وأما أمها فقد ذهبت إلى المجهول في يوم 20 أيار 2015، في أحد مساءات صنعاء التي تقصفها الطائرات الحربية آناء الليل وأطراف النهار؛ تلاشت بين الشظايا والأدخنة والتراب دون أن تترك أي دليل على اختفائها، فأي قدر هذا الذي أودى بها إلى بيت الأهل، لتنتهي هناك بعد سماع زمجرة طائرة غير مرئية! لا شيء يبدد حياة السأم والبؤس والحزن القاتل، سوى هذه الطفلة التي تجاوزت الرابعة بقليل دون أن تتحدث!
جراح الدنيا رطبة طرية؛ طوال الأيام والشهور، كأنما تسربت إلى الروح فصوص من الملح الأجاج؛ أو حبيبات من الفلفل الحار.
في كل مرة تشتعل فيها الجراح يتذكر بسماتها، ضحكاتها الشبيهة بكل زهور الدنيا. كل شيء فيها انتقل إلى هذه الطفلة ماعدا صوتها، الذي وإن كان تأتأة مضنية، فإنه سلاح المقاومة الوحيد في هذا الفراغ القاتل، وربما الصديق الذي يعين على تهشيم جدار الزمن الأصم، ولكن أين هو هذا الصوت، ولماذا لا تندفع من غوره سوى الرموز؟ لماذا لا يندفع كشلال إلى الغرف والنوافذ والشرفات والطرقات الممتدة؟ كلما اشرأبّت نأمة تيبست عروقها في مجرى الكلام، وكلما ارتفعت نبرة جاءت هذه الطائرات الحربية لتثير الهلع والخوف في أعماقها.
كل صبح تنهض من سريرها وتتجه إليه، تقف أمام سريره، تنظر في وجهه بإشفاق؛ كأن الأصوات تتصارع في أعماقها: "هل أدعوك يا أبي أم أدعك تنام؟"، ويأتي الرد من جهات متعددة: نعم، لا، نعم، لا. تحزن من أجله، لا تدعوه؛ ثم تغير رأيها؛ فتقرر أن تدعوه، لعلها لحظة خوف من زمجرة الطائرة. وفجأة تضيق بها الأرض بما رحبت حقًّا؛ توقظه ولكن بهدوء، ينطلق من فمها صوت خفيض جدًّا: بابا، ثم تمر لحظات صمت، وهكذا: بابا، بابا.
مفردة وحيدة في عالمها اللغوي؛ لكنها الحبل السري الذي يربطها به، وما عدا ذلك إشارات اليدين والقدمين والرأس، أما الأنف فإنه يطلق حشرجات معبأة بالمشاعر؛ يحدث ذلك حين يشتبك الأداء بحركات من الرأس والعينين، والجبين، وبقية أعضاء الجسد المنمنم.
ينهض الأب مبتسمًا، يضمها إلى صدره، تزدهر الحياة تمامًا في أعماقها، تنطلق البسمات، والضحكات، والأصوات الرمزية، كل الفرح يهبط صدفة على الأرض، وكأنهما في عالم من الرسوم المتحركة.
يخرجان من الغرفة، يتناوبان على دخول الحمام. هي أولًا ثم هو بعد مساعدتها. يتقابلان على مائدة الطعام. تأكل لقيمات بفتور ثم تختنق، يحاول تحفيزها على المزيد من الأكل. لكنها تأبى تنهض بخفة كمن ينتظر موعدًا مهمًّا. تتحرك على إيقاع جنون الطائرات الحربية التي تستبيح الفضاء. يعودان إلى حجرة النوم، يرتديان ثيابهما، والطائرات تحلق. أحيانًا تفرغ حمولاتها وأحيانًا لا. يفكر دائمًا بقاموسها الذي يتكون من أوراق كثيرة فارغة، لكنها ممتلئة بالأسطر، والخطوط، والنقاط المتفرقة، مفردات يشدّها حبل الداخل إلى الأسفل لكنها تقاوم عدم الامتثال، مفردات تريد الخروج، والخارج يخيفها، المحزن أنها تقف مخنوقة في الحلق كما لو أنها غصة أزلية ثابتة في اللامكان. نعم، لا الأمام يريد استقبالها ولا الخلف يعيدها إليه لتزداد قوة الاندفاع. يحاول الأب تشجيعها؛ بتطيير مفردات بعينها يقول "هياااا، هيا يا مااااما نذهب إلى الدكان، الدكان"، يكز على المفردة الأخيرة ولا فائدة ترجى، ترتفع عواءات الطائرات، فيهمس "ملعون أبو الطائرات الحربية، ملعون من اخترع هذا الموت الزؤام". يحس بأنها تفهمه تمامًا؛ ولكن شيئًا ما مثل الخدوش المزمنة تجرحها، تجرحه تحديدًا، تمرّ الأيام، والشهور، والمفردات تراوح في مكان واحد، بين اللحميات واللوزتين، ولسان المزمار، ما الذي يمكن أن يعمله؟ زار الأطباء وقرأ الكتب وتصفح الإنترنت، الأمل ما زال يذهب بعيدًا. جميعهم يقولون: انتظر.
يقول لها: بابا، تنظر إليه ثم تذهب بسمعها إلى الخارج هناك حيث الأصوات المتوحشة. لا تجيب يتوقع أن تقول: نعم، لكنها لا ترد، ينطلق رمز من أنفها، يحزن. يقول: حبيبتي هاتي المنشفة، ويزيد بلهفة: أين ترين المنشفة؟ تدور عدة دورات في الحجرة ثم تعود بالمنشفة، تطلق صرخة قوية: هاااااااا. يقبّلها وبصوت مرتفع يقول: شاااااااااطرة. يأخذ ثيابها الملونة الخفيفة الشبيهة بريش عصفورة، ويبدأ بمساعدتها على الارتداء بعد أن تكون قد حاولت عدة مرات، القطع الداخلية أولًا ثم القطع الخارجية، وهنا فقط تحدث معركة حامية الوطيس، تقول: بابا، بابا، هاها، تقول ذلك وهي تشير إلى بدلتها، وعندما يحاول إفهامها أن هذه البدلة شتوية وليست صيفية؛ تغضب، ثم تقطب ما بين حاجبيها بحزم وهي تعيد: بابا ها،ها،ها، يرقّ قلبه فيساعدها على اللبس؛ تكافئه بطبع قبلة على خده، وهكذا تفعل عند وضع الطاقية الوردية على رأسها ثم الشال الذي يديره بحذر فوق كتفيها الصغيرين وحول رقبتها الممطوطة، مثل رقاب صغار العصافير، ينتقلان إلى الصالة، ثمة دولاب الأحذية الذي يحاذي الباب المؤدي إلى الخارج، تُخرج الطفلة حذاءها وتصرخ: هاااااااا؛ يدخل فردة الرجل اليمنى فتكافئه بقبلة، قدم أخرى وحذاء وقبلة، يحرك مزلاج الباب المؤدي إلى الخارج فتشير بأصابعها الخمس إلى ما يمكن اعتباره -بدون شك- مفتاح الشقة؛ ولو تحدثت لقالت: "إياك يا أبي أن تنسى مفتاح الشقة؛ لأننا سننام في الخارج -تحت جنون الطائرات- إذا نسيناه في الداخل"، يكافئها بقبلة، يجده جوار التلفزيون، يأخذه، وعندما يهم بالخروج، تضع يدها اليمنى على الأذن، وفي أعماقها سؤال كبير: أين تلفونك؟ وعندما ينغلق الباب خلفهما تحس بريح باردة، ترفع وجهها باتجاه وجهه، وتضع يدها اليمنى على رأسها. لغة يفهمها جيدًا. فتح الباب، اختفى في لوحة سوداء لعدة ثوانٍ. عاد وفي يده طاقية مطرزة بخيوط من الصوف النادر كانت قد تقصدت نسيانها.
يدفع الأب بابنته إلى جوقة الأطفال، يقول لها: "قولي لجدو سيلان أعطني بسكويت"، يردد المفردة الأخيرة بضعة مرات، تتقدم الطفلة، وترفع يدها محاولة تقليد الأطفال، لكن الكلام يخونها، آآآآآآ، تأتأة لا طائل منها
غطى رأسها ومضيا يلتهمان درجات السلم، في السلم تحتضنه بقوة، وكلما اختفت درجة ضمته إلى صدرها الرفيع الدافئ، تضحك، تتعالى أصداء الضحكات في دوائر إلى الأعلى، ثم تتلاشى في الشكوص المتروكة هناك لإضاءة السلم، في الخارج، تحاول أنوار الشمس مغالبة عيني الطفلة، لكن الطفلة تقاومها بتضييق زوايا النظر، ها هو دكان "الحاج سيلان" يتوسط الحي وها هم أطفال الحارة يفرون إليه مثل أرانب برية تخرج من أجحارها، الأصوات الطفولية الحادة تتقارب: يا حاج سيلان؛ هات لي شكولاتة، يا حاج سيلان هات شبس، يااااحاج سيلان هات لبان.
الأصوات تزداد حدة والأيدي الشبيهة بسيقان نبتت في الهواء فجأة تمتد حاملة العملات النقدية الصغيرة إلى الأعلى. بعضهم يختطفون علب البسكويت والشوكلاتة والآيسكريم ويجرون سريعًا وبعضهم تظل أياديهم معلقة في الفضاء لساعات طويلة، تبدو الطفلة على كتف أبيها وقد التمعت عيونها فرحًا، ينزلها إلى الأسفل، الأصوات الحادة ترتفع كثيرًا وسيقان الأذرع تبدو وكأنها في مشهد سينمائي ممتدة إلى الأبد. الحاج سيلان الذي تتضح ملامحه الشائبة يلبي الطلبات بخفة، ومن فمه تتكرر المفردات: نعم أنت ماذا تريد؟ وأنت تعال، وأنت، وأنت. ها، أنت. أنت. يقول: "ولكن انتبهوا أن تذهبوا إلى دكان آخر، الحاج سيلان في خدمتكم دائمًا، الحاج سيلان فقط، قولوا لي ما الذي تريدون؟"، يدفع الأب بابنته إلى جوقة الأطفال، يقول لها: "قولي لجدو سيلان أعطني بسكويت"، يردد المفردة الأخيرة بضعة مرات، تتقدم الطفلة، وترفع يدها محاولة تقليد الأطفال، لكن الكلام يخونها، آآآآآآ، تأتأة لا طائل منها. تنظر إلى سماء الرعب ثم إلى وجه أبيها، تحاول أن ترفع صوتها مستخدمة أنفها هذه المرة ولكن لا فائدة. يبكي الأب وهو يحاول دفعها بحنان إلى الكلام، يمسح دمعته سريعًا محاولًا إخفاءها عن العيون الصغيرة التي تنظر إلى السماء البعيدة حيث يولد دائمًا زعيق طائرات الموت الحربية؛ ثم يعود ليتأمل وجهها المنمنم ومحجريها العميقين ولسانها الذي يحاول الإقلاع، فتعود إلى الداخل مكسوة بالحيرة، كما لو أنها تحاكي طائرة حربية في أحد المطارات البعيدة.