عالم الآثار خلدون نعمان

حينما يترجل التاريخ شابًّا
بشير زندال
September 8, 2024

عالم الآثار خلدون نعمان

حينما يترجل التاريخ شابًّا
بشير زندال
September 8, 2024
.

لم يكن عشق عالِم الآثار الراحل خلدون نعمان للتاريخ والآثار محض مصادفة، وإنما كان نتيجة لعشق سابق لكل ما يتعلق باليمن ويرتبط بشجون أزمنتها الغابرة. لقد وُلد مسكونًا بحبه لليمن منذ عصور ما قبل التاريخ، ورحل مسكونًا بآثار اليمن وتاريخها.

كان الراحل خلدون هزاع عبده نعمان، أستاذ الآثار والنقوش اليمنية القديمة، المولود في محافظة تعز في 17 أبريل 1967، في منطقة الأعبوس، يعيش حالة وجع مستمرة على استباحة آثار اليمن وبيعها في مزادات العالم، على مرأى ومسمع حكومات اليمن المتعاقبة.

منذ أن التحق بجامعة ذمار معيدًا، اشتغل في الآثار بهوس شديد، جعله يزور مواقع أثرية متعددة، ويكتشف نقوشًا جديدة ألهمت الباحثين، وفتحت آفاقًا كثيرة لمعرفة التاريخ اليمني القديم.

من هاوٍ إلى متخصص

وبالرغم من شظف العيش وصعوبة الحياة بالنسبة إليه، وهو القادم من قرية بعيدة، التحق بجامعة صنعاء، وتخرج من قسم الآثار فيها عام 1991، ولم يتوقف عند حصوله على درجة الليسانس فحسب، بل أصر على إكمال دراساته العليا، فحصل على الماجستير أيضًا، من جامعة صنعاء عام 2003، عن رسالته التي نشرت في كتاب بعنوان: "الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عهد الملك شمر يهرعش"، ضمن إصدارات صنعاء عاصمة للثقافة العربية عام 2004.

ومن محاسن مصادفات الجامعة اليمنية والآثار اليمنية، أن تَعيَّنَ معيدًا في قسم الآثار والمتاحف بكلية الآداب بجامعة ذمار، فنمَا فيه العشق وتحوّل من عاشق هاوٍ للآثار إلى متخصص محترف، فاكتشف ونقّب ورمّم وألّف عشرات البحوث بمفرده وبالشراكة مع عمالقة الآثار في العالم، مثل كريستيان روبان. ومنذ أن التحق بجامعة ذمار معيدًا، اشتغل في الآثار بهوس شديد، جعله يزور مواقع أثرية متعددة، ويكتشف نقوشًا جديدة ألهمت الباحثين، وفتحت آفاقًا كثيرة لمعرفة التاريخ اليمني القديم. 

وبالرغم من إمكانياته البسيطة حينما كان معيدًا، لم يشعر بالإحباط ويتوقف فيه الشغف، بل قام بزيارة عشرات المواقع الأثرية والتجول في الجبال المحيطة بالمواقع الأثرية. لم يكن يمتلك كاميرا، ولم يكن يمتلك وسيلة مواصلات، وإنما كان يستعير الكاميرا، ويسافر في وسائل نقل عادية (على ظهر الهايلوكس أحيانًا). وكان يكتشف نقشًا هنا، وبقايا سور هنا، وبقايا طريق أثري هناك. لقد مشّط الجبال والوديان وأصرّ على تغيير مسار معظم الحكايات التاريخية، وتغيير معظم المسلَّمات في تخصصه ممّا يتعلق بتاريخ اليمن القديم.

زار بينون كثيرًا، والتقى مؤسس المتحف هناك، الذي رأى في خلدون عالِمًا كبيرًا وعاشقًا لآثار اليمن وتاريخه، فأوكل إليه ترتيب كل قطع المتحف الأثرية، وتنظيفها وعرضها، والتعليق على كل قطعة بثلاث لغات.

أهداه كاميرته ولابتوبه 

حينما التقاه كريستيان روبان عام 2005، وعرف المجهود الكبير الذي يبذله -كان حينها معيدًا- واكتشافاته لنقوش جديدة وقراءته الجديدة للتاريخ؛ قال أمام عددٍ من متخصصي الآثار في اليمن من اليمنيين والأجانب (اليوم نبدأ كتابة التاريخ اليمني القديم). وأهداه روبان كاميرته واللابتوب الشخصي، كي ينطلق بإمكانيات جديدة ويبدأ صفحة جديدة من دراسات الآثار، وكان لتاريخ اليمن ذلك، وكان لآثار اليمن الفتح الكبير في أمور كثيرة.

زار خلدون بينون كثيرًا، والتقى مؤسس المتحف هناك، الشيخ أحمد العزيزي، الذي رأى في خلدون عالِمًا كبيرًا وعاشقًا لآثار اليمن وتاريخه، فأوكل إليه ترتيب كل قطع المتحف الأثرية، وتنظيفها وعرضها والتعليق على كل قطعة بثلاث لغات، هي: (العربية، والإنجليزية، والفرنسية). فأمضى خلدون في المتحف حوالي عشرة أيام مع زميل له، ورتّب المتحف وجهّزه للافتتاح، والتقط صورًا في غاية الروعة لكل قطعة على حِدة. 

لم يتوقف الراحل عند ذلك فحسب، بل فكّر بتأسيس متحف في جامعة ذمار، وأقنع رئيسة قسم الآثار -حينها- الراحلة الدكتورة مديحة رشاد، وبدأ مع زملائه في الآثار رحلة جمع القطع الأثرية، وتكلل هذا المجهود بافتتاح متحف قسم الآثار في جامعة ذمار. 

حينما تعرف عليه الطليان

وحينما طلبت جامعة إيطالية ترميم قطع أثرية من متحف بينون، اشترط الشيخ أحمد العزيزي سفر الدكتور خلدون لمرافقة القطع، والإشراف على الترميم في إيطاليا عام 2007. وهناك تعرف عليه الإيطاليون، وبالتنسيق مع الدكتورة عميدة شعلان، حصل على منحة الدكتوراة في جامعة بيزا الإيطالية.

سافر الدكتور خلدون إلى إيطاليا عام 2008، لتحضير الدكتوراة، وهناك اشتغل أكثر من 200 نقش جديد اكتشفها هو. وهو عدد هائل؛ إذ تكتفي بعض رسائل الدكتوراة بـ10 نقوش جديدة فقط. 

وأثناء دراسته للدكتوراة، في جامعة بيزا، أسست هذه الجامعة (الأرشيف الرقمي لدراسة النقوش العربية قبل الإسلام)، واختصاره (DASI)، وهو أهم أرشيف في العالم، يضمّ النقوش اليمنية، وقد كان عضوًا مؤسِّسًا في هذه المدونة التي أشرفت على تأسيسها أليساندرا أفانزيني، المشرفة على أطروحة الدكتوراة للدكتور خلدون. وكان المرجع الأول لها في توفير الصور والمعلومات لمئات النقوش اليمنية القديمة، مع ترجمتها وتحديد أسماء مكتشفيها، وتواريخ وأماكن اكتشافها.

انتهى الدكتور خلدون من أطروحة الدكتوراة المعنونة بـ"دراسة النقوش العربية الجنوبية من منطقة ذمار" بالإنجليزية، عام 2012، ونُشرت في العام نفسه. وبقي في إيطاليا عامين للاشتغال على مدونة النقوش (DASI)، وعاد بعدها إلى اليمن، وتحديدًا عام 2014؛ ليتعيّن رئيسًا لقسم الآثار والمتاحف بكلية الآداب، جامعة ذمار. واستمر في هذا المنصب حتى 2018 ثم تعين نائبًا لعميد الكلية للشؤون الأكاديمية، واستمر حتى 2022. 

لم يكن عالم آثار فحسب، كان مهووسًا بكل ما هو أثري، فتراه يعيش أسبوعًا كاملًا مثلًا، وهو يتصارع مع نقشٍ ذهبت التعرية بأغلب ملامحه، فيدخل في تحدٍّ ويشتغل عليه بإصرار وهدوء حتى يفك ألغازه وحروفه.

موسوعة الآثار والنقوش 

كان موسوعةً حقيقية في الآثار والنقوش، وكان مرجعًا يتصل به زملاؤه وطلابه للاستفسار عن أحد النقوش أو الملوك، فيجيب إجابات مفصلة، تذكر أماكن وجود النقوش، ومن وجدها ورقمها ومحتواها. 

لم يكن الدكتور خلدون عالِمَ آثار فحسب، بل كان مهووسًا بكل ما هو أثري، فتراه يعيش أسبوعًا كاملًا مثلًا، وهو يتصارع مع نقشٍ ذهبت التعرية بأغلب ملامحه، فيدخل في تحدٍّ ويشتغل عليه بإصرار وهدوء حتى يفك ألغازه وحروفه.

كانت بعض أبحاثه تغير في تاريخ اليمن، منها مثلًا: بحث بعنوان "ذمار القرن موقع مدينة ذمار القديمة"، أثبت فيه أنّ موقع ذمار التي وردت في النقوش الأثرية ليس هو مدينة ذمار الحالية، بل كان في قرية جنوبي ذمار تسمى "ذمار القرن"، وقد اقتنع البروفيسور كريستيان روبان بهذه الفرضية، وبنى عليها أبحاثه المستقبلية. 

كما فاز بـ"جائزة الشيخة إليازية بنت آل نهيان للنقوش والكتابات القديمة"، وهي إحدى جوائز المجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب 2022 التابع للمجلس العربي للدراسات العليا والبحث العلمي- القاهرة، ضمن ثلاثة أكاديميين يمنيين. وحصل د. خلدون نعمان على الجائزة عن بحثه الموسوم بـ"نقوش من مناطق قبيلة مهأنف اليمنية"، وحظي بعدها بتكريم من جامعة ذمار التي أهدته درعًا وشهادة تكريم لجهوده الكبيرة التي بذلها في دراسة النقوش والآثار اليمنية.

كما كان عضوًا في فريق إنقاذ القطع الأثرية من تحت أنقاض متحف ذمار الإقليمي الذي تدمر من جراء غارة جوية عام 2015 من طيران التحالف، فاستخرج الفريق قطعًا مفككة ومدمرة، وكان له الفضل الكبير في تجميعها وترتيبها بعد ذلك.

كان -برغم انقطاع الراتب وشحة الظروف- ملتزمًا بأداء واجبه العلمي في جامعة ذمار، كما هي عادته دومًا، ففي يوم وفاته الموافق (19 أغسطس 2024)، ذهب صباحًا لتأدية محاضراته في قسم الآثار بجامعة ذمار، والتقى هناك بطلابه وزملائه. كان يشعر أثناء ذلك بوجع في صدره وهو في قاعة الدرس، وعلى إثر ذلك أُسعف، لكنه تُوفي في الطريق قبل الوصول إلى المستشفى.

لقد ترك الراحل إرثًا علميًّا كبيرًا، بقدر ما ترك دمعة كبيرة تتدحرج في قلوب كل من عرفوه، لقد كان قارة من العلم، وكونًا من الأخلاق، منضبطًا، ملتزمًا، وعالمًا جليلًا. 

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English