يتصدر مضيق "باب المندب" واجهةَ الأحداث المتصاعدة في المنطقة، وهو الممر الاستراتيجي الذي يوصف برابع أهم الممرات البحرية في العالم، وبوابة رئيسية تربط شرق العالم بغربه، وذلك جعله محور صراع لدول العظمى.
بينما زادت أهميته في ظل اعتماد دول الخليج النفطية عليه في الشحن البحري، إذ يقدر عدد السفن وناقلات النفط العملاقة التي تمر منه في الاتجاهين، بأكثر من 21000 سفينة سنويًّا (حوالي 57 ناقلة بشكل يومي).
نسبة ضئيلة كذلك من يعرفون بساطة الآلاف من أهالي وسكان منطقة "باب المندب" التي تتبع مديرية "ذو باب" غربي محافظة تعز، حيث يعيشون في ظروف سيئة، ويتجرعون المعاناة والفقر والمرض والجوع، ويفتقرون لأبسط وسائل العيش، ومحرومون من أدنى حقوقهم.
تكالبت الأزمات على أهالي باب المندب، وأصبحت أمواج الفقر هناك تنافس أمواج البحر، ويخوضون صراعًا مستمرًّا مع الحياة بشكل متصل، فلا خدمات تدفع عنهم قساوة العيش، ولا دولة تلتفت لمعاناتهم. يأتي ذلك وهم يحاذون بحر العرب من الجنوب، والبحر الأحمر من الغرب، إلا أنهم يعيشون في أزمات متلاحقة على رأسها أزمة خانقة في مياه الشرب الذي يتم جلبه من مناطق نائية محايدة لباب المندب في مديرية "ذو باب"، إضافة إلى أزمات في الخدمات العامة كالكهرباء والصحة والتعليم.
يقول معاذ مسعد (اسم مستعار- 28 عامًا)، وهو أحد سكان المنطقة، لـ"خيوط": "بالنسبة للماء، كل عشرة أيام أشتري "صهريج" سعة ألف لتر بسعر 8 آلاف ريال؛ لذا أحتاج وعائلتي المكونة من أربعة أفراد، إلى شراء الماء على الأقل ثلاث مرات في الشهر".
ويشير إلى عدم وجود الكهرباء، والخدمات الصحية، والتعليم، بالتزامن مع أزمات معيشية حادّة ضاعفتها الأحداث الأخيرة في البحر الأحمر، كما أنّهم يضطرون لجلب الماء من منطقة "النابية" في مديرية المضاربة ورأس العارة بمحافظة لحج (جنوب اليمن)، على بعد 25 كيلومترًا من منطقتهم.
إضافة إلى ذلك، يعاني الصيادون في هذه المنطقة من الإبحار باتجاه سواحل جزر ومناطق أخرى مجاورة، مثل جزيرة "ميون"، التي يُحظر عليهم الاقتراب منها ليلًا، بينما قلص تصاعد حدة الصراع والأحداث المتسارعة خلال الفترة الماضية في البحر الأحمر، من مسافة رحلات الصيد، حيث لا يستطيعون الاقتراب من خط الملاحة الدولية.
وسط ذلك أصبح مصدر عيش الناس من سكان باب المندب، الذين يناهز عددهم 18 ألف نسمة، مهدَّدًا هو الآخر، حيث يجد الصيّادون صعوبة بالغة في ممارسة مهنتهم التي يعمل بها نسبة كبيرة منهم، إضافة إلى عملهم في الزراعة وتربية المواشي.
معاناة الصيّادين
حينما تتجول في أزقة المنطقة، وتسمع حديث الناس هناك، ستجد أنهم قد فقدوا بصيص الأمل الموجود لديهم، لا حديث لهم إلا عن مصدر رزقهم؛ الأسماك والبحر والمواسم، وأماكن كثافة الأسماك، لكن للمعاناة رأي آخر، ولن تتركهم وشأنهم، وستلاحقهم أينما حلوا.
وتبرز معاناة الصيّادين بشكل كبير، حيث وجد الكثير منهم أنفسَهم بين مطرقة غلاء المشتقات النفطية وسندان الأحداث المتصاعدة في البحر الأحمر، إذ فاقم ذلك من وضعهم المعيشي وقلّص من نسبة دخولهم إلى البحر الذي يعدّ مصدر رزقهم الوحيد.
يقول إلياس محمد، وهو صياد من المنطقة، لـ"خيوط": "إنّ المشتقات النفطية أكثر ما يعاني منه الصيادون في باب المندب، حيث إنّ أغلب الصيادين الذين كانوا يمتلكون قوارب صيد كبيرة اضطروا إلى شراء قوارب صغيرة بماكينات أقل استهلاكًا للبنزين، الذي أصبح مكلفًا من ناحية صعوبة توفيره وسعره".
تساعد القوارب الكبيرة الصيادين في عملية الإبحار والصيد، والذهاب إلى أماكن بعيدة، والوصول إلى مناطق أفضل للاصطياد، لكن بالمقابل تحتاج عملية تشغيلها إلى ماكينات كبيرة؛ ومن ثم زيادة استهلاك الوقود، وهو ما لا يستطيع تحتمله الصيادون، ويدفعهم إلى بيع القوارب الكبيرة، وشراء قوارب صغيرة.
يضيف محمد: "لا نستطيع تحمل تكاليف كمية كبيرة من الوقود لتشغيل القوارب الكبيرة، وليس هناك أي دعم ممكن نحصل عليه لمساعدتنا، وكذا ليس هناك أي جهة معنية، ولا جمعيات أو منظمات تعمل في منطقة باب المندب".
زادت تكاليف القوارب الكبيرة من 200 و300 ألف ريال إلى مبالغ كبيرة تتراوح بين 800 ألف ومليون ريال، في حين يصل سعر القوارب ذات الأحجام الصغيرة إلى نحو 400 ألف ريال، وهناك أنواع تباع بسعر أقل؛ بنحو 200 إلى 300 ألف، بحسب حجم القارب، بينما لا يستطيع كثيرٌ من الصيادين في منطقة "باب المندب"، ومنهم إلياس، حيث يصل سعر صفيحة البنزين الواحدة (20 لترًا) إلى نحو 28 ألف ريال.
إضافة إلى ذلك، يعاني الصيادون في هذه المنطقة من الإبحار باتجاه سواحل جزر ومناطق أخرى مجاورة، مثل جزيرة "ميون"، التي يُحظر عليهم الاقتراب منها ليلًا، بينما قلّص تصاعد حدة الصراع والأحداث المتسارعة خلال الفترة الماضية في البحر الأحمر، من مسافة رحلات الصيد، حيث لا يستطيعون الاقتراب من خط الملاحة الدولية.
لهذا الأمر تبعات عديدة، وفق أحد الصيادين من سكان المنطقة، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، بالقول لـ"خيوط"، إن ذلك جعل كثيرًا من السكان عرضة للاستقطاب والابتعاد عن أعمالهم ومهنهم المعتادة، والتحول على سبيل المثال، إلى جندي، والالتحاق بالقوات العسكرية للقوات الموجودة في المنطقة، علاوة على ذلك يحاول بعضهم أن يجمع بين الاصطياد نهارًا، والذهاب إلى المعسكر ليلًا، من أجل تأمين أكثر من مصدر دخل لإعالة أسرهم، بحسب حديث بعض السكان.
أزمة خدمات
كان من المفترض أن يكون مضيق باب المندب المصدرَ الرئيس لكهرباء اليمن؛ نظرًا للتيارات المائية الغزيرة التي تمر بين منطقة باب المندب وجزيرة ميون، لكن الحكومات المتعاقبة في اليمن طوال السنوات والعقود الماضية، لم تلتفت إلى هذه المنطقة الحيوية والمهمة والاستراتيجية.
انهيار العملة وتدهور سعر صرف الريال اليمني أمام العملات الأجنبية، جعل راتب المعلم أقل من 50 دولارًا، وهو الأمر الذي جعل المعلم يذهب إلى البحر لتوفير لقمة عيشه، وجعل الطالب أيضًا يترك المدرسة ويتجه إلى الاصطياد في البحر؛ إذ فاقم ذلك من تدهور وضعية التعليم إلى أدنى مستوى في هذه المنطقة.
يعيش سكان منطقة باب المندب، كما ترصد "خيوط"، في ظلام دامس، فلا أثر للكهرباء إلا أعمدتها التي وصلت قبل اشتعال الحرب الأخيرة في اليمن العام 2015، وعدد من المولدات الكهربائية التي لم يتم تشغيلها منذ ذلك الوقت، بل وتعرض بعضها للاختفاء.
في الجانب الصحي، يحكي معاذ مسعد، من سكان باب المندب، أنهم يفتقرون إلى الكادر الطبي في المنطقة، وليس هناك في المرفق الحكومي الصحي سوى قابلتين فقط، مؤكّدًا أنّ مخازن الأدوية في المركز الطبي ليس فيها وسائل تكييف، ولا تعد ملائمة للتخزين؛ مما يعرضها للتلف، وحين سألناه: إلى أين تسعفون مراضكم؟ قال: "كثير من السكان يسعفون مرضاهم إلى عدن، أو المخا، أو إلى مدينة تعز، حيث لا يجدون في منطقة باب المندب سوى بعض الإسعافات الأولية المحدودة فقط".
كما تعاني منطقة باب المندب من محدودية التعليم، إذ ليس هناك سوى مدرسة واحدة، معرضة للتوقف في أي لحظة، بعد أن تدهور وضعها بشكل كبير.
يوضح سليم عبدالله، أحد المعلمين، لـ"خيوط"، أنّ انهيار العملة المتسارع، وتدهور سعر صرف الريال اليمني أمام العملات الأجنبية، جعل راتب المعلم أقل من 50 دولارًا، وهو الأمر الذي جعل المعلم يذهب إلى البحر لتوفير لقمة عيشه، وجعل الطالب أيضًا يترك المدرسة ويتجه إلى الاصطياد في البحر، إذ فاقم ذلك من تدهور وضعية التعليم إلى أدنى مستوى في هذه المنطقة.
أهمية المكان
يعتبر مضيق "باب المندب" من أهم الممرات المائية في العالم، وزادت أهميته مع افتتاح قناة السويس في أواخر ستينيات القرن قبل الماضي، حيث أصبح يشكّل حلقة مهمّة للطريق البحري الأقصر، الذي يصل بين شرق آسيا وأوروبا، ويمتد من المحيط الهندي مرورًا ببحر العرب وخليج عدن، وعبر باب المندب إلى البحر الأحمر ثم البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس.
وزادت أهميته الاقتصادية بشكل واضح خلال الأعوام الماضية، حيث شكّل ممرًّا بحريًّا للتجارة الدولية؛ بسبب ما يختصره من الجهد والوقت والتكلفة المادية، وأصبح يتمتع بحركة ملاحة كثيفة في كلا الاتجاهين، إذ تمر به معظم أنشطة التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، ونحو 10% من حركة الملاحة العالمية.
كما اكتسب المضيق أهمية اقتصادية كبيرة مع ثلاثينيات القرن العشرين، وظهور النفط في الخليج العربي، ونظرًا لِمَا تمتاز به قناتاه من الاتساع والعمق، وقدرته على استيعاب السفن الضخمة وناقلات النفط بسهولة في كلا الاتجاهين، في حين أصبح من أهم المعابر المائية لموارد الطاقة في العالم.
ويحتل مضيق "باب المندب" المرتبةَ الثالثة عالميًّا من حيث عبور موارد الطاقة، بعد مضيقَي ملقا وهرمز، وتمر منه معظم صادرات النفط والغاز الطبيعي من الخليج العربي، التي تعبر قناة السويس أو خط أنابيب "سوميد".