عرض وترجمة: حامد جامع
[بمناسبة العيد الـ53 للاستقلال الوطني في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، تعيد "خيوط" نشر هذا المقال الذي نشرته مجلة "المنارة" الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين - فرع عدن، في عددها الخامس، أكتوبر 1989. والمقال كما يشير الكاتب/ المترجم، هو في معظمه ترجمة لما تضمنه الجزء الثاني من كتاب "الموقع الأخير: 64-1967"، عن تفاصيل تاريخية حول الإجراءات التي اتخذتها الحكومة البريطانية آنذاك، خلال السنوات الثلاث الأخيرة من استعمارها لجنوب اليمن. وهي فرصة جيدة ربما لتذكّر تلك التفاصيل بالنسبة لمن عاشها أو عاش زمنها، وللاطلاع بالنسبة للأجيال اللاحقة للاستقلال، وبالتالي، تأمل أحداث التاريخ القريب من زوايا تطورات الوضع الراهن، الذي تعيشه اليمن عمومًا، والجنوب على وجه الخصوص]. "خيوط".
الإهداء: إلى الذين لم يعيشوا تلك الأيام، وإلى الذين عاشوا تلك الأيام.
نمضي في هذا العدد إلى تقديم الجزء الثاني من كتاب جوليان باجيت، سكرتير الأمن في السكرتارية في مستعمرة عدن، "الموقع الأخير: 64- 1967"، وهو الجزء كما أسماه المؤلف بـ"الإرهاب في عدن" بعد الجزء الأول حول "معركة ردفان".
وهذا الجزء الثاني تنظمه الصفحات من 111 إلى 266، وقد آثرنا -رغم أنه يعرض وجهة نظر المؤلف، وهي وجهة نظر معادية طبعًا وقطعًا- أن نقدمها دون أن نضمنه أي تقديم أو تعليق، فهي هكذا أحفل بالمعاني والدلالات. [المترجم].
"خلال سريان الطوارئ في الجنوب العربي كانت القوات البريطانية تخوض معركتين جليتين؛ الأولى: حرب عصابات في المناطق الجبلية في الاتحاد، والثانية: هي العمليات ضد الإرهاب في ولاية عدن. وكان هذا التمرد موعزًا به من مصر، ولم يكن موجهًا ضد البريطانيين وقاعدتهم العسكرية فحسب، بل كذلك ضد حكومة الاتحاد التي كان المصريون يعتبرونها نظامًا عميلًا يستهدف إطالة أمد السيطرة حتى بعد أن نكون قد انسحبنا".
[ويعبر المؤلف عن استنتاج حاسم في القول: "كان الإرهاب في المناطق الحضرية في ولاية عدن أكثر خطورة، وساهم بصورة ملحوظة في تشكيل الأسلوب الذي وصلنا به، وكان أيضًا عاملًا حاسمًا في تحديد الوضع السياسي في الجنوب العربي بعد الاستقلال"].
واكتسبت حملة الإرهاب دفعة مضاعفة بصدور ورقة الحكومة البريطانية البيضاء حول السياسة الدفاعية، وذلك في يوليو/ تموز 1964، والتي رسمت سياسة بريطانيا الدفاعية في الشرق الأوسط للمستقبل، وهي نية الحكومة في الاحتفاظ بقاعدتها العسكرية في عدن، ولكن منح الجنوب العربي الاستقلال في موعد لا يتجاوز عام 1968.
وكان هذا الإعلان البريطاني دعوة مفتوحة للمصريين وللوطنيين لاتخاذ خطوات فورية في مسعى لاكتساب السلطة لأنفسهم بحلول عام 1968. ولم يعطهم الإعلان موعدًا ختاميًّا لتحقيق هدفهم فقط، بل وكذا أهدافًا لهجماتهم في صورة القاعدة العسكرية "الإمبريالية" المقترحة.
وكان هدفا الوطنيين بإيجاز هما:
جـ - تلطيخ سمعة الحكومة وقوات الأمن بكل الطرق الممكنة.
د – اكتساب الدرجة القصوى من السيطرة، من خلال التغلغل في الأجهزة الحكومية وتخريبها، خصوصًا تلك الأجهزة التي تدير شؤون الجمهور.
هـ- إيجاد دعاية على درجة قصوى من الفعالية محليًّا وعلى النطاق العالمي في خدمة قضيتهم وضد الدعاية البريطانية والاتحادية.
واختار الوطنيون يوم 14 أكتوبر بصفته اليوم الذي بدأت فيه "الثورة" رسميًّا؛ لأنه كان اليوم الذي قرر فيه الوطنيون انتهاج أسلوب "النضال الثوري الشامل"، ووضعت خططًا للقيام بعمليات ضد أهداف ملائمة، واختير موعد زيارة وزير المستعمرات الجديد في حكومة حزب العمال، المستر أنتوني جرينودد إلى عدن في نوفمبر 1964، كذريعة لتدشين حملة إرهاب كان لها أن تستمر طوال الثلاث سنوات التالية.
واستمرت الحوادث تتوالى كل يوم تقريبًا، بل الأصح، تطّرد في كثافتها حتى الاستقلال، كما توضع الأرقام التالية:
العام الحوادث الإصابات (بين قوات الأمن الأوروبيين والمواطنين المحليين)
1964 36 36
1965 268 239
1966 510 573
1967 (10) أشهر: 2,900 (تقريبًا) 1,248
المجموع: 3732 2,096
الحرب ضد الإرهاب
كان فرض حالة الطوارئ في ولاية عدن معقدة وصعبة بصورة استثنائية من وجهة نظر المندوب السامي بصفته السلطة المدنية، وكذا من وجهة نظر قادة قوات الأمن. كانت المشكلة الرئيسية هي توزّع مسؤولية الأمن الداخلي بين الأجهزة المختلفة المعنية، فهناك أولًا الحكومة البريطانية التي كانت تتوقف على سياستها كل أفعال وأنشطة البريطانيين في الجنوب العربي، وهي الحكومة التي كانت في تلك المرحلة لا تزال مسؤولة بصورة مباشرة عن إدارة ولاية عدن بواسطة وزارة المستعمرات.
وكانت حكومة الاتحاد- وولاية عدن عضو فيها- مسؤولة عن الأمن الداخلي في الاتحاد كله، وهي التي أعلنت حالة الطوارئ في 10 ديسمبر 1963.
وظل المندوب السامي البريطاني على أية حال مسؤولًا عن الأمن الداخلي في ولاية عدن؛ لأنها كانت لا تزال مستعمرة، وكان من الطبيعي أن يتشاور تشاورًا وثيقًا مع وزير الأمن الداخلي في حكومة الاتحاد الذي منح المندوب السامي صلاحيات إضافية كانت الحكومة الاتحادية قد فوضتها له كجزء من حالة الطوارئ.
يقال: إن من يصعد إلى شمسان، وهو القمة البركانية الكالحة التي تنتصب كظل داكن خلف مدينة عدن، لن يعود إلى المدينة مرة أخرى. وقد تصبب الكثير من أفراد القوات المسلحة (البريطانية) عرقًا -بمن فيهم المؤلف– وهم يشقون طريقهم في المنحدرات الجرداء الحارقة، "فقط ليتأكدوا من صحة تلك الحقيقة". وموقع ولاية عدن عديم الجاذبية حتى في أفضل الأوقات، وحتى في الغرف المكيفة الهواء، يذكر المرء وصف كيبلنج لعدن بأنها: "فرن حجري لم يوقده أحد لسنين وسنين".
لم يشعر مجموع السكان (في عدن) أو يظهروا بالضرورة أي كراهية للبريطانيين، ولكن كان من المنطقي تمامًا أن يروا أن لا مصلحة لهم أبدًا في تأييدنا في هذه المرحلة ضد الوطنيين، وهو أمر سيكون على حساب حياة السكان، وذلك ما كانت الدعاية المصرية توضحه بجلاء
القيادة والتحكم
فور إعلان حالة الطوارئ ارتُئِيَ أن جهازًا للقيادة والتحكم هو أمر مطلوب، ويجب توحيد ثالوث السلطات المدنية والعسكرية والبوليس مع الاستخبارات كعنصر رابع، وأقيمت لهذا الغرض ثلاث لجان برئاسة المندوب السامي، للتنسيق وإحكام تخطيط ومعالجة الوضع الأمني، وكانت اللجان هي لجنة السياسة الأمنية ولجنة الإدارة الأمنية وإدارة العمليات، وكانت لجنة السياسة الأمنية كما يدل اسمها هي الهيئة الرئيسية لرسم السياسات، وهي برئاسة المندوب السامي، وتضم في عضويتها وزير الأمن الداخلي في حكومة الاتحاد، والقائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط، وقائد "كمشنر" البوليس، ويمكن لآخرين حضور اجتماعاتها إذا دعت الحاجة، وتجتمع اللجنة عند الضرورة لترسم السياسات إزاء أي مسألة تترتب على سريان مفعول حالة الطوارئ.
الجولات الأولى (1964- 1965)
شهد العام 1965، تزايدًا مطّردًا في حالات الإرهاب في ولاية عدن، وارتفع مجموع الحوادث عمليًّا إلى 286 حادثة (مقارنة بـ 36 حادثة في العام 1964)، وبلغ مجموع الإصابات 239 إصابة (مقارنة بـ36 في 1964). وكما تزايدت كثافة العنف بصورة مطّردة، تنامت كذلك مهارة وتصميم الإرهابيين. ففي 29 أغسطس، أطلقت النار في كريتر على آرثر باري، الناظر البريطاني في البوليس، وبيّن مقتله سياسة الإرهابيين لشن حملة من جرائم القتل ضد البوليس والقسم الخاص –الاستخبارات– وكبار المسؤولين. ثم بعد عشرة أيام أُردي السير آرثر شايس، الرئيس البريطاني للمجلس التشريعي لولاية عدن، قتيلًا، بواسطة قاتل محترف، بينما كان يركب سيارته بعد مباراة في التنس في كريتر، وكان السير آرثر شخصية رائعة يحظى باحترام كبير في عدن، ولا يوجد له أعداء، ولم يكن شخصًا مشاركًا في سياسات البلاد، وسبّب موته موجة واسعة من الأسى والغضب.
[وبعد فصل هو الخامس عشر بعنوان: "مشكلات حفظ السلام"، ينتقل المؤلف في الفصل الذي يليه إلى ما أسماه بالتنازل عن السلطة (1966)].
أحاديث عن الانسحاب
شهد العام 1966، نشاطًا سياسيًّا ملحوظًا؛ إذ كانت بريطانيا تبحث فيه عن مخرج من مأزقها حول مستقبل الجنوب العربي. وفي يناير، أعلن في تقرير هورن وبيل، عن وضع دستور جديد لحكومة الاتحاد، رغم أنه لم يقدر له أبدًا أن يدخل حيز التنفيذ.
والحدث الذي سيقرر مصير الجنوب العربي أو أقداره، هو القرار الذي أذيع في الورقة البيضاء حول الدفاع في 22 فبراير 1966.
وذكرت الوثيقة في صحفة 39: "سينال الجنوب العربي استقلاله في عام 1968، ولا نعتقد أن من الملائم أن نحتفظ بتسهيلات دفاعية هناك بعد أن يحدث ذلك؛ لذا فإننا نزمع سحب قواتنا من قاعدة عدن بحلول ذلك الوقت". وكان معنى ذلك أيضًا أن بريطانيا ستلغي في الوقت نفسه جميع معاهداتها الدفاعية مع الاتحاد، ومع أي ولاية ليست ضمن الاتحاد.
وطار اللورد بيزويك إلى عدن، تمامًا قبل نشر الورقة البيضاء، بهدف نقل الأخبار إلى حكام الاتحاد، التي أثارت ذعرًا في مدينة الاتحاد [مدينة الشعب لاحقًا - محرر "خيوط"]، ووجد الحكام أنفسهم يحملون عبء استقلال كانوا أقل ما يكونون ترحيبًا به بتلك الشروط؛ لأن ذلك سيفي [سيبقيهم] عرضة سهلة لأعدائهم.
(ويقرن ذلك السير كيندي تريفاسكيس، وهو من غلاة الاتجاه المحافظ بين الإداريين العاملين في سلك وزارة المستعمرات والمعتمد السياسي البريطاني الأسبق في محمية عدن الغربية قبل أن يتبوأ مركز المندوب السامي، في كتابه أطياف الكهرمان SHADES OF AMBER، بأنه كان يوجد في ذلك الوقت حوالي ستين إلى سبعين ألف جندي مصري في اليمن". (ص132).
وتطلع حكام الاتحاد أولئك دائمًا، وكانوا موقنين بأنهم سيتلقون حماية بريطانية تعضد سيادتهم، وكان ذلك يتسق مع ما اعتبروه دائمًا، حتى ذلك التاريخ، وعدًا من وزراء المستعمرات المتعاقبين خلال العشر سنوات الماضية، وفهم الحكام أن مثل هذه الالتزامات ستظل قائمة مهما كان لون الحكومة التي تتولى السلطة في لندن، وإلى أساس هذه التأكيدات إلى حد كبير، ترجع موافقتهم المتسمة بالفتور على إقامة الاتحاد.
ذكر أحد الخبثاء في تعليق له أن تشجيع حكومة الاتحاد في هذه المرحلة على إيلاء ثقتها لبريطانيا، كان يعني دعوتها للقفز ليس إلى عربة زبالة بل إلى سفينة غارقة.
كان للإعلان فعل الكارثة بالنسبة لقوات الأمن؛ لأنه كان يعني بالنسبة لهم، من الآن فصاعدًا، حتمية فقدان كل أمل بأي مساعدة من السكان المحليين، ومنذ اللحظة التي أعلنت فيها بريطانيا تخليها الكامل عن مسؤولياتها في الجنوب العربي، فقد فقدت كل سلطة لها في المنطقة، وكان من الطبيعي أن يتطلع كل مواطن في هذا البلد إلى يوم الاستقلال عندما ستؤول مصائرهم على يد "أعداء الدولة" المعلنين حاليًّا. وسواء انتصر هؤلاء ووصلوا إلى السلطة أم لا؛ فإن هناك مستقبلًا هامشيًّا أو لا مستقبل إطلاقًا، للذين يعارضون "أعداء الدولة"، ويساندون بدلًا منهم الحكم البريطاني المحتضر. ولم يشعر مجموع السكان أو يظهروا بالضرورة أي كراهية للبريطانيين، ولكن كان من المنطقي تمامًا أن يروا أن لا مصلحة لهم أبدًا في تأييدنا في هذه المرحلة ضد الوطنيين، وهو أمر سيكون على حساب حياة أولئك، وذلك ما أوضحته بجلاء ماكينة الدعاية المصرية.
وسرعان ما بدأت إذاعات القاهرة وصنعاء وتعز في إصدار تهديدات أعنف ضد من يعملون في خدمة "الإمبرياليين"، بدلًا من العمل في خدمة الحركة القومية العربية، وللبرهنة على أن هذه التهديدات ليست محض هراء، فقد قاموا بسلسلة من جرائم القتل ضد من دعوهم "بالخونة والعملاء"، بل ووجد المندوب السامي أن من "العسير في وجه تلك التهديدات أن يجد من يشغل المقاعد الأربعة والعشرين المخصصة لممثلي ولاية عدن في حكومة الاتحاد. وفي فبراير 1966 وافق ستة أشخاص فقط على الاشتراك في المجلس الذي لم يجتمع في الواقع إلا في السادس من أغسطس بعد انقطاع دام قرابة سنة، الأمر الذي كان انتصارًا معنويًّا جليًّا للإرهابيين.
"ارتقى النشاط الإرهابي نوعيًّا وكذلك كميًّا، وتطورت بصورة ملحوظة مهارات قاذفي القنابل والمقاتلين الذين يعملون لصالح القاهرة، وهم الذين كانت مستوياتهم بالغة التدني من قبل، وأصبحت القنابل ترمي بمهارة وأكبر ونحو أهداف مقصودة، وتنفجر عادة وتسبب الكثير من الإصابات بين صفوف قوات الأمن وبصورة أقل بين السكان المحليين الأبرياء، كما كانت الهجمات أفضل تخطيطًا مع وسائل معدة لهرب قاذفي القنابل، وبوجود أفراد يتخذون مراكز للقيام بتغطية الحادث قبل وبعد وقوعه.
"وبالرغم من أن الكثير من الهجمات على الأفراد كانت تتم في أماكن مزدحمة وفي وضح النهار، ورغم عرض مكافآت سخية لقاء أي معلومات، فلم يوجد أبدًا أي شاهد على تلك الجرائم، كذلك كان من الصعوبة بمكان تعقب القتلة.
وأعلن في نوفمبر أنه سيتم إجلاء تسعة آلاف فرد من أُسر القوات المسلحة خلال ثلاثة أشهر، ابتداء من أول مايو 1967، كما لن يسمح أثناء ذلك لمزيد من العائلات بالمجيء.
كان النظام المتبع هو السماح فقط للوحدات التي ستقضي عامين إلى ثلاثة أعوام في عدن، باصطحاب عائلاتهم، وإضافة إلى ذلك كانت الكثير من الوحدات تصل إلى عدن في رحلات غير "مصحوبة" (أي بدون العائلات) لتقضي ستة إلى تسعة أشهر. وهذا يعني أنه كانت هناك حركة تنقل دائمة للوحدات، ولكنها كانت مسألة أيام قلائل فقط، قبل أن تتأقلم الوحدة الواصلة حديثًا، وتتمكن من القيام بمهامها في الأمن الداخلي؛ فقوات الكاميرونيونس مثلًا، وصلت رأسًا إلى عدن من مهامها الاستعراضية في أدنبرة، وكتائب الحرس "جاردس باتليون" GUARDS BATALION، قدمت رأسًا من لندن حيث كانت تؤدي واجباتها العامة".
وهناك بالفعل قصة حقيقة عندما كانت شخصية مرموقة تقوم بزيارة للكتيبة الأولى في قوات سومرست وكورنل المدرعة الخفيفة في عدن، بينما كانت درجة الحرارة فيها تفوق المئة درجة فهرنهايت، وقابلت تلك الشخصية جنديًّا يلف رجله بالضماد، واستفسر: ما الأمر؟ وجاء الرد: "إنها قضمة من أثر الجليد يا سيدي".
وبصورة عجلى بعض الشيء، تدخل قائد الفرقة ليشير إلى أن ذلك لم يكن عجرفة من الجندي بل كان حقًّا؛ إذ كانت الكتيبة تشترك في مناورات حلف الأطلسي في النرويج قبل وقت قصير من مجيئها إلى عدن.
"وفي يونيو 1966، وصل إلى عدن جون برندرجارت ليحل محل توفي كادبر كرئيس للاستخبارات، وكان جون مؤهلًا تأهيلًا رفيعًا في هذا المجال، وحاز ميدالية جورج وبار، أثناء اضطرابات الماو ماو في كينيا، ثم تولى بعدها قيادة جهاز الاستخبارات في قبرص أثناء سريان حالة الطوارئ، وانتقل بعدها إلى هوج كونج حتى إيفاده إلى عدن.
وكان التعقيد الجديد الذي برز ليجعل حياة أفراد قوات الأمن أكثر صعوبة، هو الأدلة المتنامية على أن قوة البوليس المحلية كانت موضع تغلغل وإقناع مطّرد من قبل الوطنيين، وكان البوليس في مركز بائس؛ فقد كان أفراده عربًا، لكنهم رغم ذلك يعملون لصالح البريطانيين، وفي بعض الأحيان تحت إمرتهم مباشرة، وهم الذين سرعان ما سيتركون عدن، وسيتوجب على أفراد البوليس أولئك كعدنيين البقاء، وربما وجدوا أن الوطنيين الذين يقومون الآن بملاحقتهم وتعقبهم، قد أضحوا أسيادهم تمامًا؛ لذا لم يكن مستغربًا أن يكون ولاء أفراد البوليس موزعًا، ولو بقوا على ولائهم [قدر] ما استطاعوا، لهو حقًّا أمر لصالحهم. ورغم ذلك كله، فقد أصبحوا موضع عدم ثقة مطّرد خلال العام 1966، وكان هناك ثلاثة أمثلة على حوادث إرهابية كانوا هم مشاركين فيها، وبحلول العام 1967، كان يُظن أن بعضهم يعملون بصورة نشطة ضد القوات البريطانية.
"كان معظم الإرهاب خلال العام 1966، من عمل الجبهة القومية التي يقودها قحطان الشعبي؛ لأن عناصر منظمة تحرير الجنوب المحتل، ضمن جبهة التحرير التي تكونت حديثًا، كانوا أكثر ميلًا للسياسة ويؤمنون بحل دبلوماسي لمستقبل الجنوب العربي، وأرسلوا وفودًا إلى القاهرة والأمم المتحدة، وحاولوا دون نجاح يذكر، إقامة حكومة في المنفى، في اليمن".
الوتيرة تتصاعد أوائل 1967
شهد العام 1967، بداية مرحلة جديدة اتسمت بتزايد ملحوظ في وتيرة الأنشطة الإرهابية. ازدادت الهجمات ضد قوات الأمن عددًا وكفاءة، وفي الوقت نفسه بدأ استخدام أسلحة صغيرة لأول مرة، كما استخدمت لأول مرة الحشود، بما في ذلك النساء والأطفال، في محاولة لدفع قوات الأمن للإقدام على أعمال أعنف يمكن توظيفها فيما بعد للأغراض الدعائية.
وكانت أكثر المعالم دلالة في هذه المرحلة الثانية، هو القرار السياسي الذي اتخذه المندوب السامي في أوائل 1967، أنه بالنظر إلى أن البوليس المحلي يجد صعوبة متزايدة في الحفاظ على الأمن والنظام، وحيث أنهم كانوا يعانون كذلك بصورة غير مقبولة من إصابات بالغة تلحق بصفوفهم، فإن الجيش يجب في حالة الاضطرابات الخطيرة أن يتولى المسؤولية عن الأمن الداخلي يساعده البوليس في ذلك، بدلًا من العكس، وكان البديل الوحيد لذلك هو حل قوة البوليس كليًّا، وهو وضع يجب تجنبه حتى لو كان ممكنًا لاعتبارات سياسية.
بالنسبة لقوات الأمن كانت مغادرة السير ريتشارد ترنبول فجأة خسارة حقيقية لهم؛ لأنه أيدهم بثبات في مهمتهم الشاقة [القتال ضد الثوار] رغم الكثير من الضغوط السياسية
تبديل الأحصنة مايو– يونيو 1967
في هذه الفترة، وكتذكير بأن حرب العصابات في المناطق الريفية لا تزال جارية، قتل أربعة أفراد من قوات الحرس الإيرلندي وأصيب فرد، في كمين ضد جماعة من المنشقين قرب الحبيلين في 20 أبريل، وقتل أربعة من أفراد العدو وجرح ستة أو سبعة آخرون.
كما التهب التمرد كذلك في محمية عدن الشرقية عندما تعرض مقر المقيم البريطاني في المكلا، في 15 مايو، لهجوم بالبازوكا والمدافع الرشاشة، ولم تحدث أي إصابات، ولكن تقرر إجلاء زوجات وأطفال العاملين.
وأصدرت الجبهة القومية بعد ذلك بقليل منشورًا تقول فيه إنها ستوسع الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني والرجعية إلى محمية عدن الشرقية.
وعاد اللورد شاكلتون إلى لندن في 28 أبريل، ليفكر مليًّا فيما شاهد وسمع في عدن، وأول مظهر على تفكيره أصبح جليًّا بالإعلان الذي صدر في 11 مايو، بأن يستبدل فورًا المندوب السامي السير ريتشارد ترنبول، بالسير همفري تريفليان، ولا بد أن وزير الخارجية كان يتخبط عندما أشار إلى ذلك باعتباره "ليس تغييرًا في السياسة، بل هو بالأحرى تغيير في الأسلوب".
وبالنسبة لقوات الأمن كانت مغادرة السير ريتشارد ترنبول فجأة خسارة حقيقية لهم؛ لأنه أيدهم بثبات في مهمتهم الشاقة رغم الكثير من الضغوط السياسية، كما كان محسوسًا أن إبعاده سيؤخذ من قبل الإرهابيين كعلامة على الضعف من جانب حكومة صاحبة الجلالة، وكدليل على أن بريطانيا ليست مستعدة لمجابهة العنف بمثل تلك الصلابة في المستقبل. ونتيجة لذلك فقد كان يخشى أن يجد الإرهابيون أنفسهم موضع تشجيع لتصعيد حملاتهم في المستقبل، على افتراض- سواء كان صحيحًا أم لا- أن الحكومة البريطانية تفضل التفاوض معهم بدلًا من القتال ضدهم.
وبأسى ممزوج بالريبة شاهدت القوات، السير ريتشارد وهو ذاهب، وانتظرت وصول خليفته.
السير همفري تريفليان
ومن الناحية السياسية ربما كان السير همفري في مركز أقوى؛ لأنه قادم جديد لمعالجة المشاكل الدبلوماسية للوضع كما هو، ولكن كيف سيعالج الوضع الأمني المتردي؟ وسرعان ما تبددت أي شكوك؛ إذ وصل [همفري] في 20 مايو، ومساء نفس اليوم أصر على أن يقتطع وقتًا يتفرغ فيه من الاطلاع على التقارير وسماعها، ليشاهد حفل إنزال العلم الذي قامت به قوة الرويال نورثمبر لاند فوسيلرز، ثم ليتحدث إلى ضباطها وجنودها عن عملهم الرائع بصفتهم الفرقة المسؤولة عن كريتر. وسرعان ما كسب المندوب السامي ثقة قوات الأمن، وهذه الثقة عامل صدى في هذه المرحلة الحاسمة في معركتها ضد الإرهاب. واستمر السير همفري في انتهاج سياسة سلفه في الإبقاء على صلة وثيقة مع القائد العام للقوات البريطانية وقائد الأمن وجميع أفراد القوات، ونتيجة لذلك استمر حل العديد من قضايا العلاقات المدنية والعسكرية الصعبة على أساس من الثقة والتفاهم المتبادلين، ولم يكن حقًّا ممكنًا حلها بأي أسلوب آخر على الإطلاق. وأوضح السير همفري تريفيليان بجلاء، أن مهمته كانت أولًا تأمين انسحاب منظم للقوات البريطانية، وثانيًا، محاولة أن يترك وراءه بلدًا آمنًا قادرًا على البقاء، وكان من المأمول أن يرتكز الهدف الثاني على حكومة الاتحاد، ولكن كان من المتصور أن حكومة ذات قاعدة عريضة إذا ما أمكن تشكيلها على الإطلاق، ستكون أكثر قدرة على البقاء بعد الاستقلال.
وفي أول مايو بدأ إجلاء أفراد أسر القوات، واستمر ذلك حتى 15 يوليو، وقد أنجزت [المهمة] قبل وقت قصير من الموعد المحدد لذلك؛ إذ تم الإسراع فيها بسبب الاضطرابات التي حدثت في يونيو، وخلال شهرين ونصف، جرى ترحيل 7 آلاف و200 من الأشخاص التابعين لأفراد القوات العاملة في عدن، وذلك إلى بريطانيا في مئة رحلة جوية. وتركت مغادرتهم فراغًا في ألف و700 شقة مؤجرة، وألف و400 شقة خاصة بالمتزوجين في المعسكرات، وكذا في ست من المدارس الثانوية التابعة للقوات، التي أقفلت؛ "لأن الحاجة لها لم تعد قائمة".
وسهل هذا الخروج مسؤوليات قوات الأمن؛ لأنهم لم يعودوا بحاجة للقلق على سلامة عائلاتهم، ولكن ذلك لم يخفف كثيرًا من التزاماتهم؛ لأن معظم الشقق كانت تقع في شريط المعلا الضيق، وكان يجب أن تظل مشغولة من أجل تأمين الإبقاء على هذا الطريق الجوي مفتوحًا.
ومع تغيير المندوب السامي، بُذلت جهود جديدة للاقتراب من حل المشاكل السياسية، وانتعشت الآمال في الوصول إلى موقف أَمْيَل إلى المصالحة من جانب مصر عندما أعلن عبدالناصر في 2 مايو، أن الجيش المصري لن يدخل الجنوب العربي بعد انسحاب القوات البريطانية. ولكنه أظهر كم كان هذا التعهد ضئيلًا حقًّا، عندما أعلن بنفس الوقت أنه والجمهورية العربية المتحدة يؤيدون جبهة التحرير تأييدًا كاملًا، وبعبارة أخرى، فإنه لم يكن ينوي أن يزج بنفسه في حرب علنية مرة أخرى كاليمن، ولكنه أمل بدلًا من ذلك، أن يبسط سيطرته على الجنوب العربي بواسطة تكنيك الثورة المقنع وغير المباشر، مستخدمًا المنظمات الوطنية لتحقيق هذا الغرض، وهو مثال جيد على الحرب باستخدام الوكلاء".
ورغم ذلك كله بادرت حكومة صاحبة الجلالة بتقديم المزيد من المقترحات من أجل التوصل إلى تسوية؛ ففي 16 مايو، قبل أن يتولى السير همفري مهامه مباشرة، عرض اللورد شاكلتون إنهاء حالة الطوارئ، وإطلاق سراح المعتقلين؛ إذا ما وافق الوطنيون من جانبهم على الانضمام إلى حكام الاتحاد في تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة، وإذا ما أوقفوا حملة الإرهاب.
"وفي القوت نفسه كانت المباحثات مستمرة مع حكومة الاتحاد في محاولة للتوصل إلى أسس يمكن بموجبها منح الجنوب العربي الاستقلال. ورفض حكام الاتحاد عرضًا تقدمت به بريطانيا في مارس 1967، لتوفير غطاء جوي من حاملات الطائرات خلال الستة الأشهر الأولى بعد الاستقلال، بحجة أن ذلك غير فعال وغير كاف. وألح الحكام على حقهم في الحصول على حماية فعالة من بريطانيا إلى أن يصيروا أقوياء بما يكفي للدفاع عن أنفسهم ضد الأخطار الجلية التي تهدد بقاءهم. كان ذلك في نظرهم مطلبًا متواضعًا ومعقولًا جدًّا، ولكن بريطانيا كانت عازمة على تجنب أي التزامات عسكرية أخرى، وهكذا لم يكن هناك إلا مجال ضئيل أو لا مجال لأي حل وسط.
الحرب العربية الإسرائيلية
"تلقى العرب جميعًا في البداية خبر انتصار إسرائيل الساحقة في حرب الأيام الستة بأسى صاعق، ربما فيما عدا حكام الاتحاد، الذين لا بد أنهم لم يكونوا في سرهم آسفين لرزية عدوهم ناصر، وقد لحقه الإذلال؛ لأن ذلك يمكن أن يعني إرجاء حكم الإعدام في الدقيقة الأخيرة بالنسبة لهم.
ولكن ناصر ظل باقيًا، ورغم أنه اضطر لسحب بعض قواته من اليمن، فإنه أبقى على الجنوب العربي، وسرعان ما استرد الوطنيون عزيمتهم، ومضوا في استئناف حرب التحرير. وفقدت جبهة التحرير على أي حال قدرًا ملحوظًا من نفوذها خلال الأشهر القليلة التالية بسبب انسحاب القوات المصرية من اليمن؛ إذ كانت جبهة التحرير أكثر اعتمادًا على المصريين عما كانت عليه الجبهة القومية، وفقدان ناصر لنفوذه أضعف جبهة التحرير في اللحظة الحرجة.
كانت إحدى نتائج الحرب قيام إضراب أدى إلى شل ميناء عدن، وحيث كان من الضروري استمرار تدفق التموينات على عدن للقوات المسلحة وللتجمعات المدنية وكذا تأمين عدم توقف تفريغ المستودعات؛ لذلك قامت القوات المسلحة بالسيطرة على الميناء في 19 يونيو، وأقيمت هيئة الميناء العسكرية التي تشكلت من قيادة عامة يرأسها قائد للميناء، ويشرف عليها قائد قوات النقل الملكية في القيادة العامة للقوات البريطانية في الشرق الأوسط. وفي ظل هذه القيادة كانت تقوم بالأعمال الإدارية وحدة خدمات الميناء المشتركة، كما يقوم بالعمل العضلي "سرية الميناء 51" من قوات النقل الملكية، والوحدة 518 من قوات الطلائع الملكية ROYAL PIONEWRING.
[وبعد الفصول العشرين: من هو الخصم؟ والحادي والعشرين: العودة إلى كريتر، والثاني والعشرين: الصراع في سبيل السلطة (أغسطس– أكتوبر1967)، نص في السياق المحدد لموضوعنا إلى الفصل الثالث والعشرين وهو بعنوان: " الكنف الأخير".]
كان الهدف الأصلي لوزارة الدفاع البريطانية أن تسحب الأسلحة الضاربة في اليوم الأخير لمغادرة عدن، على أن تترك وراءها "ذيلاً إداريًّا" يقوم بتغطية مؤخرتها، ولكن سرعان ما تمخض الوضع الأمني المتردي في الجنوب العربي عن قرار سياسي بريطاني بأن تكون جميع عناصر القوات المسلحة خارج البلاد يوم الاستقلال
تحضيرات للانسحاب
"بدأ البحث في خطط الانسحاب لأول مرة في ربيع 1966، بعد صدور الورقة البيضاء حول الدفاع في فبراير من ذلك العام، وكان على المقر العام لقيادة الشرق الأوسط أن تحدد تاريخًا ما كأساس يجري عليه وضع الخطط، واختير الأول من يناير 1968، شريطة أن يتم تحديد تاريخ ثابت في موعد لا يتجاوز الأول من مايو 1967، وعلى أية حال فقد وصلت الأمور إلى [آخر] منتهى لها في يونيو 1967، قبل أن يتم إخطار مقر القائد العام بالتخطيط لعشرين نوفمبر كموعد نهائي للانسحاب.
"وفي 2 نوفمبر، أعلنت وزارة الدفاع أن الانسحاب يجب أن يستكمل في نهاية شهر نوفمبر، وفي الرابع عشر منه أعطت التاريخ الفعلي، وهو 29 نوفمبر، ورغم ذلك كله، فقد أنجز الانسحاب في الساعة الخامسة عشرة (الثالثة بعد الظهر) من ذلك اليوم.
كان الهدف الأصلي هو أن يتم انسحاب الأسلحة الضاربة في اليوم الأخير على أن تترك وراءها "ذيلًا إداريًّا" يقوم بتغطية مؤخرتها، ولكن سرعان ما تمخض الوضع الأمني المتردي في الجنوب العربي عن قرار سياسي بأن تكون جميع عناصر القوات المسلحة خارج البلاد يوم الاستقلال، ووُضعت خطتان أساسيتان افترضت الأولى انسحابًا سلميًّا ومنظمًا، بينما هيأت الثانية لخروج طارئ وسريع، ولكن كل احتمال ممكن يجب أن يؤخذ في الاعتبار، وأن يحسب حسابه بما في ذلك الانسحاب قتالًا في وجه تصد من الإرهابيين، أو العديد من الأعداء الآخرين المحتملين.
كان المطلب العملياتي هو الحفاظ على الأمن في الإقليم حتى لحظة المغادرة، ثم الانسحاب بعد ذلك بطريقة منظمة جيدة، وأوكلت للعاملين في الإدارة المهمة المعقدة في تفكيك كل المستودعات والمعدات الممكنة من عدن، ونقلها سواء إلى البحرين أو المملكة المتحدة، بينما يجب أن تكون المستودعات والمعدات في الوقت نفسه وفي كل الأوقات، في وضع يتيح لها إسناد القوات المحاربة في عدن بطريقة تسمح برفعها في أي وقت بواسطة الطائرات المروحية (الهيلوكبتر)، والطيران بها إلى القوات في مواقعها الدفاعية. ولإضفاء مزيد من الصعوبة إلى ذلك كله، اتبعت سياسة أنه لا يجب ترك أي معدات، فهي يجب إما إخلاؤها أو بيعها.
وكانت الحركة الرئيسية لنقل الأفراد، عن طريق الجو من خورمكسر، بينما تنقل المستودعات والمعدات والذخيرة بحرًا، وكانت هناك ثلاث نقاط شحن رئيسية أفضلها رصيف المعلا، حيث تسهيلات مخزنية جيدة، والنقطة الثانية هي معسكر صاحبة الجلالة في "سبأ"، وهي منشأة تابعة للبحرية الملكية في التواهي ذات أهمية محدودة، كما كان هناك مرسى صغير للإنزال قرب خورمكسر، وكانت المشكلات الأساسية هي أنه مع تذبذب محادثات جنيف، فقد كان من المستحيل حتى اللحظة الأخيرة تمامًا الاطمئنان إلى أنه لن يكون [هناك] قتال، لنشق طريقنا خارج الجنوب العربي؛ لذا كان من الأساسي أن نحتفظ بقوة قادرة وفعالة متاحة تحت تصرفنا حتى النهاية. وبعد بحث طويل في المشكلات، تقرر أن مجموعتين من الكتائب هما القوة الأدنى اللازمة للسيطرة على منطقة مطار سلاح الطيران الملكي في خورمكسر.
"وافترضت الخطة النهائية أن مجموعتين من الكتائب يجب أن تكونا في مواقعها في بحر اليوم الأخير للانسحاب، وستقوم بالإخلاء قبل ساعة على الأقل من حلول الظلام، ويمكن توفير غطاء ودفاع جويين حتى النهاية بواسطة قوة أسطول ميدانية. وأتاح ذلك تضييق الغطاء الجوي الذي يوفره سلاح الطيران الملكي، والاستغناء عن عناصر إسناده الأرضية، ولكن رغم ذلك تم الاحتفاظ بمقدرة على الحركة الميدانية.
وكان [يجب] وضع كمّ ضخم من الخطط التفصيلية لتأمين كل فرد من الأشخاص وكل قطعة من المعدات بحلول يوم الانسحاب، كما كان يجب أن يوضع ترتيب دقيق جدًّا للأولويات، وذلك كله يتوقف على الاحتفاظ بمطار خورمكسر قيد الاستخدام؛ ولذلك تقرر تسليم منطقة التواهي إلى جيش الجنوب العربي قبل الموعد النهائي بيومين، وسيمكننا ذلك من تركيز قواتنا في وقت مبكر، كما سيتيح لنا فرصة اختبار ردود الأفعال التي يحتمل أن تصدر عند السكان المحليين، كما سيكون الوقت متاحًا لنا للتدخل عند الضرورة، ولكن ذلك لم يحدث في الواقع.
"نُقل الرجال والمستودعات جوًّا في طائرات تجارية من عدن إلى البحرين، ووُضعت شبكة مفصلة من الاتصالات للاطمئنان بصورة وثيقة على كل خصلة وكل فرد، وكان الرجال عندما يصلون إلى البحرين يستحمون ويستبدلون نقودهم، ويسلمون أسلحتهم، ويغيرون ملابسهم بأخرى مدنية، ويشترون مشروبات روحية معفاة من الضريبة، ثم يمضون إلى المملكة المتحدة على متن اليخت بريتانيا أو بطائرات من طراز في. سي 10 (Ve10) [Vichers 10] التابعة لسلاح الطيران الملكي.
كان ائتلاف الجبهة القومية وجيش الجنوب العربي في مركز لا يرقى إليه منافس، وادعى الائتلاف رسميًّا أنه يتمتع بالتأييد في 95% من الجنوب العربي، وصرح الجيش علنًا بأن وجهة نظره، هي أن الجبهة القومية يجب أن تتكلم بلسان الشعب في هذه الساعة المصيرية
وتمت التدابير بين عدن والبحرين بصورة سلسة، وخصوصًا في المراحل المتأخرة عندما كانت تصل طائرة من طراز هيركوليز كل ثلاثين دقيقة ليلًا ونهارًا، وكان أفراد من القوات، وحمولة زنتها طنان ونصف طن تقبع في انتظار كل طائرة، وكان معدل وقت الشحن والإقلاع هو بين عشرين وخمس وعشرين دقيقة، أما الرقم القياسي، فكان اثنتي عشرة دقيقة، وعند الوصول كانت كل طائرة تحتفظ بأحد المحركات شغالًا لتوفير الوقت عند إدارة المحركات من جديد.
في 28 أكتوبر، انتقل المقر العام لقيادة الشرق الأوسط من التواهي إلى خورمكسر، وأعادت بناء نفسها في قوة صغيرة من 45 فردًا من مختلف الرتب (بالمقارنة مع عدد أفرادها السابقين البالغ ثماني مئة)، وأصبح الميجر جنرال تارد، قائدًا لكل القوات البريطانية في عدن، بما في ذلك قوات البحرية التي وصلت للاضطلاع ببعض المهام مؤخرًا، ووُضعت جميع وحدات الجيش الباقية تحت قيادة حامية عدن، ووُضعت في حالة استعداد لأي مجابهات ختامية مع الإرهابيين أو للمغادرة بصورة سلمية.
وأخيرًا، وفي 6 نوفمبر، بعد ثلاثة أيام من المذابح الأهلية، قرر جيش الجنوب العربي أنه يجب أن يتدخل مرة أخرى قبل أن تمزق الفوضى والحرب الأهلية بلاده؛ ولذا أعلن تأييده للجبهة القومية بصفتها الهيئة الأكثر تمثيلًا للبلاد، وكان ذلك القرار مهمًّا جدًّا بالنظر لأنه [إلى أنه] أُرجئ حتى تلك اللحظة؛ ولأن الجيش كان -بصورة لا جدال فيها- العامل الأكثر حسمًا في الوضع، وكان في مركز قوي على نحو ملحوظ.
كان ائتلاف الجبهة القومية وجيش الجنوب العربي في مركز لا يرقى إليه منافس، وادعى الائتلاف رسميًّا أنه يتمتع بالتأييد في 95% من الجنوب العربي، وصرح الجيش علنًا بأن وجهة نظره، هي أن الجبهة القومية يجب أن تتكلم بلسان الشعب في هذه الساعة المصيرية، مما يعني ضمنًا أن يلحق البلاء بكل من يجرؤ على معارضة ذلك.
"وبعد يومين في 13 نوفمبر، وافقت الحكومة البريطانية على التفاوض مع الجبهة القومية، ثم في 14 نوفمبر أعلن البريطانيون أن الموعد النهائي لانسحابهم من عدن قد تم تقديمه من 30 نوفمبر إلى 29 منه.
ومثل ذلك لحظة النصر النهائية للجبهة القومية. لقد بزغت من ذلك الصراع في سبيل السلطة كقوة قائدة بلا منازع في الجنوب العربي، تحظى بتأييد الجيش وأغلبية الشعب. ربما لم تكن الجبهة القومية "الحكومة الديمقراطية العريضة القاعدة والمستقرة، التي ألح وزير الخارجية [شاكلتون] على أن تحل محل حكام الاتحاد، ولكنها كانت في تلك اللحظة بلا منافس، وبقيت فقط أربعًا وعشرين ساعة قبل أن ينطوي الجنوب العربي بأسره تحت سيطرتها".
الأمور لم تعد كما اعتادت أن تكون
في 25 نوفمبر، كان قد بقي في عدن فقط حوالي 3,500 فرد من أفراد القوات ينتظرون إجلاءهم.
"وفي عرض البحر كانت البحرية الملكية قد حشدت قوة بحرية ضاربة هي أضخم قوة منذ السويس لنقل آخر من تبقى من القوات البريطانية، تمامًا مثلما جلبتهم إلى هناك قبل 129 عامًا، وكان الأسطول تحت قيادة أدميرال المؤخرة إدوارد أشمور، واشتمل على:
كما كان هناك عدد من البواخر الأخرى بما فيها التموين والبواخر اللوجستية التي سيتم من على متنها توجيه القوات الباقية في البر في المراحل الختامية.
وفي 25 نوفمبر، قام المندوب السامي باستعراض الأسطول في خليج عدن، وعاد إلى دار الحكومة للمرة الأخيرة.
26 نوفمبر
"في الساعة الواحدة والنصف من بعد منتصف ليلة الإثنين 26 نوفمبر، وتحت سماء صافية تضيئها النجوم، تحركت ثلاث كتائب من جيش الجنوب العربي إلى عدن لتتولى السيطرة على الجزء الأكبر من المدينة، وسلمت منطقة التواهي بما فيها فندق الهلال والمنطقة التجارية الشهيران، بدون مراسيم احتفالية من قبل قوة الكوماندر 42، التي انسحبت إلى منطقة الميناء، وأخلت قوة الكوماندو 45 المعلا، وتم حتى الحرص على أن تسلم مئة مجموعة من مفاتيح الشقق في المعلا، التي كانت مؤجرة لسكنى المتزوجين.
وفي كريتر فقط، كانت هناك مراسيم اتسمت بالعلنية تحت أضواء التلفزيون الساطعة، أنزلت الأعلام الخضراء والصفراء لقوات "أجريلس"، بينما كان نافخ وحيد على البوق يصفر لحن "صخور عدن الجرداء".
ومع انبلاج فجر يوم السادس والعشرين من نوفمبر، بدأ السكان في عدن يدركون أن استقلالهم لاح حقًّا في الأفق، وبدؤوا في تنظيم الاحتفالات، وظهرت أعلام الجبهة القومية في كل مكان، وأطلقت السيارات نفير أبواقها على نحو مجنون خلال الشوارع التي غصّت بالعرب المبتهجين الذين يرددون الهتافات. وكان كل شيء منسجمًا واحتفلت الجبهة القومية بإصدار "إعلانها الخاص بالاستقلال"، وبدلت تسمية الجنوب العربي إلى "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية"، ومدينة الاتحاد، العاصمة الاتحادية السابقة، إلى مدينة الشعب.
وقام المندوب السامي بآخر نشاط رسمي له بأن ألغى رسميًّا حالة الطوارئ، وأطلق سراح آخر المعتقلين، ثم انسل فجأة من خواء دار الحكومة التي تتردد في جنباتها الأصداء، وذهب للإقامة مع القائد العام للقوات البريطانية في منزله في الجانب المقابل من خليج الطرشان.
27 نوفمبر
"واقترب استقلال الجنوب العربي خطوة أخرى إلى الأمام عندما جرى تسليم مفاتيح دار الحكومة، وفي 27 نوفمبر، مضى المندوب السامي إلى متن السفينة إيجل الراسية في عرض البحر حيث احتفل بعيد ميلاده الثاني والستين.
28 نوفمبر
وترافقت نغمات النشيد الوطني التي تتردد في العزلة مع هدير طائرات الهنتر، التي كانت تحلق فوق الرؤوس في تحية وداع، مما يذكر بثمانية وأربعين عامًا من وجود سلاح الطيران الملكي في المستعمرة.
وبينما كان السير همفري تريفليان يقف على سلم طائرة النقل القائدة التي ستنقله إلى إنجلترا، كانت فرقة موسيقى البحرية الملكية على متن السفينة إيجل، لا تعزف لحن "أولد لونج سني"، (وهي عامية أشبه ما تكون "بابني الطويل الكبير"- المترجم) بل تعزف "لأمور لم تعد كما اعتادت أن تكون". ولم يكن ذلك تقليدًا أبدًا، ولكن ربما ليس شذوذًا عما هو ملائم، ولم يفت ذلك أحدًا من الحاضرين.
ولم تكن تلك لحظة تستدر الدموع من أي عين أو تجلب الغصة إلى أي حلق. كانت خاتمة ثلاث سنوات من المقايضة التعيسة، وسفك الدماء. والهدف السياسي الذي جرى خوض تلك الحرب من أجله، كان مشوشًا وغير مؤثر وملهم، ولكننا كنا نغادر على الأقل بصورة جيدة التنظيم، ونقوم بتسليم سلطة ما، رغم أن قيادة البلاد الجديدة لا يتوقع وصولها إلى الجنوب العربي عائدة من جنيف إلا بعد ساعة من استكمال انسحابنا.
29 نوفمبر
"وفي الساعة 15,00 (الثالثة عصرًا) بالضبط، انتزع الليوتننت كولونيل داي مورجن نفسه، لينال بذلك بدون شك، شرف أن يكون آخر بريطاني يغادر عدن قبل الاستقلال.
"كانت السيادة البريطانية في الجنوب العربي تتمثل رسميًّا الآن فقط، في راية بيضاء فوق سفينة صاحبة الجلالة ألبيون، التي ظلت في المياه الإقليمية حتى منتصف الليل، عندما أصبح الجنوب العربي رسميًّا مستقلًّا. وبقيت علامة غير رسمية على الحكم البريطاني في شكل طافيتين ضخمتين لإرشاد السفن رُكزتا عاليًا فوق صخور عدن الجرداء، وطليت دائريًّا بالألوان الحمراء والبيضاء والزرقاء، تذكارًا وداعيًّا لسلاح الطيران الملكي، حملته طائرات الهيلوكبتر إلى تلك الأعالي.
وتملأ الأرجاء والآفاق أنشودة كامل الشناوي، التي صاغها لحنًا الموسيقار محمد عبدالوهاب، وتشدو بها السيدة أم كلثوم:
"وكلٌّ تساءل في دهشة
وكل تساءل في لهفة
أدورة أرض بغير فضاء؟!
أمعجزة ما لها أنبياء؟!
وكيف تحقق ما كان حلمًا
ومن ذا الذي يا ترى حققه؟
وكيف تحرر من سجنه
أسير الزمان ومن أطلقه؟!
أنا الشعب.. أنا الشعب
لا أعرف المستحيلا
ولا أرتضي بالحرية بديلا
أنا الشعب.. شعب العلا والنضال
أحب السلام، أخوض القتال
فمني الحقيقة، مني الخيال".
وللشعب كلمة أخرى تتلو وتعلو؛ هي الوحدة. ولا مرد لكلمة الشعب، ولا غالب لإرادته.
*الصور في المادة من الإرشيف البريطاني