.
هل انطفأت الحرب؟ أو ما زالت تشتعل؟
البعض يرى أنّ التساؤل ساذجٌ جدًّا، والبعض يخاف حتى أن يسأل نفسه بهكذا سؤال.
في الواقع هناك انقسام في الإجابة على هذا التساؤل المشروع، إلى فسطاطين؛ أحدهما يُسمّي نفسه "عميقين"، والآخر يُطلق عليهم العميقون "سطحيين".
بين المعسكرين بونٌ شاسع في النظر للحرب. هذا الفارق بين الطرفين يعكس ليس فقط أماني وتطلعات كل طرف، بل وكذلك طبيعة الظروف المحيطة بكلٍّ منهما عند الإجابة عن سؤال الحرب والسلام.
يجيب "العميقون" بصراحة وبلا مواربة، أنّ الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد، بينما "السطحيون" أمثال كاتب هذه السطور، يرون أنّ الحرب قد انتهت علميًّا بالنسبة للتحالف على أقل تقدير، والسعودية على وجه الخصوص.
طبعًا ينطلق "العميقون" من موقعهم العميق في شتّى أصقاع الأرض، ومن غرفهم المعزولة عن الحياة على السطح الذي نعيشه نحن السطحيون.
يطلّ "العميقون" بنظرات كسولة على مياه الراين أو التايمز والنيل ومدينة الحسين، وتغبش عيونهم من أضواء شيكاغو ونيويورك وبرلين. والبعض يطل من أعلى برج إيفل أو ينظر إلى منارات الرياض وإسطنبول، ويحلم بعبور الدردنيل على يخت أبيض، وهم بهذه الإطلالة تشملهم المشاعر الرومانسية نحو الحرب. فلولاها لما كانوا يجوبون هذه المدن والدول سيّاحًا محمولين مشمولين، لا أحد يتمنّى زوال النعمة. نحن السطحيّون فقط لا تغمرنا هذه المشاعر الجيّاشة نحو الحرب، طبعًا البطر وحده يجعلنا لا نقدر نعمة الحرب.
لكلٍّ منّا أدواته في تحليل ظاهرة الحرب في اليمن، لذلك سنكون على طرفي نقيض، لكلٍّ منّا مؤشرات لا تخطئها العين في قراءة المشهد العام.
"السطحيون" هم الذين يعيشون على سطح الحرب، ويعرفون تمام المعرفة طريقة اشتعالها وصيرورتها ومآلها. وعاشوا جحيمها وانفعالاتها وهدوءها واضطرابها، ورأَوا الدماء والأشلاء وسمعوا نواح الأرامل والثكالى.
لذلك يمكنهم أن يقرِّروا بالحدس ما إذا كانت الحرب قد بلغت شيخوختها وخمدت أم أنّها لا تزال في عنفوانها وشبابها، لكن الحدس وحده ليس أداةً فعّالة، وليست منهجًا علميًّا للتحليل. إذن، يقتضي المنهج وجود مؤشرات واقعية للبرهنة على ما يقولون، وهذا هو الفرق بين "السطحيين" و"العميقين".
لقد ذكرنا في مقالات سابقة، أنّ الحرب عمليًّا انتهت، وقلنا إنّ بنك الأهداف السعودي قد استُنفِد، ولم يعد هناك ما يمكن أن يُقصف. لقد تم قصف الأسواق والمدارس وصالات الأفراح والآثار ومنشآت البنية التحتية، إلّا الحوثيين لم تستطع السعودية قصفهم.
وعندما تحدثنا حول ما جرى في شبوة، قلنا: "إنّ الحرب قد وضعت أوزارها منذ مدة، وتأكّد ذلك بالهدن التي ربما فرضت على الأطراف المحلية دون حضورها أو بحضور شرفي كما هو شأن الحرب ذاتها. فإذا صدقنا بنهاية الحرب فإن البلاد يجب أن تسير نحو أفقين؛ إما إفساح المجال للسلام، أو التوجه نحو مزيدٍ من الحروب بين الفرقاء فيما يشبه حروب الاستنزاف المتبادل أو التفكيك. فإذا كان الاتجاه الأول هو الخيار المفضل، فإنّ الأطراف المحلية جميعها ليست مقتنعة تمامًا بما تحت أيديها؛ وبالتالي سوف تسعى لتحسين وضعها على الأرض والتمدُّد في المنطقة النفطية من خلال بيئة من الفوضى تسهّل لها هذا الأمر حتى إذا حلّ وقت التفاوض تكون قد ربحت أوراق ضغط قوية. ذلك لأنّ ثماني سنوات من الحرب، وفق النموذج البحريني ولكن الصورة أكثف، قد أوصلت السعودية إلى نفس النتيجة القديمة التي وصلت إليها في حربها ضد الجمهورية (1962-1970) إلى جانب الملكيين.
وبهذا الصدد، كنّا قد نوهّنا عام 2011، في مقال: "المبادرة الخليجية واشتراطات المستقبل" أن لو كان بمقدور السعودية التصرّف حيال ثورة الشباب "كما تصرفت في مملكة البحرين، لقامت بنفس الفعل، ولكنها أدركت أن لا طائل لها بذلك في رقعة شاسعة يسكنها ما يعادل عدد السكان في هذه الدول (الخليجية) مجتمعة"، فالخوف من فكرة التغيير "حتم عليها العمل بعجلة شديدة كي تبرهن للداخل الخليجي أولًا، أنّ أيّ تفكير بعمل ثوريّ سيكون مصيره الاحتواء بل والقمع، وأنّ الأنظمة لن تتسامح معه. ولذلك رأينا كم كانت المبادرة حريصة على تجنيب النظام أي خسائر لصالح الشعب، بل ولم تعتبر أنّ ما يجري ثورة شعبية، ولكنّها مجرد أزمة عابرة بين قوى سياسية، هذا التأويل لما يجري وجد قبولًا لدى المعارضة". وهذا ما جعل الأخيرة متماهية معها طيلة سنوات الحرب. ومن هنا سيكون من المنصف جمع كل الذين يدعون لاستمرار الحرب في فيلق كبير وجلبهم لإحدى الجبهات كي يتذوقوا طعم الحرب، بعيدًا عن التنظير لها.
لقد أدركت السعودية مأزقها شمالًا، لذلك تحاول اللعب جنوبًا قدر المستطاع، لتضمن لها بديلًا جديدًا، ولكنها بالتأكيد لن تجد بديلًا لوكلائها التاريخيين، حتى وإن حاولت تأسيس وطن بديل لهم وتقوية شوكتهم جنوبًا، بسبب فقدان الحاضنة الاجتماعية والقبَلية والثقافية.
إذن، السعودية تعود لِلَملمة أوراقها المبعثرة على الساحة، وإعادة ترتيب أولويات مصالحها في بلادنا.
ويبدو أنّ شقيقتنا قد أيقنت أنّها فقدت الشمال إلى الأبد، حتى وإن حاول وكلاؤها التاريخيّون إقناعها بغير ذلك.
تأتي الهدن كأحد الدلائل القوية على أنّ الحرب فعلًا انتهت، وعلينا هنا التفريق بين الحرب وبين المناوشات العسكرية والمعارك المحدودة هنا وهناك. صحيح أنّ العالم كلّه قد شهد على تعنّت الأطراف المتقاتلة حيال تمديد الهدنة، وفشلت كل المساعي لذلك، ولكن برغم ذلك لم تندلع الحرب مجدّدًا، ولم يعد التحالف يتحدث عن الحرب، حتى إنّ وزير خارجية (مجلس القيادة) صرّح أن حكومته ملتزمة بالهدنة! ولا تعليق هنا.
وليس ذلك فحسب، ولكن هناك مؤشرات أخرى جاءت على لسان الملك سلمان نفسه في اجتماع مجلس شورى "الشقيقة" حول ضرورة الحل السلمي وإيقاف الحرب- المتوقفة بالفعل.
وتلاه بيان مجلس التعاون الخليجي حول إيقاف الحرب والتسوية السياسية الذي أثار حفيظة البركاني. على أنّ التلميحات القادمة من الخليج بخصوص حلّ مجلس النواب التابع للبركاني تشكِّل ملمحًا مهمًّا ومؤشّرًا على ضرورة إسدال الستار على مجريات الحرب، وهو ما يخيف البركاني وزملاءه. ومن الممكن فَهم وجهة النظر السعودية والخليجية حول انقضاء الحاجة للمجلس، فالمجلس المنقسم فقدَ أهليته تمامًا، وقراراته غير ذات صفة عامة بالنسبة للبلاد التي يتحدّث باسمها، وفقهاء القانون الدستوري يفهمون ذلك بالتأكيد.
حشوش حول اتفاق الرياض
لقد أدركت السعودية مأزقها شمالًا، لذلك تحاول اللعب جنوبًا قدر المستطاع، لتضمن لها بديلًا جديدًا، ولكنها بالتأكيد لن تجد بديلًا لوكلائها التاريخيين، حتى وإن حاولت تأسيس وطنٍ بديل لهم وتقوية شوكتهم جنوبًا، بسبب فقدان الحاضنة الاجتماعية والقبَلية والثقافية.
منذ البداية، تأكّد للجميع أنّ اتفاق الرياض غير قابل للتنفيذ؛ لأنّ السعودية صمّمته ليكون نسخة مكررة من المبادرة الخليجية.
لقد تعوّدت السعودية على فرقعة بالوناتها جنوبًا، بينما تتفرّغ لترتيب وضعها مع "أنصارالله- الحوثيين" شمالًا، فخلال سنوات انشغل المتشاكسون الجنوبيون فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين "الإخوان" من جهة ثانية، حول تفسيرات ومرامي اتفاق الرياض الذي وضع عدن وأهلها رهينة بين "فكي" رحى هذه الأطراف بكل قضها وقضيضها، بل وتركت المدينة تغرق في أزمات مركّبة (اقتصادية، سياسية، مالية، أمنية)، ولم تعِد بناء ما دمّرته غاراتها على مرافق البنية التحتية، وتركت العملة تواصل انهيارها، بينما هي تواصل ابتزاز الأطراف المحتربة تحت لوائها.
اليوم يعود "التهديد" من عدم استكمال تنفيذ اتفاق الرياض وملحقاته، وإلّا العودة للإدارة الذاتية كما هدّدت بذلك قيادات في الانتقالي. مع أنّ الانتقالي قد فرض الإدارة الذاتية لفترة لا بأس بها، لكنه لم يُحدِث فارقًا في الأداء أو في حياة الناس، فظهر وهو يمارس السلطة لذاتها أكثر من ممارسته للهدف الذي أنشأ من أجله قيادة الجنوبيين.
وبينما يعود الاشتعال الجنوبي في طاحونة هوائية من اللاممكنات العملية في تحسين الوضع الاقتصادي، تذهب الرياض لإدارة عملية تفاوضية متكررة مع إيران و"أنصار الله- الحوثيين" يغيب عنها "مجلس القيادة" والعميقون جدًّا في معسكره، زيارات متبادلة بين "أنصار الله" والمملكة ظاهرها حول الأسرى وباطنها ترتيبات ربما تشبه ترتيبات مصالحة 1970 ، بين "الملكيين" وجماعة 5 نوفمبر1967.
وليس من المستغرب أنّ هناك زيارات ومفاوضات خلف الجدران لا نعلمها، لكن المؤكّد أنّ تغييرات جوهرية تحدث بالفعل في الملف اليمني برعاية عمانية. لقد قطعت المفاوضات بين السعودية و"أنصار الله" حول تسوية ملف الحرب، مراحلَ جدّ متقدمة، بل وتفيد المصادر أنّ مسودة الاتفاق النهائي حول الهدنة وفتح الطرقات وحتى التسمية البديلة (لتعويضات الحرب) وطريقة الدفع، قد أصبحت جاهزة وتنتظر بعض الأمور الإجرائية فقط، كما سرّبت المصادر أنّ دعوة سعودية وجّهت لرئيس المكتب السياسي لأنصار الله لزيارة السعودية.
يتضح جليًّا أنّ صناعة (مجلس القيادة) لم تفلح في حلّ إشكالية السلطة في البلاد، وهناك تعبيرات مختلفة عن المخاوف من تفكّك هذا المجلس. المخاوف من تفكّك المجلس تبدو ساذجة إذا ما اعترفنا بحقيقة عدم تجانس مكونات الخليط التي تشكّل منها.
كان رئيس "مجلس القيادة" قد أعلن عند تشكيل المجلس، التخليَ عن خيار الحرب لصالح السلام، ولكن خلال سبعة أشهر من عمره لم يحدث أي اختراق نحو السلام بين فرقاء الحرب المحليين، لا إعلاميًّا ولا دبلوماسيًّا. ويبدو أنّ تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية من قبل مجلس القيادة، قد زاد من تعقيد العلاقة بين الطرفين لصلح التسوية الهادئة بين السعودية -التي لم تتخذ قرارًا جديًّا بهذا الاتجاه- وبين "أنصار الله"، مع أنّ السعودية تعتبر الحوثيين -إعلاميًّا- أعداءَها الأيديولوجيين، وكما تظهر الحرب الأوكرانية فإنّه لا (التاريخ المشترك ولا اللغة ولا حتى الدين) هو ما يلعب الدور الحاسم في العلاقات بين الجماعات البشرية، ولكنها المصلحة.
وإذا ما تتبّعنا ردود الفعل حول تصنيف "الشرعية" للحوثيين كـ(جماعة إرهابية) سنجد أنّها باهتة وغير إيجابية بالنسبة للجهة التي أصدرته، والمفارقة أنّ أحمد بن مبارك كان يحثّ الاتحاد الأوروبي على اتخاذ قرار مماثل في نفس اللحظة التي كان الوفد السعودي يجري مفاوضاته في عمان مع الحوثيين، وسندرك مع مرور الوقت أنّ العواقبَ السلبية للقرار لن تمس الحوثيين، ولكنها ستضر بحياة الناس بنفس القدر الذي أحدثته الحرب.
إذن! هل قررت السعودية سلوك طريق البرجماتية وتحقيق ما يمكن من المصالح، ودفن "مجلس القيادة" أو بعضه كما فعلت بورثة الإدريسي والإمامة من قبل؟
يبدو أنّ كثيرًا من المتغيرات الدولية الناجمة عن الحرب الأوكرانية، قد غيرت كثيرًا في طريقة قراءة القيادة السعودية لاتجاهات الوضع الدولي الراهن، وقررت بالتالي التكيّف مع ما يفرضه من شروط ومتطلبات. فإذا كانت المملكة التي ظلت لعقود تغرق الأسواق النفطية العالمية للإضرار بالروس، فإنّها اليومَ تتوافق معهم من بوابة "أوبك" في تخفيض الإنتاج، الأمر الذي أغضب حلفاءها الأمريكيين والغربيين في ظل أزمة الطاقة العالمية.
الخطوة التي أقدمت عليها "أوبك بلس" لم تكن من أجل خاطر الروس على كل حال، ولكنها ربما تكون قراءة استباقية لتداعيات التوجهات الغربية لتحقيق لتسقيف أسعار النفط والغاز الروسي، فلو نجحت هذه المساعي، فما الذي يمنع الغرب من استخدامها في أي وقت وضد أي دولة أو منطقة خاصة في الخليج؟
في ذات الوقت، تقوم السعودية بالتغطية على عجزها في الحرب التي أشعلتها عند جيرانها بحملات إعلامية كثيفة لتجميل قبح صنيعها، لكن يظل التناقض بين القول والفعل ضاربًا أوتاده في الأرض، ولن تفلح حملة التجميل ولو اشتغل عليها كلُّ من تشملهم قوائم اللجنة الخاصة. ويجتهد الكثيرون ربما بدوافع شخصية محضة، على تقديم العلاقة اليمنية السعودية على غير حقيقتها التاريخية، بينما لم تحاول السعودية نفسها تغيير نهجها المعروف حيال الجنوب أو الشمال على السواء.
الأطراف اليمنية الآن في وضع صعب، وعليها تعلُّم كيفية الخروج من مأزقها؛ فالحرب انتهت بالنسبة للسعودية، وبالنسبة لها فقد تاه السلام.