عربيًّا القادم أسوأ، ومن أول يوم لعودة ترامب. لم يكن انفجار مرفأ بيروت عبثًا؛ فقد لحقه الاتفاق على بدء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، ورافقه توقيع الإمارات، وتهيئة البحرين، والضغط على السودان.
البحرين وقّعت، والسودان إلى حين! والقادم ألعن، خاصة مع عودة ترامب، المصرّ على إهانة الزمن العربي المهان أصلًا بكل الوسائل، وبالمال الخليجي تحديدًا.
وثائق هيلاري كلينتون كشفت المغطى، والمغطى بات مكشوفًا، من تخوم الأطلسي حتى شواطئ الخليج، التي ستصبح إيرانية أو صينية أيهما أقوى، وتركيا على التخوم!
الزمن العربي يأفل، وعلى أنقاضه يتشكل زمن آخر، ستكون قيادته في القدس أو أنقرة أو طهران، ولن تكون في بكين وموسكو للأسف الشديد. سيحل الشتاء الأمريكي، ويجتاح العرب كلهم والأيام بيننا.
ذات رسالة من صديق حميم في نهاية السبعينيات، وقد ذهب إلى بيروت، وعاد منها إلى القاهرة، كتب إليّ يقول: "هناك المستقبل في بيروت، في لبنان، حيث الوعي والثقافة، حيث الصحافة والانفتاح وذكاء اللبنانيين".
عندما أعاود قراءة رسالته، وأقارن فقط بين "حوادث ملحم كرم"، وبين "حوادث سليم اللوزي"، أفهم ما جرى ويجري.
أبى الجهل والتخلف العربيين إلا أن يستوطنا لبنان، فيدمرا كل شيء، لتنظم إليهما إيران، فيعود لبنان إلى مرابع المسلمين! وتدخل سوريا في أتون نار، لن تبقى منها سوى هيكل الأسد.
تحول ذلك البلد الجميل إلى ميدان لتصفية كل حسابات المنطقة، ولذلك ترى الطبقة السياسية تمثل كل بشاعتها، وأضف إليها بشاعة أمريكا، ويا فالح لك الله.
كلما حاول لبنان أن يخرج من عنق الزجاجة بوعي الشارع، دفعت الأطراف الإقليمية بنفس الوجوه القميئة، ممن صنعتهم أجهزتها، لاحتوائه، والعودة به إلى الصفر من جديد. وهناك من يستغرب أن عملاء المنطقة كلها، لم يغيروا ولم يبدلوا حتى لهجتهم، نفس الوجوه ونفس الخطاب ونفس النغمة، ورحم الله غوار الطوشي ومسرحية تشرين!
كيف يمكن أن تغير وجه عملائك، فأنت نفسك لم تتغير، فصارت الأحزاب اللبنانية كخدام خدام بيت الجرافي.
خرج الشارع وضغط، وطالب بحكومة، فجاءت، لكن الفرقاء من حزب الله إلى تيارالمستقبل إلى أمل وبقية الجوقة الفاسدة، عملوا على سد النوافذ وأبواب التمويل والأمل، حتى أعادوا اللعبة إلى بداية البداية!
بالأمس الأول والحكومة لم تأتِ، والفراغ يكبر، وانفجار بيروت ضاع التحقيق في أسبابه بين الركام، قال الحريري بعد أن عادت الكرة إليه، إنه سيشكل حكومة من الاختصاصيين، بعيدًا عن الحزبيين، تخيلته في تلك اللحظة الشيخ عبدالله، حين كان حزبه ينافس حزب المؤتمر وهو ينتخب رئيس المؤتمر! ويصبح مرة أخرى رئيسًا لمجلس النواب، ليذكرني بلعبة الاستغماية التي صفقنا لها على أساس أنها ديمقراطية، لنكتشف في الأخير، غير مأسوف علينا، أننا نلبس كل يوم نفس القميص السوداني الذي يلبس من كل جهة؛ من الأمام تلبسه، من الخلف تلبسه!
العقل الرسمي العربي وصل إلى نهاية العداد، فلم يعد قادرًا على اجتراح اللحظة الفارقة، والمال الخليجي -تحديدًا- أصبحت مهمته تدجين من لا يزال في حلوقهم بقايا أوتار تصدر أصواتًا
الآن مسلسل التطبيع مستمر، وإن توقف في المحطة السودانية، فسنراه جليًّا في محطة أخرى ومحطات، وإن أردتم فشاهدوا لقاء بندر مع العربية، وهو مهندس كل هذا الخراب، من أول طلقة في حرب الخليج الأولى!
أنا معه في أن فلسطين قضية عادلة محاميها فاشل، ذلك صحيح، خاصة والسعودية زعيمة العالم الإسلامي ومحضية البيت الأبيض! وبقية الكومبارس اللعين.
الآن سنرى لبنان المتخلف والجاهل، يمد يده لإسرائيل عبر البحر والنهر، فهو بلد لن يستحمل انفجارًا آخر بحجم يفوق الأول.
سيعود الحريري، وسيخطب نصرالله، ويقرأ برّي ما سيتبقى من خطاب الحريري عندما يتلعثم، ويحذر الرئيس، آخر أمل لسوريا، من جهنم أخرى سنراها في العالم العربي كله، ونحن لسنا ببعيد.
المسيحيون يلهثون وراء ماكرون لإنقاذهم، وينسون أنهم أصحاب الصيغة التي تنحر لبنان، ومنها يدخل العربان ومن لهم مصلحة غير شرعية كما نرى، ينسون أيضًا أن ماكرون ليس ميتران.
على الفلسطينيين أن يجدوا طريقًا ما، للخروج من المحنة، التي أولها في غزة، وآخرها في مكان ما، ولا عزاء للمناصلين –بالصاد– العرب؛ فالشعارات أيضًا لم يعد لها سوق.
وإذا أردت أن تفهم ما يجري في العالم العربي، فعليك أن تدري ماذا يجري في بيروت.
العقل الرسمي العربي وصل إلى نهاية العداد، فلم يعد قادرًا على اجتراح اللحظة الفارقة، والمال الخليجي - تحديدًا - أصبحت مهمته تدجين من لا يزال في حلوقهم بقايا أوتار تصدر أصواتًا.
لذلك وغيره، وبعودة ترامب وظهور بندرمن جديد، فأبشروا بعصر آخر ليس في صالح العرب، وبالمطلق.
هناك فرسان من خارج الحلبة قادمون، سيرثون الرجل المريض على كل المستويات، يتقاسمون التركة.
أخشى أن نستيقظ ذات صباح يوم قادم، لنجد على صعيد القضية الفلسطينية، دويلة غزة، دويلة الضفة، وما بينهما وحولهما مستوطنات تفوق الدويلتين قوة.