في فصل الصيف ينتشر الباعة المتجولون في مدينة الحديدة، يبيعون الفل، وأكثر هؤلاء الباعة يأتون من مناطق زراعية مختلفة وقرى خارج المدينة، يحملون عقود الفل بأشكالها المختلفة، محاولين إقناع المارة وأصحاب المركبات بشراء الفل المشكل بعناية فائقة.
تعتبر قرية (المغراس) التابعة لمديرية (التحيتا)، وقرية (العباسي) في مديرية (بيت الفقيه)، وقرية (معيدة) بمديرية (الزهرة)، وضواحي مديرية (الزيدية)، وقرى (اللاوية ورغمين والمناوية) بمديرية (الدريهمي)، من أهم وأكبر القرى التي يزرع بها الفل، ومن المناطق التي تعتبر المصدر الرئيس لتصدير زهرة الفل للكثير من المدن اليمنية إذا لم يكن لكافة المدن. في الوقت ذاته يقتات أهالي هذه القرى من عائد الفل طوال العام، الأمر الذي دفع سكان هذه القرى والحديدة عمومًا، أن يطلقوا على الفل اسم (زهرة تهامة)، في محاولة لتوطين الزهرة لمنطقة تهامة.
النساء تقطف الفل
يقول المزارعون هناك، إنه يتم قطف زهرات الفل قبيل شروق الشمس، وتحتاج عملية جني الزهور إلى خبرة وتركيز شديد، لذلك فإن الكثير من المزارعين يفضلون أن يتم جني الزهور من قبل النساء، وذلك لما يتميزن به من صبر شديد وتعامل فطن مع الزهور، كي لا يتم إفساد الزهور والأشجار.
سعر عقد الفل المكون من 1000 ثمرة من ثمرات الفل يصل سعره إلى 300 ريال، بينما العقد المكون من 70 ثمرة والذي يزين به شعر النساء يصل إلى 100 ريال، بينما يصل سعر العقود الصغيرة إلى ثلاثين ريالًا
في هذا الصدد يقول المهندس الزراعي، محمد موسى غريب، لـ"خيوط": "إن زراعة الفل بحاجة إلى شخص خبير بالتعامل مع هذه الشجرة، فهي بحاجة إلى مكان مناسب، يمتاز بمناخ دافئ لكون الفل حساسًا لدرجات حرارة الشتاء الباردة، كما أنّه يتأثر بدرجات حرارة الصّيف الحارة، ويضيف غريب: "إن الفل يتطلب تعريضه لكمية من أشعة الشمس تتراوح ما بين التعرّض الكلي والجزئي، ولا بد أن تتم زراعة الفل في التربة العضوية الغنية، مع الانتباه لكونها ذات تصريف جيد للماء، علاوةً أن الفل يحتاج لكميات كبيرة من الماء، مع الانتباه لذلك في فصل الصّيف بشكل خاص.
وأشار غريب إلى أن الكثير من التحديات تواجه المزارعين؛ منها غزارة الإنتاج في موسم الإنتاج الذي يؤدي الى تدني الأسعار والتي لا تغطي تكاليف الإنتاج، خاصة بعد توقف التصدير بسبب الحرب، وهذا تحدٍّ يدفع كلفته المزارعون، بالإضافة إلى أن جني وتعبئة محصول الفل بالطرق التقليدية يسبب تلف جزء من المحصول أثناء النقل من منطقة لأخرى، كما أن ارتفاع الأسمدة والمبيدات وكافة تكاليف العمليات الزراعية الأخرى مقارنة بالقوة الشرائية ودخل المستهلكين واحدة من التحديات الإضافية التي يعاني منها المزارعون. من جهته يرى محمد موسى، مواطن، أن أفضل الحلول هي إنشاء معامل صغيرة لتصنيع العطور من أزهار الفل واستيعاب الفائض في ذروة موسم الإنتاج.
فرصة عمل
يذهب إسماعيل محمد (22 سنة)، بائع للفل، لشراء الفل يوميًّا إلى سوق (باب مشرف(، أكبر الأسواق الشعبية وأقدمها في الحديدة غربي اليمن، وهو السوق الذي تلتقي فيه كل أنواع الفل القادم من مناطق زراعته في مديريات الحديدة المختلفة، يأخذ إسماعيل ما اشتراه من فل إلى حارة اليمن في مديرية (الحوك) القريبة من الساحل، حيث يتواجد عدد كبيرة من المنازل التي يعمل ساكنوها على رصف حبات الفل على هيئة عقود وقلائد وأشكال مختلفة، بعدها يقوم ببيع ما تم تشكيله إلى سوق صدام، حيث يقوم ببيعه مع عشرات الباعة المنتشرين على امتداد السوق.
يمثل الفل مصدر دخل مهم لإسماعيل وللكثير من الأيادي العاملة في مختلف الأحياء والمناطق بالحديدة، وذلك نظرًا لمردوده الاقتصادي المعقول للمزارعين والعمال. يقول إسماعيل لـ"خيوط"، إن بيع الفل هو مصدر دخل له ولأسرته، فوالده يعمل في بيع الفل ورص حباته في عقود منذ سنوات، وشقيقه تعلم من والدهما هذه الحرفة وتربوا معًا عليها.
من الحديدة يتم تصدير زهور الفل حسب الطلب إلى تعز وإب وصنعاء وغيرها من المدن والمناطق اليمنية، ويصدرها التجار إلى المناطق المختلفة، حيث يتم وضع زهور الفل في ثلاجات خاصة (طبقة ثلج وطبقة فل) وهكذا حتى يصل، وهناك يتم تجديد الثلج ويبقى الفل لأسابيع بنفس الجودة والرائحة.
عطر كل المناسبات
في محافظة الحديدة تجد زهور الفل في الشوارع على مدار السنة لكن في فصل الصيف يزداد إنتاجه؛ لذا يتجه الكثير من أبناء الحديدة لإقامة مناسباتهم في فصل الصيف، لاستغلال تواجد الفل بكثرة والذي يعد من أنواع الزينة للعروسين على حد سواء، كما يتزين أهل العروسين بأشكال مختلفة للفل، للدرجة التي يغدو مكان الفرح فواحًا بالفل.
من أشكال الفل (الكباش)، ومنها نوعان العربي والعدني، وأشكال أخرى يطلق عليها: الهمش، الشهاد، الأشرطة، الجرز، الكوافي، القلادة، الشال، الحلق وتوضع على الأذن، والمشاقر وتعد الشرديخة من أهم أنواع الزينة للنساء
ويشير إسماعيل في حديثه لـ"خيوط" إلى أن سعر عقد الفل المكون من 1000 ثمرة من ثمرات الفل يصل سعره إلى 300 ريال، بينما العقد المكون من 70 ثمرة والذي يزين به شعر النساء إلى 100 ريال، بينما يصل سعر العقود الصغيرة إلى ثلاثين ريال. ويقول إسماعيل إن الخميس والإثنين من كل أسبوع يزيد الطلب على الفل؛ كونها أيام تقام بها المناسبات.
وترى أم راشد، من أبناء مديرية (الزيدية)، أن الأعراس المقامة في الشتاء ينقصها الفل؛ نظرًا لقلة إنتاجه مما يضطر السكان إلى تأجيل مناسباتهم إلى فصل الصيف، وتتباهى النساء بكمية العقود المطرزة من الفُل على شكل قلادة على صدورهن وعلى رؤوسهن. مضيفةً: "تتزين المرأة التهامية بأشكال الفل في الجلسات واللقاءات النسائية، إضافة إلى الحباق (أشجار عطرية تزرع في الحديدة)، إذ يعرف عن المرأة التهامية أنها لا تشتري العطور والطيب، بقدر اعتمادها في التزين على الفل والنباتات العطرية".
أصناف رائجة
تتفنن نساء الحديدة في تجهيز أشكال مختلفة من الفل لتزين النساء في مناسبات كثيرة، ومن أشكال الفل (الكباش)، ومنها نوعان العربي والعدني وأشكال أخرى يطلق عليها: الهمش، الشهاد، الأشرطة، الجرز، الكوافي، القلادة، الشال، الحلق وتوضع في الأذن، والمشاقر وتعد الشرديخة من أهم أنواع الزينة للنساء وتعتبر موروثًا ثقافيًّا ما زال حاضرًا إلى اليوم في مناسبات سكان الحديدة.
والشرديخة غطاء من الفل يضع على رأس العروس، بحيث يغطي شعر العروس كاملًا، يأتي على شكل كوفية وعقود فوق جسم العروس، وهذه العادة أخذت من الهنود الذين سكنوا تهامة.
تضع "المفللة" هذه الأشكال بعناية بحيث يضيف للعروس جمالًا وأنوثة، أسابيع. في هذا الصدد يقول مؤرخون من أبناء الحديدة إن هذه الأشكال انتقلت مع الهنود الذين عاشوا في الحديدة. كما يصاحب الشرديخة باقة من الفل توضع على أيدي العروس على هيئة خواتم على أصابعها وحلق على أذنيها. كما تتزين أحيانًا بالشرديخة أم العروس وأقاربها وصديقاتها والحاضرون.
آمنه محمد، تعمل في تجهيز الشرديخات، تقول لـ"خيوط": "إن الشرديخة مهمة في أعراس سكان المدينة وأن الطلب على تجهيز الشرديخات في تزايد مستمر، خصوصًا في فصل الصيف"، مشيرةً إلى أن سعر "الشرديخة" يصل إلى أكثر من 20 ألفًا في الشتاء، بينما في الصيف ينخفض سعره بنسبة كبيرة.
تعمل آمنة (اسم مستعار)، منذ سبع سنوات في عمل "الشرديخات" وتعمل معها الكثير من الفتيات اللاتي وجدن في هذا العمل فرصة عمل يستطعن من خلالها توفير ما تحتاجه أسرهن، خصوصًا مع قلة فرص العمل في ظل الحرب، وتضيف آمنة أنها تحتاج لصناعة "الشرديخات" إلى 5 فتيات يقمن بتجهيزها حتى ينجزن أكبر عدد، حسب الشكل فيما يحتجن إلى كمية من الفل، وحسب عدد حبات الفل تحدد المبلغ على إثره، وتضيف آمنة هناك أشكال تحتاج من ألف إلى أربعة آلاف حبة فل وبين أربعة آلاف إلى ثمانية آلاف، ويستغرق عمل الشرديخة من خمس إلى سبع ساعات، وتشير آمنة إلى أن عمل الشرديخة يحتاج إلى مسدس كهربائي والشمع لتثبيت زهرات الفل حسب الشكل المطلوب.
وتتفاخر سالمة علي (اسم مستعار)، بمراسم زفافها الذي مضى عليه تسع سنوات للآن، وتقول لـ"خيوط": "أهم ما أتذكره، هو يوم "المكعس"، تبدو العروس وعلى رأسها "المكعس" كأنها ملكة تظهر على الحاضرين".
نائب مدير عام الهيئة العامة للآثار والمتاحف بمحافظة الحديدة، علي الأهدل، قال لـ"خيوط" إن "المكعس" هو تاج بديع يوضع فوق رأس العروسة في تهامة يوم عرسها، ويتكون من آلاف زهرات الفل وعدد كبير من المشاقر أو النباتات العطرية الأخرى كالبياض، والحبق (الريحان) والوال والزنط والأترنج ونباتات عطرية أخرى ليرتفع بشكل مثلث فوق رأس العروسة بارتفاع يزيد عن الذراع، يثبت ويوضع من قبل نساء ماهرات ومتخصصات في نسج ووضع المكعس بتلك الطريقة الجميلة والمعقدة في الوقت ذاته. ويضيف الأهدل أن المعكس يستعمل في معظم تهامة وتعتبر منطقة وسط تهامة أكثر تفننًا وإبداعًا وحفاظًا على المكعس كتقليد شعبي وثقافي ضارب بجذوره في عمق التاريخ.
من أين جاء الفل
تشير رواية متداولة عند الأهالي في تهامة عن زراعة الفل، أن أمير لحج "أحمد فضل القمندان" هو من أتى بـزهرة الفل من الهند، وقام بغرسها في بستان الحسيني محافظة لحج، ومنها انتشرت إلى مناطق أخرى منها الحديدة. وعن صحة هذه الرواية يقول أحمد فضل ناصر، مدير مكتب الثقافة بمحافظة لحج لـ"خيوط"، إن زراعة الفل بدأت في لحج، وقد جلب القمندان معظم غرسات الأشجار والورود، والرياحين والبذور، من الخارج ومعظمها من الهند وقد مضى على ذلك أكثر من 150 سنة. ويؤكد أحمد فضل أن المزارعين نقلوا زراعته من لحج إلى الحديدة، واستطرد قائلًا: "أسر وعروق لحجية كثيرة تعيش في الحديدة، وهم من نقلوا معهم زراعة الفل"، ويشير فضل إلى أن لحج كانت وما زالت أم المساكين حاضنة لكل الناس من مختلف المحافظات والمدن، وقد أخذ الكثير منهم الأشجار والغرسات والبذور منها بعد أن عملوا في المحافظة كمزارعين.
المهندس الزراعي غريب، وهو من أبناء الحديدة، يقول إنه لا يوجد ما يوثق صحة الرواية القائلة إن الفل قدم لليمن من الهند، وأنه انتشر لبقية المحافظات عبر لحج، ويذكر الباحث والمؤرخ علي مغربي الأهدل في دراسة له منشورة بعنوان "الفل نبتة الآلهة المقدسة" أن كلمة زهر هي الاسم الحقيقي والأقدم لهذه النبتة العطرية التي تعجز الكلمات عن وصف عطرها السماوي، كما ذكر ذلك الرحالة اليونان والرومان لدى وصفهم لساحل البحر الأحمر خلال رحلاتهم.
وحسب الأهدل فإن الفل واسمه المحلي (زهر) هو الاسم المستمد من اسم الإله (زهر)، شهر (القمر) أحد معبودات تهامة في الزمن القديم. وفي اللغة الأزهران الشمس والقمر، وقد كان الفل في الأساطير الشعبية عند أهل تهامة قبل الميلاد يعرف بطعام الآلهة، كما أشار إلى ذلك الرحالة اليونان والرومان، ومنهم داريوس الصقلي.
كما أشار الأهدل إلى أن منطقة المغرس، وهي من أشهر مناطق زراعة الفل يعني اسمها المكون من الأصل من مقطعين هما (مقه + أرض) أرض المقه أي أرض الإله القمر، وهذا ما يؤكد ارتباط الفل في ذاكرة الأرض والثقافة الشعبية بالقمر.
كما أكد الأهدل أن الفل ارتبط قديمًا في تهامة فعلًا باحتفالات الزواج المقدس وطقوس شعيرة الخصب. ودلل على ذلك في دراسته حضوره القوي إلى اليوم في تهامة في الأعراس والعلاقات الزوجية حيث لا تقوم مقامه أي نبتة عطرية أخرى، رغم وجود عشرات الأنواع من النباتات العطرية.
وذكر الأهدل في دراسته أن إطلاق اسم عقد الفل الكبير الذي يتدلى ويوضع حول عنق العريس والعروسة في منطقة تهامة في اليمن باسم (كبش) له معادلًا رمزيًّا لكبش الحيوان الذي كان يتم تقديمه كنذر أو قربان في المعتقد الديني، وأكد الأهدل في هذه الدراسة أنه وإلى وقت قريب في تهامة يتم ضمن طقوس العرس ذبح كبش (خروف) تحت قدمي العريس والعروسة ليلة الدخلة على العتبة الداخلية لسكن الزوجة الجديد، ويوضح الأهدل أن الفل ضمن الثقافة الشعبية القديمة لتهامة كان يعتبر من أهم قرابين الجنس والزواج والعلاقات الزوجية وما زالت أصداء هذه الثقافة حاضرة في المجتمع التهامي إلى اليوم.