على أبواب المركز الوحيد لغسيل الكلى بمدينة حجة (مركز المحافظة) شمال غربي اليمن يَفِدُ يوميًّا أكداسٌ من المرضى، من الرجال والسيدات، يأخذون دورهم في جلسات الغسيل على دفعات، بالتناوب على الأجهزة المحدودة بالمركز، الذي أصبح يستقبل ما يزيد عن طاقته الاستيعابية خلال الأعوام الستة الماضية، نظرًا لتزايد أعداد النازحين إلى المدينة من مناطق الصراع في مديريات الشمال الغربي من محافظة حجة، إلى جانب نازحين من مناطق أخرى.
يتجشم المرضى القادمين من جميع مديريات محافظة حجة، عناء وتكاليف السفر إلى مركز المحافظة مع كل جلسة غسيل، ينفقون خلالها الكثير من المال، في ظل ضعف الحالة المادية التي يعيشونها؛ شأن معظم اليمنيين، في ظل التدهور الحاصل في الاقتصاد المحلي وتراجع قيمة العملة الوطنية.
وتضم محافظة حجة 31 مديرية، موزعة بين جبلية وسهلية، وهي المحافظة الأولى في اليمن من حيث عدد المديريات، والمفارقة، أنه لا يوجد سوى مركز وحيد لغسيل الكلى يقصده المرضى من أنحاء المحافظة، التي يتجاوز عدد سكانها مليوني نسمة، لذا يضطر المرضى إلى السفر إلى مدينة الحديدة أو مدينة حجة (مركز المحافظة).
قسوة الزمان والمكان
في السهل التهامي غربي محافظة حجة، يعيش السكان حياة غاية في البساطة، بعيدًا عن صخب المدن، أغلب سكان هذه المناطق يعملون في الزراعة وتربية الماشية، في قرى متباعدة تكاد تنعدم فيها الرعاية الصحية، باستثناء القليل منها في مراكز المديريات، الأمر الذي يحتم على المرضى السفر مسافات طويلة للعلاج، بيد أن هذا الواقع يصبح أشد وطأة حين يتعلق بمرضى الفشل الكلوي الذين يحتاجون بشكل دوري إلى إجراء جلسات غسيل، أقلَّها 4 مرات كل شهر بالنسبة للحالات الأقل حرجًا.
مناشدات متكررة للجهات والمنظمات المعنية بالالتفات إلى مرضى الفشل الكلوي في حجة، لكن لم تحدث أي استجابة حتى الآن، كما يفصح الواقع المرير عن ذلك، رغم الأهمية التي تزيد إلحاحًا مع ضيق القدرة المادية للمرضى، الذين يحملهم الفقر على الاستسلام لأقدارهم
في وضعٍ كهذا يلجأ بعض المرضى الذين يتعذر عليهم العمل والكسب، إلى بيع ما يملكون -من متاع أو أرض- كما هو حال كثير ممن اطعت "خيوط" على أوضاعهم، وفق شهادات ذويهم أو مقربين منهم، في حين يضطر بعضهم إلى الانتقال للعيش في المدينة، ليتسنى لهم متابعة الجلسات أسبوعيًا.
انتقل م.د (44 سنة) مع عائلته عام 2017، من قريته بمديرية الشغادرة (جنوب المحافظة) إلى منزل استأجره بمدينة حجة، بعد أن سئم من السفر مرتين في الأسبوع لإجراء الغسيل لمدة عامين، وهناك وجد نفسه مكبَّلَ القدرة عن توفير ما يسد به فاقة عائلته التي باعت الكثير مما تملك خلال عامين (قبل انتقاله) لتغطية نفقات العلاج، لولا أنه اتخذ لنفسه مهنة في تجارة العسل، التي كانت توفر له بعض المال.
يقول في حديث لـ"خيوط": "كنت موظفًا حكوميًّا، وكنت أتقاضى مرتبًا بسيطًا من عملي الحكومي، وقد استمر حتى بعد انقطاعي عن العمل بسبب المرض، لكن منذ 4 سنوات، توقف كل شيء، لذا كان لا بد أن أعمل شيئًا، مع أني سئمت من هذا الوضع. أتمنى أن يكبر ابني ويأخذ عني جزءًا من العبء".
يشعر م.د بكثير من الأسف لعدم توفر مركز للغسيل قريب منطقته، مؤكدًا أن ذلك كان كفيلًا بان يجنبه كثيرًا من المتاعب، ويوفر عليه مشقة الابتعاد عن قريته التي يأمل أن يعود إليها قريبًا".
صيحة في وادٍ سحيق
مناشدات متكررة للجهات المعنية والمنظمات بالالتفات إلى مرضى الفشل الكلوي بمديريات المحافظة، لكن لم تحدث أي استجابة حتى الآن كما يفصح الواقع المرير عن ذلك، رغم الأهمية التي تزيد إلحاحًا مع ضيق القدرة المادية لكثير من المرضى، الذين يحملهم الفقر على الاستسلام لأقدارهم.
الدكتور حسين راجحي، باحث وأكاديمي بجامعة عبس، يوضح في حديث لـ"خيوط" أن العديد من مرضى الفشل الكلوي قضوا تحت وطأة الداء؛ معظم هؤلاء لم يكن باستطاعتهم المواظبة على جلسات الغسيل، لعدم قدرتهم المادية على السفر مرتين أو ثلاث في الأسبوع إلى مدينة الحديدة (غرب مدينة عبس) أو إلى عاصمة المحافظة.
يضيف: "أذكر 4 أشخاص من مدينة عبس قضوا جراء الأسباب ذاتها، آخرهم شخص يدعى علي سلال توفي منتصف فبراير/ شباط الماضي 2021، نتيجة للإهمال وسوء التشخيص، وقبل فترة ليست بالطويلة توفي شخص آخر، ظل يعاني لسنوات من مضاعفات المرض، كان يسافر مرتين أسبوعيًّا إلى مدينة حجة (مركز المحافظة)، حتى قررت شقيقاته بيع مجوهراتهن ليشتري دراجة نارية تساعده في التنقل، لكن الأجل لم يمهله طويلًا بعد ذلك".
وتصل المأساة إلى ذروة تعقيدها، مع تحول مناطق السهل الغربي إلى ساحة للمواجهات، بين القوات الحكومية المعترف بها دوليًّا (المنطقة العسكرية الخامسة) وبين مسلحي جماعة أنصار الله (الحوثيين)، جعلت سكان مديريات حيران وريف حرض وميدي وأجزاء من شمال مديرية عبس، مثل منطقة بني حسن وما جاورها، محاصرين داخل طوق خطوط التماس.
أعداد أكثر.. جلسات أقل
الضغط المتزايد على مركز الغسيل الوحيد بمحافظة حجة، يتسبب أحيانًا في نفاد المحاليل الطبية اللازمة لإجراء الغسيل، كما حدث أكثر من مرة خلال السنوات الثلاث الماضية، الأمر الذي كان يستدعي، استجداء رجال الأعمال والمنظمات الإنسانية، كمنظمة الصليب الأحمر التي كان لها دور نسبي في احتواء بعض جوانب النقص في التجهيزات والأدوية.
يذكر مصدر طبي بالمستشفى الجمهوري في حجة لـ"خيوط"، أنه خلال السنوات الأخيرة اضطر المركز إلى منح المرضى جلسات بعدد أقل من اللازم، حرصًا على استيعاب جميع المرضى الوافدين إلى المركز، والقادمين من مناطق بعيدة.
مؤخرًا، حصلت وحدة الغسيل الكلوي بالمستشفى الجمهوري على بعض الإضافات، والأجهزة، بمساعدة من هيئة الصليب الأحمر، منها 15 جهازًا تم إدخالها إلى الوحدة، إلى جانب محطة لمعالجة المياه.