ما تزال أميمة، التي تعيش في سلطنة عمان منذ سنوات، تدخن (المداعة) أثناء غربتها عن اليمن، في نوع من ذكرى ممزوجة بالحنين إلى الوطن، ووسيلة للحفاظ على الطقوس الاجتماعية اليمنية في بلاد المهجر، على الرغم من اختلاف الثقافات، والبيئة التي انتقلت لها.
تُصنع (المداعة)؛ التي تعتبر من الصناعات والحرف التقليدية والمرتبطة بطقوس اجتماعية متوارثة منذ مئات السنين، من الخشب والرصاص والنحاس والفخار والجلد والخيوط، فيما تتكون أجزاؤها من: "المَعْشَرة والجوزة والجلّاس والقطب والقصبة والديك والضبة والبوري والمشرب".
تستفيد أميمة من إعلانات وسائل التواصل الاجتماعي، للحصول على المداعة ومستلزماتها من اليمن، وعلى الحصول أيضًا على نوعية جيدة من التمباك.
طقوس حميمية
أميمة ليست إلا واحدة من آلاف الفتيات اللاتي اتجهن مؤخرًا إلى تدخين المداعة، تحت تأثير الأصدقاء والأسرة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي ترى أنّ العودة إلى التراث في "الكَيْف" لها مسوغات يتفق عليها عددٌ كبير من المدخنين.
تقول حنان، وهي إحدى الشابات اللاتي اتجهن إلى تدخين المداعة، في حديثها لـ"خيوط": "هناك بُعد ثقافي في اتجاه الشباب لممارسة بعض الطقوس القديمة بذات أدواتها، ومنها تدخين المداعة، أستطيع أن أعتبره نوعًا من التمسك بالهُوية الثقافية للبلاد، ومحاولة لإبراز بعض تفاصيل الموروث الشعبي الذي قد يجهله اليمنيون أنفسهم، خاصة من الأجيال الجديدة، إلى جانب الهدف الرئيس المتمثل بالتدخين، وتمضية وقت مثالي مع الرفقة والأصدقاء".
وتتابع: "هذه العودة للتراث لا تتصل فقط بالمداعة وملحقاتها وطقوس تدخينها، وإنما ترتبط أيضًا بكل ما استخدمه اليمنيون قديمًا ومثّل جزءًا من حياتهم؛ كالأزياء، والإكسسوارت، والتحف والرقصات، والتقاليد المتعلقة بالمناسبات المختلفة التي درج اليمنيون على استخدامها أو العمل بها".
ظهرت "المداعة" في اليمن قبل مجيء الشيشة (الأرجيلة) بعقود طويلة، إلا أنّ تراجعًا ملحوظًا ظهر خلال العقدين الأخيرين، حيث سيطرت الشيشة على المشهد وأصبحت وسيلة التدخين الأكثر رواجًا إلى جانب السيجارة، مع اختفاء تدريجي للمداعة التي اقتصر استخدامها على كبار السن، غير أنّ اللافت خلال السنوات الأخيرة هو تحول عدد من الشباب، وخاصة الشابات، إلى المداعة والتباهي بهذه العودة.
ترتبط حنان بالمداعة وبكل ما يتصل بها، لدرجة أنها ترى أنه يجب الاهتمام بتلميع وتنظيف المداعة باستمرار كأنها امرأة جميلة، لخلق جو موائم يُحلّق فيه المدخنون في جو حميمي وعائلي حالم، بالتكامل مع بقية التفاصيل الموجودة؛ كالقمريات والنوافذ والنقوش والزخارف التي يتضمنها مكان الجلسة.
في سياق متصل، تقول فاطمة لـ"خيوط"، إنّ اهتمامها وولعها بالمداعة لا يتعلق بكونها مدخنة، وإنما لأنها تجد في المداعة إضافة جميلة تشبه تلك التحف التي تزين المجالس والقعدات التي تضم لفيفًا من الأهل أو الأصدقاء والجيران، وهذا لوحده سببٌ كافٍ للحرص على اقتناء المداعة، علاوة على التدخين، مع تأكيدها أنها لا تدخن إلا نادرًا، على عكس أخواتها المدخنات للمداعة بكثرة.
وتلاحظ فاطمة، أنّ الكثير من صديقاتها المدخنات ترَكن الشيشة، واتجهن إلى المداعة، كما هو الحال معها، حيث توقفت عن شرب الشيشة بسبب الصداع والدوار الذي كان ينتج عنها، لكنها عند تدخين المداعة لا تشعر بأيٍّ من تلك الأعراض.
تتابع فاطمة حديثها لـ"خيوط": "حين تعيش في أسرة كلها موالعة مداعة، تحس أن المداعة صارت جزءًا من أولويات حياتك، شأنها شأن الأكل والشرب"، منوهة إلى أنّ الحالات والصور التي تنشرها الفتيات عن جلسات المداعة، إحدى عوامل الجذب لتوسع الظاهرة.
عودة للقديم
ظهرت "المداعة" في اليمن قبل مجيء الشيشة (الأرجيلة) بعقود طويلة، إلا أنّ تراجعًا ملحوظًا ظهر خلال العقدين الأخيرين، حيث سيطرت الشيشة على المشهد، وأصبحت وسيلة التدخين الأكثر رواجًا إلى جانب السيجارة مع اختفاء تدريجي "للمداعة" التي اقتصر استخدامها على كبار السن، غير أنّ اللافت خلال السنوات الأخيرة، هو تحول عدد من الشباب، وخاصة الشابات، إلى "المداعة" والتباهي بهذه العودة عبر نشر تفاصيل جلساتهن في وسائل التواصل، بل إنّ الأمر تحول لحالة من حالات التنافس.
وبحسب استطلاع أجراه معدَّا التقرير، لعينة عشوائية من 50 امرأة، اتضح مدى إقبال الشابات على المداعة، حيث اتضح أنّ 55% من المدخنات للمداعة تتراوح أعمارهن ما بين العشرين إلى الثلاثين عامًا، وهذا يدل على أن العودة إلى تدخين المداعة تقف خلفه الشابات الصغيرات، فيما بلغت نسبة المدخنات بين عمر 31-40 عامًا، 37%.
وأشار الاستطلاع، إلى أنّ ظاهرة تدخين المداعة ما تزال حديثة بين الفتيات، إذ بدأت 72% من العينة في تعاطي المداعة مؤخرًا، بعد الإقلاع عن أنواع أخرى من التدخين، أو ما يزلن يدخّنَّها أحيانًا، مقابل 20% يدخنَّ ما بين العام والخمسة أعوام.
وبحسب الاستطلاع، فإن ما يقارب 40% من العينة تأثرن بأساليب الترويج والنشر عن المداعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها الفيسبوك، فيما تأثرت 60% من العينة بالصديقات والأسرة بالدرجة الأساسية، فيما تراوحت مرات التدخين من مرتين إلى ثلاث لـ36%، ومرة في الأسبوع لــ24%، فيما بلغت نسبة اللواتي يدخنَّ نادرًا 16% من العينة.
التقليد والفراغ
يشير عبدالباقي شمسان، أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء، إلى أنّ حضور المداعة في الذاكرة الجمعية لليمنيين يبلغ درجة عميقة، يظهر ذلك في اهتمامهم بالإكسسوارات التقليدية لها، وحرصهم البالغ على أن تشاركهم مختلف مناسباتهم الاجتماعية؛ ولذلك هناك من يتفنن في اختيار التصاميم الجميلة، واستدعائها جزءًا من ديكور جميل وأخّاذ يخفف من وطأة الشعور بتأنيب الضمير أثناء التدخين، إلى جانب ما تحقّقه لبعضهم من تصالح مع الذات.
سعر "المداعة" الجديدة يتراوح بين 25 ألف ريال إلى 30 ألف ريال، كما يحتاج إنتاج التتن (التمباك) إلى مراحل عديدة، يبدأ بزراعته، التي تستهلك كميات كبيرة من الماء، ومِن ثَمّ الحصاد والتجفيف والتخزين، وصولًا إلى النقل والتسويق، ممّا يجعل أسعاره باهظة الثمن مقارنة بالقدرة الشرائية لدى المستهلكين.
ويضيف شمسان لـ"خيوط": "تنتشر بعض العادات السيئة، ومنها تدخين المداعة، عن طريق التقليد والفراغ الذي يعيشه معظم الشباب اليمني، إلى جانب غياب وسائل الترفيه والفضاءات المفتوحة والأندية الرياضية، علاوة على أن الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، وضغط الوضع الاقتصادي والقلق من المستقبل، دفعت بعضهم للاتجاه صوب وسائل وأدوات "الكَيْف" المختلفة، كتناول القات والتدخين وحتى تعاطي المخدرات والخمور، أو التخندق الفكري أو المذهبي أو المناطقي الذي يستغله تجار الحروب أسوأ استغلال".
ويتابع شمسان: "لوسائل التواصل الاجتماعي دور بارز في انتشار المداعة والترويج لها وإعادتها للواجهة من جديد، عبر عرضها بطرق جذابة وتصاميم متنوعة، ومع ذلك فإن انتشارها غير الطبيعي مؤخرًا بين الشابات، له مؤشر آخر متعلق بعددٍ من الأزمات النفسية والعائلية والاجتماعية التي يرزحن تحتها".
الجدير بالذكر أنّ سعر "المداعة" الجديدة يتراوح بين 25 ألف ريال إلى 30 ألف ريال، كما يحتاج إنتاج التتن (التمباك) إلى مراحل عديدة، يبدأ بزراعته، التي تستهلك كميات كبيرة من الماء، ومِن ثَمّ الحصاد والتجفيف والتخزين، وصولًا إلى النقل والتسويق، مما يجعل أسعاره باهظة الثمن مقارنة بالقدرة الشرائية لدى المستهلكين، ومع ذلك يؤكد محمد، صاحب محل مدائع، أنّ سعره رخيص مقارنة بمعسلات الشيشة وأنواع التدخين الأخرى.
مخاطر صحية
وعلى الرغم من أن 65% من المدخنات "للمداعة" اللاتي استطلع آراءَهنّ مُعِدَّا التقرير، يعتقدن أن المخاطر الصحية "للمداعة" أقل ضررًا من أنواع التدخين الأخرى، وهو ما تدحضه ميادة محمد أحمد، الأستاذ المساعد بجامعة عدن واستشارية أمراض النساء والتوليد والعقم، حيث تؤكد أنّ التدخين بكل أشكاله ضارّ بالصحة، بسبب وجود المواد الضارة المكونة له، وأهمها النيكوتين وأول أكسيد الكربون المتصاعد من الفحم المحترق والرصاص والقطران والزرنيخ وغيرها.
وتضيف ميادة لـ"خيوط": "يزيد النيكوتين من نسبة الإصابة بأنواع مختلفة من السرطانات، كسرطان الفم واللثة والبلعوم والرئة، إلى جانب أمراض القلب والانسداد التنفسي المزمن وتصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم، والإصابة بالسكري والجلطات الدماغية، إلى جانب ما يتركه من أثر على الأسنان، وتساقط الشعر وزيادة التجاعيد في البشرة والوجه والشيخوخة المبكرة عند النساء، وهشاشة العظام".
إلى ذلك ينتقل النيكوتين في الحوامل بسهولة عبر المشيمة، ويصل إلى الجنين، حيث وجدت دراسات، أنّ معدلات تركيز النيكوتين في السائل الأمينوسي حول الجنين أكثر من معدلاته في دم الأم المدخنة، علاوة على أن النيكوتين يتسبب بحدوث ولادات مبكرة، وهو كذلك سبب رئيس لنقص وزن الجنين ومعدل نموه، كما أشارت دراسة علمية أجريت بجامعة عدن في 2005، بعنوان "المخاطر الطبية والنفسية الاجتماعية عند النساء اللواتي أنجبن أطفالًا أقل وزنًا لعمر الحمل في مستشفى الوحدة التعليمي - عدن 2005"- إلى أنّ هناك علاقة قوية بين التدخين ونقص النمو عند المواليد.
ونبهت الدكتورة ميادة أن هناك خطرًا على الأجنّة، تعتقد أنه قد يصل إلى وفاة المواليد بالتزامن مع ارتفاع معدلات الأمهات المدخنات، إلى جانب حدوث بعض التشوهات الخَلْقية، كالشفة الأرنبية والفك المشقوق، ومشاكل في المشيمة تؤدي إلى الانفصال المبكر أو نزيف أثناء الحمل والإجهاض، كما يؤثر على الإنجاب ومعدل الخصوبة عند الرجال.
التحايل على الخوارزميات
التسويق الإلكتروني، والترويج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ساهم في العودة إلى تدخين "المداعة" في اليمن، على الرغم من أن سياسة مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك، تحظر نشر الإعلانات التي يترتب عليها مخاطر مجتمعية أو صحية.
فهمي، الباحث المتخصص في سياسة مواقع التواصل الاجتماعي، يقول لـ"خيوط": "معظم الشبكات الاجتماعية لها سياسات خاصة بالإعلانات يتم تطبيقها عالميًّا، وإذا لم تجبر الدول أيًّا من الشبكات الاجتماعية بقيود معينة، فستطبق السياسة العامة".
ويؤكّد أنّه دائمًا ما يكون هناك تحايل على سياسات النشر في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى من حيث الإعلانات من خلال التحايل باستخدام صور أو روابط أو نصوص، ومن ثم تمرير إعلانات تتعلق بالتدخين، بالضبط مثلما حدث مع الترويج للعودة إلى المداعة.