مجددًا تعود شبوة لواجهة الصراع. لم تغب هذه المحافظة يومًا عن مجمل الصراعات الدموية منذ البداية. لا يخلو تاريخ الصراعات من الحضور الشبواني. فقد كانت جزءًا من المعادلة في كل دورة عنف. ولعب الانقسام المناطقي والجهوي في مجتمع شبوة، دوره في هذا الحضور. ولا تمثّل شبوة استثناء بين كثير من المحافظات في هذه الناحية. لقد فعلت هذه الانقسامات فعلها في خلق اصطفافات متعددة تذهب بعيدًا عن محليتها وقبائليتها وجهويتها.
سيظل الصراع على وفي شبوة محتدمًا حتى وإن خفّ لبعض الوقت، وهو ليس حدثًا عابرًا، بل امتدادًا للمواجهات التي حدثت في أغسطس 2019. ولكن ربما يكون أكثر اتساعًا وأشمل من حيث الأهداف التي يسعى الفرقاء الظاهرون والخفيون، لتحقيقها.
يذهب البعض إلى أنّ نفط مثلث مأرب- شبوة- حضرموت، يمثل جوهر صراع القوى الإقليمية بسبب مشكلة الطاقة التي خلقها الصراع الغربي الروسي. نحن نميل إلى اعتبار ذلك مجانبًا للصواب، لمحدودية كميات النفط اليمني مقابل الاحتياجات العالمية الطائلة. ونعتقد أنها لا تجذب إلا صراع القوى المنخرطة في الحرب اليمنية، والعابرة للجغرافيا.
لقد حدثت متغيرات عالمية ودولية كبيرة، لم تُراعِها الأطراف المحلية ولم تضع في الحسبان مدى تأثيراتها على مستقبلها. فصحيح أنّ إعادة صياغة التحالفات على المسرح الدولي تفتح الخيارات لإعادة صياغة التحالفات على المستويات المحلية. ولكن الأصح كذلك هي المتغيرات في شبوة ذاتها، فقد أزيح محافظها السابق الذي كان يمثّل الإصلاح، بآخر ينتمي للمؤتمر، ولكلٍّ منهما وجهة هو موليها. ولكنهما لا يخرجان في المحصلة عن إطارهما الجهوي والمناطقي. فإذا كان المحافظ السابق شكّل سندًا للقوات الخاصة وما تبعها خلال 2019، فإنّ المحافظ الجديد بدا أنه أميَل لدعم ألوية النخبة ودفاع شبوة.
ونقطة التحول الأخرى هي أنّ المواجهات الجديدة تجري في ظل الهدنة السارية على الحرب الأُمّ. وهذا ربما أشعر الأطراف المنخرطة فيها ببعض الاطمئنان عند تحريك قواتها بين المناطق المختلفة وإعادة انتشارها لخدمة الحدث الراهن. لكن هل هذه الأطراف مطمئنة فعلًا؟ وبالتالي فستواصل القتال حتى النهاية؟ من أين يستمد هذا الاطمئنان وكل هذه الثقة جذورهما؟
امتحان المجلس
شبوة أحد أسئلة امتحان (مجلس القيادة)، وكيفما كانت الوصفة التي تخلق بها، فلم تعد الأسئلة حول النشأة في هذا الظرف مُلِحة، فالمجلس أصبح أمرًا واقعًا لا مفرّ من التعامل معه ومن خلاله. حتى وإن تعددت مصادر هذه الأسئلة وأصحابها. السؤال الأساسي اليوم هو عن الكيفية التي سيدير بها هذا المجلس كافة الأزمات الماثلة والمحتملة.
لا يتوقف امتحان مجلس القيادة على سؤال شبوة فحسب. هناك كثير من الأسئلة التي لم يجِب عليها المجلس بعد، أو أنها من الصعوبة بحيث لا يستطيع فعل ذلك قريبًا. ولعل سؤال الحرب والسلام واحد من أكثر الأسئلة صعوبة.
إن النسيج المتعارض لتركيبة المجلس يجد صداه على الأرض، وبالتالي فإن أي طبل يقرعه أي عضو فيه، لا بدّ أنّ يتردد صداه رقصًا في أي منطقة. إذن، ما هي ممكنات حل المعادلات المستحيلة أو الأعداد الوهمية في مصفوفة واحدة يكون لها ناتج منطقي؟
وبصرف النظر عن التجييش الكبير والاحتشاد الفاقع في وسائل وشبكات ومنصات التواصل ومحركات البحث، والتي جميعها تخوض سجالًا في الفضاء الافتراضي لمؤازرة هذا الطرف أو ذاك في احتراب شبوة، فإنه ينبغي ألّا يشغل اهتمام أعضاء المجلس، لأنّ هذا الاحتشاد لا يعبّر بالضرورة عن الحقيقة.
ما جرى في شبوة يشبه إلى مدى بعيد أهم أسئلة الورقة الامتحانية الصعبة، عندما يضع الأستاذ نفسه في تحدٍّ مع طلابه، فهو لا يريد قياس مدى استيعابهم للمنهج، قدر رغبته في إهانتهم لا أكثر.
ويحتوي ملف امتحان المجلس على أسئلة صعبة كثيرة، يأتي سؤال المشروعية كأهم بنود ملف الامتحان. ونعني بالمشروعية: ملاءمة قرارات المجلس وتصرفاته لروح ونصوص الدستور والقوانين النافذة. في هذه اللحظة لم يعد الكلام يدور حول الشرعية التي يُفترض اكتسابها عبر القنوات المعروفة، بل عن العقلية التي يُنظر بها للتشريعات.
الإجابة عن سؤال شبوة ستكون علامة فارقة في (قضيتي) المشروعية وفنّ إدارة الأزمات ككل. هناك من يقول بأن قرارات المجلس حول شبوة متعجلة، وآخر يقول بأنها خاطئة، وكلا القولين يتضمنان وجهة النظر نفسها. مع فارق أنّ الأولى مستترة والأخرى سافرة. جاءت الأقوال على لسان قيادات أو قيادات سابقة في صف (الشرعية)، وربما فهم منها قائد القوات الخاصة أنّ بإمكانه القيام بعملية خاطفة تعيد خلط الأوراق في المحافظة. وهناك رأي ثالث يعتبر أنّ تلك القرارات صائبة وفي محلها تمامًا، ولكنه يسكت عن بيان مدى صوابيتها، وما إذا كان ينبغي أن تتبعها إجراءات أخرى أم أنّ الأمر يجب أن ينتهي هنا.
طبعًا هذه الآراء في المجمل، قريبةٌ من الأطراف المتقاتلة، ولكنها ليست قريبة بكل تأكيد، من العوامل المحفزة والدافعة للقتال. لقد تم الزعم أنّ محاولة اغتيال قائد القوات الخاصة هو الباعث على اشتعال القتال، خاصة بعد قرارات المحافظة لبعض القادة. لكن هذا الزعم فيه من الخفة الكثير، لأنه يشبّه السلطة (التي تمثلها القوات الخاصة) بالشخص الذي يعاني من خلل وظيفي في الحبل الشوكي فتتحرك بعض أعضائه بغير إرادة منه. تعلمنا أن نصف الإجابة تكمن في قراءة وفهم السؤال، ترى هل قرأ مجلس القيادة سؤال شبوة بتمعن؟ هناك عوامل أكثر جدية من مجرد محاولة اغتيال شخص ما يمكن أن تشعل صراعًا في شبوة ثم يمتد وينتشر في المثلث النفطي ويهدد موانئ التصدير وخطوط الإمداد.
في هذه الحالة تتشكل ظروف مواتية لأكثر من طرف لشغل الفراغ الناجم عن هذا الصراع.
في هذا الوضع ينبغي دراسة جملة العوامل المؤثرة، وهي لن تكون قليلة. فإلى جانب الصراعات القبلية المتوارثة والمؤطرة حزبيًّا -أو "هكذا تبدو"- هناك رغبات جهوية متعددة في إعادة رسم خارطة وصورة المحافظة في علاقاتها الداخلية والخارجية، بل وفي بنائها وفقًا لحسابات القوى المتعارضة (القاعدة، داعش) وامتداداتهما، التي تشكّل جزءًا في الحرب ثم بقية الأطراف المنخرطة فيها. بالتأكيد هناك مستفيد نهائي.
هذا المستفيد يعلم كما تعلم بقية الأطراف، أنّ الحرب قد وضعت أوزارها منذ مدة، وتأكد ذلك بالهدن التي ربما فرضت على الأطراف المحلية دون حضورها أو بحضور شرفي، كما هو شأن الحرب ذاتها.
فإذا صدقنا بنهاية الحرب فإنّ البلاد يجب أن تسير نحو أفقين: إما إفساح المجال للسلام، أو التوجه نحو مزيد من الحروب بين الفرقاء فيما يشبه حرب الاستنزاف المتبادل أو التفكيك. فإذا كان الاتجاه الأول هو الخيار المفضل، فإن الأطراف المحلية جميعها ليست مقتنعة تمامًا بما تحت أيديها. في الظرف الراهن فإنّ وضع موارد الطاقة والمنافذ البحرية ليس مريحًا لبعض الأطراف، وبالتالي فهي تسعى ليكون لها رأي في الأمر.
لا يمكن أن يكون لأي طرف رأي في موضوع الطاقة بدون أن يمتلك القوة على الأرض. وبالتالي سيكون من مصلحته بروز جوّ من الفوضى يسمح له بالتمدد.
سؤال صعب
في هذا الوضع المتأزم الذي يلف شبوة، فإنّ مجلس القيادة بالتأكيد يعلم أنه ليس الوحيد الذي يستطيع التأثير على الأحداث، وبالتالي فسيكون عليه توفير الضمانات الكافية لجعل قراراته سارية ليس فقط على الأشخاص في شبوة بل وعلى الواقع وعلى الكيانات المختلفة. بمعنى أنه إذا زعم أنه يمثل سلطة دولة، فهذا الزعم يحتاج لما يؤيده على الأرض (تساوق تصرفات المجلس مع الدستور والقانون وحيازة القوة القادرة على إنفاذ ذلك).
لا يتوقف امتحان مجلس القيادة على سؤال شبوة فحسب. هناك كثير من الأسئلة التي لم يجِب عليها المجلس بعد، أو أنها من الصعوبة بحيث لا يستطيع فعل ذلك قريبًا. ولعل سؤال الحرب والسلام واحد من أكثر الأسئلة صعوبة في وجه المجلس. فقد صرح رئيس المجلس منذ اليوم الأول أنه "تخلى عن خيار الحرب" لصالح خيار السلام، لكن هذا الخيار ربما لم يقابل بالصدى الإيجابي الذي يشجّع على المضيّ قدمًا نحوه. فمع أنّ ردّ أنصار الله (الحوثيين) كان أقرب للتجاهل بدلًا من المباركة إلا أنّ هذا الموقف ربما يعود لواقع الهوة المتسعة بين الطرفين والمملوءة بالدماء والجثث.
لقد أظهر "الاصطراع" الإعلامي حول ما يحدث في شبوة إلى العلن قضية تنازع السلطات. فقد ظهرت قنوات بعينها وأشخاص يمثلون (حكومة المجلس) نفسه وهم يسوقون (لشرعية) مزدوجة عائمة الدلالة وضبابية الشكل.
يصطدم خيار (العليمي) في السلام، بكثير من الخصوم على الضفة الأخرى، وهذا أمر طبيعي ويجب توقعه. غير المتوقع هو اصطدامه بقوى داخل الجبهة التي يمثلها، فإلى جانب العديد من ذوي المناصب والرتب هناك ناشطون كثر يقفون على النقيض من هذا الخيار. بل لا تجد في وسائل إعلام حلفاء مجلس القيادة أو خصومة أي لغة تصالحية، فالمتابع لا يجد إلا لغة التصعيد في نسق واحد لا يتبدل.
على أنه في كلا الحالتين ما (إذا كان ينبغي السير في خيار السلام أو خيار الحرب)، فهناك احتياج للقوة الدافعة اللازمة، وهذه ليست فقط عسكرية -فهي آخر ما تحتاجه- بل قوة إرادة واتخاذ قرار وقوة دعم مادي (موارد مختلفة) وقوة إقناع بالأفضل من الخيارين.
لا ينحصر فضاء الخصومة بين (مجلس القيادة) وأنصار الله (الحوثيين) بحكم الحرب وجذورها ونتائجها بصفة عامة، بل وكما بيَّنا، فحدة التناقضات في جبهة المجلس ربما تكون أكثر ضررًا عليه وعلى قدرته في المناورة السياسية. فقد تزامنت أحداث شبوة مع حملة إعلامية واسعة مناهضة للمجلس وقراراته ونشرت وسائل إعلام كثيرة أنباء متضاربة عن استقالات في جسم المجلس، خاصة ممثل الإخوان فيه، على خلفية البيان الذي أصدره رئيس المجلس.
ولم يتوقف الأمر هنا، بل إنّ كثيرًا من الوسائل الإعلامية أكّدت أنّ مجموعة من القيادات الحالية والسابقة شكّلت ما يسمى: (مجلس الإنقاذ الوطني)، برئاسة عبدالعزيز جباري، بمعية طيف من الساسة والعسكر، وهذه ليست سابقة، ففي الفترة السابقة تصدر اسم الجباري وأحمد الميسري وصالح الجبواني وآخرين، عناوين وسائل الإعلام بالإعلان عن تأسيس (جبهة الإنقاذ) ضدًّا على التحالف والرئيس السابق (هادي). ونسب لرئيس مجلس الإنقاذ الوطني الجديد "دعوة كافة أبناء الشعب اليمني والجيش الوطني وكل أحرار وشرفاء الوطن من ساسة وأحزاب إلى دعم المجلس والوقوف خلفه لتحقيق كافة طموحات الشعب اليمني وسيادته وتحرير الأرض والقرار".
اللافت في الأمر أنّ جميع الأسماء الواردة في بيان التأسيس على علاقة بتنظيم (الإخوان)، وهذا ما عكسته وسائل الإعلام التابعة للتنظيم، وهي تتابع منشورات البعض منهم، وذهبت بعض القنوات إلى وصف مجلس القيادة بـ(غير الشرعي).
سيناريو قابل للتكرار
لقد أظهر "الاصطراع" الإعلامي حول ما يحدث في شبوة إلى العلن، قضية تنازع السلطات. فقد ظهرت قنوات بعينها وأشخاص يمثلون (حكومة المجلس) نفسه وهم يسوقون لـ(شرعية) مزدوجة عائمة الدلالة وضبابية الشكل. حيث برز الكل يتحدث عن أن القوة (ص) والتشكيل (س) لا يمكن إلا أن يكون مع الشرعية وشبوة بالنتيجة، وبات المتلقي في حيرة من أمره عن ماهية الشرعية التي يتحدث عنها كل هؤلاء! وما هي الجهة الممثلة لهذه الشرعية في الحالة الراهنة؟ أهو محافظ المحافظة أم القوات الخاصة والنخبة ودفاع شبوة؟ أيهما الأقوى من حيث نطاق (RANGE) الصلاحيات الممنوحة له وفقًا للتسلسل الهرمي للسلطة. وكان لا بدّ والحال هذه، أن يتم إزالة اللبس من أذهان الناس حول المقصود بالشرعية.
وخيرًا فعل رئيس المجلس بإصداره بيانًا مساء الأربعاء 10 أغسطس/ آب 2022، أوضح فيه ملابسات ما حدث في شبوة وأنه يعطي "درسًا إضافيًّا في أهمية الالتفاف حول سلطة الدولة وحقها في احتكار القوة واتخاذ كافة الوسائل لإنفاذ إرادتها وحماية مواطنيها"، وهذه فكرة محورية وضعت النقاط على حروف كثيرة. وإذا كان المجلس قد بادر إلى احتواء المشكلة، فقد بيّن الشرعية التي يمثلها وأين تكمن رمزيتها في شبوة بعمله على "دعم رمز الدولة وهيبتها الممثلة بالسلطة المحلية وقيادتها في سبيل وقف نزيف الدم وإنفاذ إرادة الدولة"، وهذا بالضرورة يجب أن ينسحب على كل هيئات الدولة.
نحن أمام سيناريو قابل للتكرار في أي لحظة. سيكون من الضرورة بمكان وضع المعالجات الكفيلة بمنع ذلك، ومن هذه المعالجات أن يظهر المجلس قدرًا أكبر من التماسك والقوة، ووضع آلية توافقية محددة وملزمة لأعضاء المجلس وترتيب أولويات القضايا التي يجب العمل عليها. وتوفير ضمانات عدم النكوص فيما يخص القضايا المرحلة إلى آجال متأخرة. وسيكون من اللازم النظر في مصير القوات المحتربة في شبوة وإعادة هيكلتها ودمجها بكل القوات المتوافق عليها، وليس مجرد تغيير قيادتها.
إنّ الحلول الملتزمة بروح الدستور ونص القانون وجوهر التوافق، هي الكفيلة ببيان نجاح أو فشل (مجلس القيادة).