كانت كُعُود الرَّام عجوزًا خرقاء، لكنها كانت طيبة وساذجة وتفتقر إلى الخيال، وليست مثل فازعة لديها خيال جامح وقدرة على التخيل وعلى التأليف والتركيب، ثم إنها كانت قد قضت أكثر من نصف عمرها في حب الأولياء، وكرّست كلَّ وقتها لخدمتهم. كانت تزورهم كل يوم وتكنس بيوتهم ومراقدهم، وتوقد فيها الشموع وتبخرها بالبخور وأعواد الناد، وتزيِّت مسارجهم وتجمع من أهل القرية النذور التي ينذرونها لموالدهم التي تقام كل سنة.
ولشدة اعتقادها بالأولياء، كانت ما تنفك تعزو إليهم كل ما يحدث في القرية من خير أو شر، فإن كان شرًّا قالت بأن الأولياء غاضبون وساخطون. وإن كان خيرًا قالت بأنهم راضون ومنبسطون. وكان حديثها الأثير والمفضل هو الحديث عن كراماتهم وهي كرامات سمعت بها وظلت تعيدها كما هي من دون أن تنقص أو تضيف إليها شيئًا من عندها، لكنها وهي تتحدث عنها تتحدث بصدق كما لو كانت حاضرة وشاهدة على وقوعها. وإن أنت كذبتها أو شككت في كرامات ولي من الأولياء السبعة تتألم وتبكي وتشعر كما لو أنك تهينها وتتهمها بالكذب وهي المعروفة عند أهل القرية بأنها لا تكذب والكل يشهد بصدقها وبأمانتها. ولأنها صادقة وأمينة كانت نساء القرية يلجأن إليها ويستعِنَّ بها في توصيل رسائلهن ونذورهن لأولياء القرية السبعة، وهم الأولياء الذين كانت قرية العكابر تفخر بهم وتزهو، حتى إن أهل القرية كانوا ما ينفكون يقولون بزهو:
"كل قرية وفيها ولي أو اثنين، وقريتنا فيها سبعة أولياء".
كانت المرأة إذا مرض طفلها أو مرضت بقرتها أو قلَّ حليبها لسبب من الأسباب، تمر على كعود الرام وتعطيها نذرًا لولي من أولياء القرية السبعة، وتطلب منها أن توصل له نذرها وتكلمه عن طفلها المريض، أو عن بقرتها المريضة، أو عن زوجها الذي غاب ولم يعد، وكانت كعود تأخذ النذر منها وتذهب به إلى الولي المعني، وتوصل له رسالة المرأة صاحبة النذر، وأما المرأة التي تشعر في قرارة نفسها بأن وليًا من أولياء القرية السبعة زعلان منها أو غاضب عليها لسبب من الأسباب، فكانت تطلب من كعود الرام أن تشفع لها عند الولي، وكانت النساء يعتقدن بأن كعود الرام لكثرة ما خدمت الأولياء صاروا يحبونها ويقبلون وساطتها وشفاعتها، وكثيرًا ما كنّ يلجأن إليها ويطلبن منها أن تشفع لهن عند هذا الولي أو ذاك، أو يسألنها عمن من الأولياء يمكن أن يفيدهن ويشفيهن من أمراضهن، أو يوفر لهن الحماية والشعور بالأمان، ومن منهم يستطيع تلبية احتياجاتهن العاطفية، أو يمنع أزواجهن من الزواج عليهن!
كانت تعرف الكثير عن أولياء القرية، ولديها معلومات عن كل ولي؛ عن سيرة حياته، وعن كراماته، وتعرف كيف ترضيهم، وكيف تشفع عندهم للمغضوب عليهم، أو للمغضوبات عليهن. وكان بمقدورها أن تجعل كلّ من له موقف من الأولياء أن يعيد النظر في موقفه منهم وأن تحوله من عدو لهم إلى صديق، ومن كاره إلى محب، ومن كافر بهم وبكراماتهم إلى مؤمن ومعتقد ومصدق. وبعد عودة الفقيه سعيد من مكة راح يكفِّر أهل القرية لاعتقادهم بالأولياء ويتهمهم بالشرك، وقال بأنه لم يكن يرغب في العودة إلى القرية، لولا أنه ذات ليلة وهو نائم في مكة، أبصر النبي في منامه وسمعه يقول له:
"يا فقيه سعيد، لا يجوز لك البقاء في مكة وقرية العكابر تغرق في ظلام الكفر والشرك بالله".
قال له ذلك وطلب منه أن يسرع في العودة ليهدي أهل قريته من الشرك إلى التوحيد، ويخرجهم من الظلمات إلى النور. وبعد عودته كان ما ينفك يقول:
"والله لو الأمر بيدي، ما رجعت من مكة، التي يُعبَد فيها الله إلى قرية العكابر التي يَعبُد أهلها الأولياء".
وبعد عودته من مكة كان يحلم بأن يهدي أهل قريته جميعًا، لكنه بعد أن عجز عن هدايتهم، صار أقصى ما يحلم به ويتوق إليه هو أن يجد كافرًا يهتدي على يديه أو كافرة، وكان أن وجد ضالته في جارته كعود الرام، وحتى تهتدي على يديه ويهديها إلى الإسلام (المذهب الوهابي)، راح يحشد كل طاقاته وكل معارفه وكل فنون الترهيب التي قرأ عنها وسمع بها وبدأ يجرِّبها فيها.
كان كل يوم حين يصادفها في طريقه أو حين يبصرها في سقف بيتها، يقصفها بمواعظه ويظل يعظها ويخوِّفها من النار ومن يوم القيامة ومن عذاب القبر وعذاب جهنم، حتى إن روحها انقسمت ولوثَتها تضخّمت، وخوفها تعاظم، وكثيرًا ما شُوهِدت تبكي من شدة الخوف.
كانت تبكي خوفًا من الفقيه سعيد، الذي ما انفك يتوعَّدها بعذاب القبر وبنار جهنم إن هي واصلت مشوارها مع الأولياء، وتبكي خوفًا من الأولياء، تخشى إن هي تركتهم وتوقفت عن زيارتهم والاعتقاد بهم وتقديم النذور لهم، أن يُلحقوا الضرر بها أو ببقرتها. ولأنّ بيتها لصيق بيت الفقيه، كان الفقيه بحكم الجوار، لا يترك لها فرصة للهروب منه إلى نفسها، ولا يعطيها وقتًا تستريح فيه من مواعظه التي كانت تنزل عليها كأنها السياط.
كان كلما أبصرها وهي في طريقها إلى بيوت الأولياء، راح يصرخ فيها ويحدثها عن يوم القيامة، وعن الحساب والعقاب ونار جهنم وعن ملائكة العذاب وعن عذاب القبر والحنش الأقرع، وكان ما ينفك يقرِّعها ويوبخها ويخوفها ويصرخ فيها.
ويقصفها بوابل من الأحاديث، وهي مسكينة لا تدري عما يتحدث، وفي خلال بضعة أشهر كان الفقيه سعيد قد شطرها بسيف وعظه إلى شطرين، وجعلها تعيش في حالة صراع وفي حالة ضياع وفي حالة خوف، ومن شدة خوفها ذهبت تشكوه للعاقل بجاش، وقالت له وهي تبكي:
"الفقيه سعيد يا عاقل، من يوم رجع من مكة وهو يفجِّعني. واني خايف منه، وخايف من ربي، وبي راجف".
وعندما طلب العاقل بجاش من الفقيه سعيد أن يترك جارته كعود الرام، ويتوقف عن تكفيرها وتخويفها بعذاب القبر وبنار جهنم، رد عليه الفقيه، وقال له:
"الأقربون أولى بالمعروف يا عاقل، كعود جارتي وهي أولى بالهداية من غيرها".
وبعد مرور عام على عودته من مكة، ولشدة الضغط الذي مارسه عليها، اهتدت كعود الرام، فكان أن أقلعت عن زيارة الأولياء وعن خدمتهم والتمسح بقبورهم وعن التقرب إليهم بالنذور، وكذا توقفت عن الحديث عن كراماتهم، وبعد أن اهتدت على يد الفقيه سعيد قالت لأهل القرية:
"الفقيه سعيد هداني للإسلام، ولو مش هو كان ربي يوم القيامة شدخلني النار مع الكفار".
كان الفقيه سعيد بُعَيْد عودته من مكة، قد راح يبحث عن أضعف نقطة في معبد الشرك المنتصب أمامه، وبدت له جارته كعود الرام هي الحلقة الأضعف، وفي نفس الوقت كان يعتبرها حجر الزاوية في معبد الشرك بالله، وكاهنة المعبد وهمزة الوصل بين أهل القرية وبين الأولياء، ولأنها من قرية غير القرية ولا أهل لها في قرية العكابر يحمونها، فقد رأى أن يبدأ بتكفيرها بدلًا من أن يبدأ بتكفير القرية كلها ويستعدي الجميع ضده. وبعد أن اهتدت على يديه ارتفعت معنوياته، وتملكه شعور بالزهو كونه أفلح في هدايتها، وكان ما ينفك يتحدث عن هذا المنجز العظيم الذي تحقق على يديه، وكيف أنه أخرج كعود الرام من الظلام إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الجاهلية إلى الإسلام.
وكان يتعمد بمناسبة أو بدون مناسبة أن يتحدث عن كعود الرام التي أصبح الله راضيًا عنها، وفي المقابل وبعد أن كانت كعود الرام تتحدث أمام أهالي القرية عن أولياء الله وعن كراماتهم، صارت تتحدث أمامهم عن ولي الله الفقيه سعيد، وتحدثهم عن كراماته، ولاحظت نساء القرية أن كعود الرام التي كانت تفزع إلى الأولياء وتتقرب إليهم بالنذور، صارت بعد أن اهتدت، تفزع للفقيه سعيد وتتقرب إليه بلبن وسمن بقرتها وبدجاج وبيض دجاجاتها، وتنذر له أكبر أدياكها، وكانت نساء القرية يلمنها وينصحنها ويقلن لها:
"يا كعود الرام، حرام تحرمي نفسك وتندي للفقيه سعيد البيض والدجاج والسمن".
وكانت كعود تزعل منهن وتقول لهن:
"الفقيه سعيد ولي غلب الأولياء كلهم، وهو اللي شنفعني وششفع لي عند ربي يوم القيامة".
وبعد أن كانت لا تمل من الحديث عن كرامات الأولياء، صارت لا تمل من الحديث عن كرامات ولي الله الفقيه سعيد. وفي المقابل، صارت تكفر الأولياء وتطلب من نساء القرية أن يتوقفن عن الاعتقاد بهم، وعن تقديم النذور لهم، وتقول لهن بأنهن إن لم يخفن من الله، عليهن أن يخفن من الفقيه سعيد:
"لو انتن يا نسوان ما تفتجعينش من ربي، افتجعين من الفقيه".
ولأن الفقيه سعيد هو ولي الله الذي غلب جميع الأولياء، فكانت تطلب منهن أن يتقربن له بالنذور:
"بدل ما تنذرين للأولياء الكفار، انذرين لولي الله الفقيه سعيد. الفقيه سعيد ولي فوق الأولياء كلهم، وربي يقبل شفاعته يوم القيامة".
ومثلما كانت تبذل جهدًا كبيرًا لإقناع نساء القرية بصحة كرامات الأولياء وبأنهم يضروا وينفعوا، صارت تبذل نفس الجهد لتقنعهن بصحة كرامات الفقيه سعيد، وبأنه ولي الله الأعظم الذي يضر وينفع.
وكان الفقيه يدين لها بالكثير من الهدايا والنذور التي تصله من نساء القرية والقرى المجاورة، وحتى يرد لها الجميل، كان ما ينفك يمتدحها ويثني عليها، وذات يوم بُعَيْد صلاة المغرب قال يخاطب أهل القرية:
"أمس رأيت رسول الله في المنام يقول لي:
يا فقيه سعيد، هل في مرة في قرية العكابر اسمها كُعُوْد الرام؟!
قلتُ له: نعم يا رسول الله.
قال لي: بشِّرها بالجنة".
وصاح الحاج علوان من سقف بيته، ينادي كعود الرام:
"يا كعود الرام، ما دام ربي يحبك والنبي بشرك بالجنة، سألتك بالله تشفعي لي يوم القيامة عند ربي".
وليلتها شعرت كعود الرام بالزهو، وقالت له:
"والله لا أشفع لك يا حاج علوان، وأشفع لأهل القرية كلهم".
لكنها استثنت النساء اللاتي خرجن من دين الفقيه سعيد، ودخلن في دين الدرويش عبدالحق، وقالت بأنها لن تشفع لهن:
"لكن فازعة وشجون ناشر والكافرات اللي خرجين من دين الفقيه ودخلين دين الكافر عبدالحق، والله ما أشفع لهن".
وفي صباح اليوم التالي، خرجت كعود الرام من بيتها ومعها أكبر ديك، وقالت للفقيه وهي تناوله الديك الكبير:
"بشرتني بالجنة يا فقيه سعيد، الله يبشرك بالخير".
قال لها الفقيه سعيد، وهو يقبض على الديك بكلتا يديه:
"النبي يا كعود الرام، هو الذي بشرك، وأنا بلغتك".
لكن كعود الرام لشدة جهلها لم تكن تعرف غير الله والفقيه سعيد، وعندما قال لها بأن النبي هو من بشرها بالجنة قالت له:
"أنت يا فقيه سعيد الولي، وأنت النبي، وأنت غلبت الأولياء والأنبياء كلهم".
وكثيرًا ما حاول الفقيه سعيد تلميع كعود الرام ووضعها في مواجهة فازعة، لكنها -أي كعود الرام- بعد أن اهتدت على يده فقدت براءتها وتلقائيتها وبساطتها، وفقدت حتى صدقها، ولشدة خوفها من جهنم الفقيه، صارت تشهد معه بالحق وبالباطل، وكان أن تحولت بقوة الخوف إلى بُوقٍ له، وإلى واشية، وراحت تشي بكل امرأة تتضرع للأولياء وتنذر لهم النذور، وتشكو إليه النساء اللاتي خرجن من دينه ودخلن في دين الدرويش عبدالحق.
وكانت النساء اللاتي دخلن في دين الدرويش عبدالحق، يسخرن منها ويقلن لها:
"يا كعود، لو يوم القيامة ربي دخلنا النار والفقيه ما رضاش يشفع لنا عند ربي، اشفعي لنا".
وكانت كعود تصيح وتنفعل وترد عليهن بأنها لن تشفع لهن إلا بعد أن يخرجن من دين الدرويش عبدالحق، ويرجعن إلى دين الفقيه سعيد:
"والله ما أشفع لكن يوم القيامة عند ربي، إلا بعد ما تخرجين من دين الكافر عبدالحق، وترجعين دين الفقيه".
وبعد أن كبرت وشاخت كبر الفقيه في رأسها وكبر الخوف منه في قلبها، وفي ختام عمرها اختلط الحابل بالنابل في عقلها واختلط الله بالفقيه، ثم ما لبثت أن نست الله ولم تعد تذكره وكأنه لا وجود له، وكأن حضور الفقيه القوي في حياتها وفي عقلها قد ألغى حضور الله، أو كأن الفقيه قد حل محله، حتى إنها وهي تحتضر كان يخيل إليها بأن الملائكة يعذبونها، وكانت تطلق صرخات مريعة وتتوسل في هذياناتها للفقيه سعيد، الذي كان حاضرًا يقرأ القرآن ويده فوق رأسها وتقول له:
"الملائكة يا فقيه سعيد، يعذبوني، اشفع لي عندهم وقل لهم يرحموني".
ومن أجل أن يشفع لها ويأمر الملائكة بأن يتوقفوا عن تعذيبها أوصت له ببقرتها، وكانت النساء يستغربن ويتساءلن عن السبب الذي جعل كعود الرام تخاطب الفقيه وهي تحتضر كأنها تخاطب الله أو كأنه هو الله.
وبعد موت كعود الرام بساعات، وصلت أختها نُهُود لترثها. كانت قد أقبلت من قرية الرام التي تبعد عن قرية العكابر مسافة ثلاثة أيام بالحمار، لكنها لم تأتِ راكبة، وإنما قطعت المسافة مشيًا على قدميها بعد أن وصلها خبر مرض أختها.
وكان ما يخفف من تعب الرحلة هو شعورها بأنها سوف ترث بقرتها، لكنها صعقت عندما أخبرتها نساء القرية بأن أختها كعود الرام أوصت بالبقرة للفقيه سعيد، وبدلًا من أن تترحم عليها غضبت غضبًا شديدًا وراحت تلعنها وتلعن الفقيه سعيد الذي استولى على بقرة أختها وكأنه أخ لها، ومن شدة غضبها راحت أمام نساء القرية تدعو الله أن يحشر أختها في نار جهنم.