"خويلد" بحَّار مرسيليا

الرجل الذي أحب الحياة بطريقته الفَكِهة!
عبدالرحمن بجاش
July 17, 2023

"خويلد" بحَّار مرسيليا

الرجل الذي أحب الحياة بطريقته الفَكِهة!
عبدالرحمن بجاش
July 17, 2023
.

حينما أطلَّ سيف حميد بقامته المهيبة من باب المسجد -الذي طالما أصرّ على أن يسميه باسمه رغمًا عن رغبة الجميع- كان محمد سلام "يرتزح" على الجدار: "يا خويلد، راجح عون مات".

تمتم متبرّمًا بكلمات لم يسمعها سيف، لكن ثابت الأقرب إليه، سمعه يقول: "(...) ما عاد عرف يموت إلا اليوم، معاقدرش ينتظر قليل؟".

ولم تتوقف رجلاه سوى في "تربة ذبحان". 

هناك، وفي اليوم الثالث توفِّي. قال (العكفي)، وهذا لقب نجله الأكبر:

  • "أبي مات وهو يلعن راجح عون ويضحك".

قال العُكفي موضحًا:

- "أبي أحس أنه التالي بعد جاره".

(**)

محمد سلام خويلد، بحّار مارسيليا، زميل هائل سعيد هناك وشيخ مشايخ الجنس الأسود، عاش حياته بالطول والعرض. يبزغ يومه في قريته (الجواجب) المطلة على المصلى وجبل الشوارع، وفي الأفق بحر عدن، يبزغ عند غبش الفجر، هنا بعد أن يعود من الصلاة على طريقته في المسجد الصغير، يحمل "رَدِيفَهُ" يتمنطق بجَنبِية أكلَ عليها الزمن وشرب، لكنها كانت ضرورية عندما كان وكيلًا للشريعة في التربة، يخرج متمتمًا: "يا الله اجعل اليوم يوم خير".

لا بدّ أن يمر من أمام بيت صفية، تكون هي قد عجنت وخبزت (الملوَّح).

  • "يا صفية أين العسل حق الحاج؟".

تدري هي ماذا يقصد.

تنزل بصحنها:

  • "كل يا خويلد واسكت، مَو مِن عسل؟".

تدري صفية أنه يدبِّر لها ملعوبًا، بموجبه تُخرج لسذاجتها عسل الحاج وقبل أن يصل الحاج إلى الدار والقرية؛ يتلقفه خويلد:

  • "الله ما أحسن العسل".

هنا تبدأ المشكلة وأسمع تفاصيلها طوال اليوم؛ الجدة "فنون" تصرخ من هناك:

  • "أين عسل ابني؟"، والحاج لا يمكنه سوى أن يساير أمه، وهات يا صياح.

صفية تنبّهت تلك المرة الوحيدة، فنزلت إليه بقرص خبز يابس.

يواصل السير على قطع الأرض التي تعلو بعضها خضرة دافقة، يأتيه صوت "الدّف" من قرية "الجعبة" -قرية المهمشين- يحثّ الخطى، حتى إذا وصل انخرط بينهم، يسأله محمد أحمد سبلة ابن أخيه حينما يعود إلى المنزل مساء:

  • "أين كنت يا عم؟".

ضاحكًا يرد:

  • "كنت "أتعسنف"(*) مع الأخدمات".

"سُعيدك يا عم"؛ يعلق مهندس طاحون الحاج الهائم دومًا بالنساء.

* * *

ذات لحظة اشتكى أصحاب "الزبيرة" من عسكري للإمام: "كرَّهنا بحياتنا يا بن سلام"، يرد خويلد ضاحكًا:

  • "كم بتعطوني يا زبيرة وأنا أخلِّصكم منه".

يرد عبدالله مهيوب كبيرهم:

"شل لك يا خويلد قرش فرنصي".

* * *

عندما يسمع العم عبدالله غالب أنّ عسكريًّا قادمًا من التربة، يعود على عجل إلى داره المظلمة ويغلق الباب مرتعدًا من الخوف وينام من نفس اللحظة، كان العسكري يعني ذبح أجمل الديوك وأحسن الخراف، وقطف أفضل أغصان القات، كان عبدالله غالب يموت خوفًا، لكن العسكري مرّ على قريته، كان ذاهبًا إلى الزبيرة.

علم خويلد فسبقه، وهناك استقبله، وهات يا ترحيب، وغداء لعسكري الإمام، وأين القات يا عبدالله مهيوب.

خزّنّا سوية، لعب القات براس عسكري التربة الغليظ، سأله خويلد:

  • "وأي حين تروح البلاد؟".
  • "ما هو من بلاد يا خويلد، طول أعمارنا عند الجنداري وما بش زلط، والبلاد بعيدة". 

هنا ضرب خويلد ضربته:

  • "يا رجال، نزوّجك من عندنا".
  • "أمانة صدق".
  • "أيوه ولا يهمك والشيخ يتحمل كل التكاليف".

كان خويلد قد أعد عدته جيدًا.

زُفت العروسة في بيت أحدهم لعسكري الجنداري.

وفي الظلام فوجئ بأن العروسة رجل، لم يتكلم حتى جاء النهار، خرج يبحث عن خويلد.

همس في أذنه: "العروسة بين أرجلها ...".

رد عليه:

  • "عندنا النساء كالرجال".

شرب العسكري مقلب محمد سلام، أطلق رجليه للريح قبل أن تكتشف القرية الحكاية، لم يتوقف سوى في التربة، وكلما كانوا ينفذونه على الزبيرة كان يرد على الفور:

"أعوذ بالله من الزبيرة!".

* * *

"قلت يا عم محمد، أيش حكايتك؟ كلما شفت واحدة تمر من أمامك تمسحها بنظرك من أرجلها إلى رأسها، أرحم الراحمين سيعاقبك"، يرد ضاحكًا:

"أرحم الراحمين مشغول بالمشايخ، أما محمد سلام أمره سهل؛ ما حاسبنيش يوم ما وقعت الواقعة في تعز".

كان صديقي، رغم فارق السن، قلت: "ما الذي حصل؟".

- "ذات ليل كنت في بيت المجاهد في تعز القديمة، كانت أضواء الكهرباء أيامها شحيحة، وأنا نازل سمعت صوت الأذان يدوي بصوت المغربي من "المظفر"، فدخلت أول مسجد، وضعت مشدتي البيضاء بين المشد، ولحقت آخر صف، كان الضوء شحيحًا، يكاد المصلّي يرى من بجانبه بصعوبة.

فرضت الصلاة، فإذا من بجانبي يلكزني بيده، فكرت أنه يطلب مني مساواة الأقدام، فساويت قدمي بالأقدام، فوجئت بمن يقف في الجانب الآخر يلكزني، احترت، ليلكزني الأول، التفت، ويا للمصيبة ما رأيت، وجه امرأة، التفت إلى الجهة الأخرى، فإذا هي امرأة أخرى.

خطفت مشدتي البيضاء، وضعتها على كتفي، وهات يا جري.

خيّل إليّ أن تعز كلها تجري بعدي. 

لم أتوقف لاهثًا سوى عند الباب الكبير، نظرت إلى الخلف، لا أحد يجري بعدي، تحقّقت من المشدة التي على كتفي، فإذا هي سروال نسائي أبيض نهايته مشجرة. لقد دخلت مسجد النساء!".

لا أستطيع السكوت، اليوم التالي كان شارع سبتمبر كله قد علم بما حصل.

والعزي القدسي يكلم الرايح والجاي عن فضيحة ابن سلام.

* * *

قال ناجي أحمد:

"يا خويلد بكرة تبدأ إجازتنا، كنّا في البحر مقابل مارسيليا، آح يا صاحبي على مارسيليا ومكالفها. لا تستطيع تفرق بين زبدة أمي وأي مكلف من حق الفرنص".

عاد ناجي يسأله:

  • "أيش نهرِّب هذه المرة؟".
  • "سجائر".

وفي جمارك الميناء مرّ خويلد بسلام ليقبض رجالها على ناجي.

بعد ثلاثة أشهر من سجنه، خرج يسأل ابن سلام:

  • "كيف فعلت؟ ولم يكتشفوا ما معك؟".
  • "كنت أردّد يا بن علوان، يا سيد نورالدين، أنا وليّك من النصارى ضعيف".

* * *

كانت الخضرة تغمر الأرض، الصيف حلّ مبكرًا.

ثمة امرأة تسير بين الزرع:

- "شوف يا ابني، الخيل القادم هناك بين الزرع".

- "يا حاج، عيب ما يجوز عمرك يكاد يصل إلى المئة".

- "يا ابني العمر إحساس ونصيحتي ألا تحسب الزمن بالشعر البيض، بل بما أنجزت". "لا تنظر إلى الخلف يا ابني، استبشر واضحك وعش اللحظة بكل قوتك".

  • * *
  • "يا شيخ، يا شيخ عبدالوهاب".

كان الفجر قد أطل بالندى، وبقايا نطف مطر الليل تسكن الأوراق. 

  • "من يشتيه؟".
  • "أنا".

أطل الشيخ:

  • "من؟".

كان في الأسفل رجل بنظارة سوداء، رفعها، ظهرت العين العوراء واضحة، تمتم الشيخ:

  • "أعوذ بالله والدبور من الصبح".

نزل إليه وعيناه إلى الأرض، قضى حاجته وقفل عائدًا إلى الأعلى، لكنه تذكر فجأة، فعاد إلى الرجل مسرعًا:

"هذا ربع ريال، اطلع إلى قرية الجواجب وإلى بيت خويلد، ناديه وأول ما يراك ارفع النظارة".

لم يكذب "الخادم" خبرًا:

  • "أمرك يا شيخ".
  • "يا محمد سلام، يا خويلد".
  • "من يشتي خويلد؟".
  • "أنا، اظهر لأكلمك".

ظهر، رُفعت النظارة، بدا العوَر.

تمتم خويلد متبرمًا:

  • "لعنة الله عليك وعلى من أرسلك".

- "يا مرة، انزلي اغلقي الباب".

ولم يظهر سوى صباح اليوم التالي.

* * *

بين "كدرة" ذبحان و"كدرة" قدس وبجانب الطريق بين الكدرتين، دفن خويلد، شاهدًا على حياة كانت بهيجة برغم العناء والتعب. كل من يمر بجانبه يضحك، حتى غرسان الذي اشتكته قدس إلى "الجنداري" أنه يدّعي خلق الناس وتلك حكاية أخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) يتمايل كالزرع وقت هبوب ريح خفيف.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English