقذوف، وحمله معه، ثم أخذ وقتًا لاستكشافه، بمحاولة تهشيمه بحجر، ما أدّى إلى انفجاره.
تشرّدت الأسرة مع أغنامها لمدة عام كامل، عانت فيه أسوأ الظروف. وبعد انسحاب الطرفين المتحاربين، عادت أسرة مهدي إلى القرية، ووجدت القريةَ قد تغيرت.
تم استحداث نقطة تفتيش جديدة على بعد نصف كيلو تقريبًا، وهناك متاريس كبيرة تحيط في القرية من التراب، وصدم كل من كان خارج القرية بوجود بقايا مقذوفات وأسلحة مرمية في كل مكان.
عندما انسحب الحزام الأمني ترك وراءه كل المخلفات، دون مبالاة بما قد تُلحِقه من أضرار بالمدنيين، وخاصة الأطفال منهم، بما في ذلك الألغام التي تم زراعتها من قبل الطرفين لإعاقة تقدُّم بعضهما.
وفي الفترة التي تلت انسحاب القوات، وعودة الأهالي، انفجرت ألغام، على الأقل ثلاث مرات، بالحيوانات في المنطقة، وخاصة الحمير والأغنام، ما أشاع جوًّا من الخوف لدى الجميع، لكن ما الذي يجب عمله، مع اضطرار المدنيين إلى ممارسة حياتهم الطبيعية، والتكسُّب من خلالها.
وأسرة مهدي فقيرة جدًّا، كغيرها من الساكنين في المنطقة. كان والد مهدي يقوم بالرعي في بعض الأحيان وكذلك والدته، لكن هذه المهنة كانت مقتصرة بدرجة أساسية على مهدي.
يخرج الطفل إلى المرعى عند حوالي الـ08:00 صباحًا، ويعود عند الـ12:00 ظهرًا، ثم يستأنف عند الساعة الـ03:00 عصرًا إلى الـ06:00 مساءً.
عند الـ08:00 من صباح 28 مارس/ آذار 2021، خرج مهدي بأغنامه. كان شاحب الوجه، يسير تحت سياط شمس لاهبة، يهشّ دوابَه بإحدى يديه، وبالأخرى يمسك زمزمية الماء، ولأنه كان قد ترك مدرسته، فهو مستسلِمٌ لحياته هذه.
كان كلما مرّ في مكان، شاهدَ أجسامًا غريبة، لا يعرف كينونتها. عند إحداها أفلت زمزمية الماء من يده اليسرى، ورمى عصاه من يده الأخرى، وأدنى من قامته لالتقاط المقذوف، وحمله معه، ثم أخذ وقتًا لاستكشافه، بمحاولة تهشيمه بحجر، ما أدّى إلى انفجاره.
ولأنه كان لا يزال على بعد حوالي 300 متر من القرية تقريبًا، سمع الأهالي صوت دويّ الانفجار، فهرع كل من فيها إلى المكان. كانت الساعة ما بين الـ10:00 والـ11:00 صباحًا، كان من بين الذين توجّهوا إلى المكان والد مهدي ومن إخوته أنيس وعلي.
عند وصولهم وجدوا الطفل مضرّجًا بدمائه. تم إسعافه إلى منطقة الشيخ سالم التابعة لمديرية زنجبار، وهناك تولّت قوات العمالقة التي تقوم بمهام حفظ السلام، بإسعافه بسيارة إسعاف خاصة بهم إلى مستشفى الرازي العام، الذي يبعد 35 كم عن المنطقة.
كان إخوته إلى جانبه. عند عمل إجراءات المطاببة، اتضح وجود شظية في البطن من الجهة اليسرى وشظايا في كفّ اليد اليمنى وشظايا في ظاهر اليد اليسرى، وتهتّك أصبعه السبابة إلى جانب شظايا في الساقين أسفل الركبة.
كان الطفل في حالة من الخوف والهلع، وتم إجراء عملية جراحية له وإزالة الشظايا. عانى من ألم في الأذن بسبب قوة الانفجار. فقد 3 من ماشيته التي يبلغ عددها 30 رأسًا، جراء الشظايا. مهدي حاليًّا يعيش في قريته، لكن تحت مضاعفات نفسية غاية في الصعوبة.