تحل اليومَ الذكرى الستون لثورة السادس والعشرين من سبتمبر واليمن يعيش حالةً من التشظي المريع، ساهمت في صنع مقدماته ثم نتائجه نخبٌ وتكوينات متعددة تعاقبت على تسيير أوضاعه وحكمه خلال عقود طويلة.
السنون الستون لا تمثل رقمًا مهمًّا في حياة الشعوب، لكنّها في التقاطٍ ما تُنجز أهم التحولات وأكبرها، وما صنعته ثورة سبتمبر في المجتمع اليمني، على الأقل في سنواتها الأولى، لم يكن هيّنًا وسهلًا، فالبلاد التي حكمها أعتى نظام كهنوتيّ واستبداديّ متخلف ومغلق في المنطقة، وقدّم الشعب، من أجل القضاء عليه، قوافلَ من الشهداء والمشرّدين والمغيّبين في قرابة أربعة عقود، بَدءًا من انتفاضة الزرانيق في تهامة منتصف العشرينيات، حتى محاولة اغتيال الطاغية في مستشفى الحُديدة في 1961، وما بينهما ثورة 1948، وانتفاضة 1955، وبقية الانتفاضات والتمردات الصغيرة هنا وهناك.
حملت سبتمبر معها أملًا كبيرًا لليمنيين لكسر قيود العزلة والتخلف والمضيّ في حياة التمدُّن وقيم الحضارة العصرية، وَفقَ أهدافٍ تتحسس طريق المواطنة المتساوية والتعايش وبناء الدولة الحديثة، بإسناد عروبي مصري. غيرَ أنّ هذا الأمل كثيرًا ما كان يتبدد بارتطامات قاتلة على صخور المؤامرات الصلبة الداخلية والخارجية، وعلى رأسها وقوفُ الرجعيات العربية وأزلام الاستعمار ومستخدميها المحليين ضدها، موظِّفين كل الإمكانيات في التحشيد والتمويل والتسليح للقوى الملكية والمرتزقة المستجلبين من كل الأصقاع لإجهاض هذا الحلم.
كانت السعودية ومن ورائها الغرب الاستعماري، وبأطنان الذهب والسلاح الحديث، يسيِّلُون لعاب الكثيرين، الذين انخرطوا في حروبٍ طويلة ومؤامرات مديدة لإفشال الثورة وإسقاط النظام الجمهوري، في محطات متعاقبة بدأت مع المؤتمرات القبَلية ثم انقلاب نوفمبر وارتدادات نكسة حزيران وأحداث أغسطس وصولًا إلى المصالحة الجمهورية الملكية التي رعتها السعودية، بعد أن ضمنت لمواليها اقتسام كعكة السلطة الجمهورية التي توزّعت بين العسكر الموالين والقوى القبَلية والملكيين والجماعات الدينية (الوهابيين)؛ سلطة كان هدفها إفراغ النظام الجمهوري من مضامينه التقدمية التي تتعارض في الأصل مع تكوينات هذه الجماعات ونزوعها المحافظ المتوافق صراحة مع هوى الدولة الراعية غير النزيهة.
بقيَت هذه السلطة المُهندسة بعناية فائقة، تعمل تحت هذه الشعارات المراوِغة، التي تدّعي انتماءَها لخط الثورة، لكنها كانت تُعجِّل بتآكل مساراتها، حين أغرقت البلاد بالفساد والارتهان المريع؛ وبقيت الشعارات، ولسنوات طويلة، تصدح في كل مناسبة، وبمقابلها تخبو وتتراجع الأهدافُ العظيمة، لأنّ الحفاظ على السلطة بمغانمها السهلة كان هو هدف المتحكمين بقراراتها، وليس بناء دولة عصرية مدنية قوية تقف على مسافة واحدة من جميع اليمنيين وتعبِّر عن آمالهم العريضة في حياة كريمة.
لعبَت القوى التقليدية ومراكز النفوذ القبلي والديني أدوارَ إعاقةٍ حقيقية لمساعي التمدُّن التي حاولها خطُّ الثورة المستنير، فأبقت المناطقَ الريفية والقبَلية معزولةً عن برامج التنمية والتحديث، حتى لا يكتمل الاختراق الحقيقي في بنية الوعي الجمعي في هذه المناطق، ويُستدام الاستثمار في المخزون السكاني المحارب لصالح البنية القبلية المتماسكة.
التعليم الحديث الذي حاولت قوى الثورة المراكمة عليه منذ السنوات الأولى لبناء الدولة الوليدة الخارجة من ظلمة القرون، طاله التخريب الممنهج أولًا باستحداث تعليم ديني موازٍ ذي منزع متشدّد بعد سنوات المصالحة، فكان ذلك الانقسام الأول، ولم يُكتفَ بذلك، بل استحوذت القوى المتشددة على أهم قطاعات التربية والتعليم، فصاغت المناهج التعليمية للتعليم العام وَفق رؤيتها الأيديولوجية الميتة التي تتخذ من التلقين والماضوية فلسفة لرؤية الحياة، وهذا ما يمكن اعتباره المسلك الاستحواذيّ الثاني لهذه القوى المعيقة تاريخيًّا.
إدارة البلاد بالأزمات والحروب فلسفة اتّكأت عليها سلطة الحكم طيلة عقود من أجل إنتاج شواغل وحمولات ثقيلة لا مرئية للمجتمع، لإبعاده عن أسئلة التنمية والتشارك والحقوق العامة، إلى جانب اعتمادها على مبدأ الولاءات (المناطقية والجهوية والسياسية)، بعيدًا عن الكفاءة في شغل الوظيفة العامة، وتسيير المؤسسات الرائدة فتفنن الموالون في تخريبها.
التضخيم السلبي لمعنى الثورة في وعي المجتمع، بالإشاعة تارة وبالنمذجة والقياس الفاسد، كان هو الآخر مسلكًا فاضحًا لمنزع السلطة المرتهنة لغيرها.
كل هذا التخريب لمشروع الثورة تم بأدوات جهاز حاكمٍ وتحت نظره، ممّا راكمَ ظِلالًا داكنة في مخيلة المجتمع حول متلازمة الثورة بجهاز الحكم الغارق في الفساد والارتهان، فصار النظر إليها من الأجيال المتعاقبة، من هذه الزاوية المعتمة.
اليوم:
- وقد عاد المشروع الإمامي من بوابة رمزية قريبة من تاريخ سبتمبر، بمباركة من ذات قوى الإعاقة التاريخية التي ناصبتها العداء.
- وقد نفض المزايدون يدهم عنها، وتعرّى المتسلقون باسمها، وجاهرت القوى المتدثرة بلبوسها (تُقية) بعدائها الصريح لمشروعها في التغيير، ومحاولاتها الدؤوبة لطمس إرثها المعنوي والمادي.
فمن حق الشعب أن يحتفي بها، ويعيد ترسيمها نقيَّةً في استعادته الحُلميّة من بوابة الأمل الذي لم ينطفئ تمامًا، وأن يستعيدها في ذكراها بهيّة مثل صباح غير مؤجّل؛ لأنّ الأوضاع التي ثارت عليها سبتمبر، يُعاد اليومَ إنتاجها بطرق شتى، وتضع اليمنيين على المحك لمقاومتها.
(**)
سبتمبر مجيد
وكل عام واليمن وأهله بألف خير.