في الواحدة بعد منتصف الليل، بينما كان أحمد (26 عامًا)، يتأهب لمغادرة صالون الحلاقة الذي يعمل به، دلف إلى صالونه ثلاثة مراهقين في حالة سُكْر، أكبرهم عمرًا لم يتجاوز السادسة عشرة، يتأبطُ سيخًا معدنيًّا ويتفوَّه بكلمات خادشة، قبل أن يدفعه ورفيقيه بالقوة خارج المحل.
يقول أحمد _الذي يُلقي اللومَ على إهمال الأهل_ إنّ الأمر بات مألوفًا بالنسبة له، إذْ ليست هذه المرة الأولى التي يحدث معه شيء من هذا القبيل، فقد تكرّر أن شاهد في بعض الليالي قاصرين يتسكعون في مجموعات في وقتٍ متأخر أو يتشاجرون مع بعض أصحاب المحلات الذين يتهمونهم بالسرقة.
يستطرد: "في الليلة قبل الماضية، رأيت أحد الصبيان يحاول السرقة من شاحنة محملة بالفاكهة ثم يلوذ بالهرب، الأمر لا يقتصر على ذلك فقط؛ هناك عصابات من المنحرفين، أغلبهم دون سن الثامنة عشرة يمارسون السرقة ويتعاطون القات والكحول، والخطير أنّ بعضهم يحملون أسلحة كنوعٍ من "البلطجة"، لابتزاز الضحايا من أصحاب المحلات وصغار الباعة، مستغلين الترهل الأمني في البلاد"، حدّ قوله.
لا يُعدّ هذا سوى مَلمَحٍ بسيط عن مدى تصاعد معدل "جريمة الأحداث" في اليمن خلال السنوات الأخيرة، في ظل الواقع المأساوي الذي تعيشه البلاد في ظلّ الحرب والانهيار الاقتصادي الكبير الذي ساهم في تمدّد الظاهرة وانتشارها على نحوٍ غير مسبوق، ودفع بآلاف القاصرين وطلبة المدارس إلى التسول والتسرب المدرسي والانخراط في عصابات إجرامية، أو في أحسن الأحوال إلى العمل بأجور زهيدة وفي ظروف غير آمنة.
و"الحدث" _وفقًا للقانون اليمني_ كلُّ شخص لم يتجاوز عمره 15 سنة كاملة وقت ارتكابه فعلًا مجرمًا قانونًا أو عند وجوده في إحدى حالات التعرض للانحراف. في حين تطلق "جرائم الأحداث" على جميع الجرائم التجاوزات غير القانونية التي يقوم بتنفيذها قاصرون، مثل السرقة والتسول والهروب من البيت أو المدرسة وتعاطي المخدرات وممارسة الدعارة أو الاعتداء على الممتلكات وغيرها من الجرائم التي يحدّدها القانون بجرائم جسيمة وغير جسيمة.
رغم الانتشار الكبير للظاهرة، لا تتوفر إحصائيات رسمية أو غير رسمية عن عدد الأحداث الجانحين، ما خلا بعض الإحصائيات الصادرة عن دور التأهيل بعدد النزلاء لديها، وهي لا تعدو كونها نسبة ضئيلة لا يُعتد بها، مقارنة بحجم الظاهرة في الواقع.
وتخضع عقوبات هذه الجرائم لقانون خاص يُعرف بـ"قانون الأحداث"، الذي يتضمّن عقوبات مخففة مثل الغرامة أو دفع تعويض عن الضرر، وفي بعض الحالات تصل إلى السجن أو إعادة التأهيل لدى الدور الخاصة المرخصة من قبل الدولة.
ويشهد اليمن منذ مارس/ آذار 2015، صراعًا مسلحًا دخل عامه الثامن بين جماعة الحوثيين المسيطرة على العاصمة صنعاء من جهة، وقوات الحكومة المعترف بها دوليًّا والمدعومة من التحالف الذي تقوده السعودية من جهة أخرى.
خيبة الأهل وضياع المستقبل
لم يخطر ببال الأب (م. ن) (42 عامًا)، المغترب في السعودية منذ 7 سنوات، أنّ ابنه (ض) (14 عامًا)، المتفوق في مدرسته سيتحول في يومٍ ما إلى قاتل في شجار على حزمة قات. حدث ذلك عشية خلاف طرأ بين الصبي _الذي يدرس في الصف التاسع الأساسي_ مع بائع قات بسوق حَجّة، انتهى بأن غرس الصبي جنبيته (خنجر شعبي) في صدر البائع فأرداه صريعًا، ردًّا على صفعةٍ تلقاها من جانب الأخير.
في سجن النصيرية بحَجّة (200كم شمال صنعاء)، يقبع عشرات القاصرين المتهمين بجرائم قتل، بعضهم تخلت عنهم عائلاتهم، هربًا من أيّ مسؤوليات وتبعات قد تنالهم. يقول بعض القائمين على السجن، إنّه في بعض الحالات يكون استمرار الاحتجاز ضروريًّا؛ حفاظًا على حياة الحدث، عدا في حال الوصول إلى تسوية مع أولياء الدم، للحيلولة دون حدوث ثأر، خصوصًا أنّ ظاهرة الثأر (التي ما تزال منتشرة في المجتمعات القبَلية) لا تضع أيّ اعتبارات لعمر القاتل صغيرًا أم كبيرًا.
وتتصدّر التجاوزات التي يرتكبها الأحداث الذكور بشكلٍ واضح، ولا سيما في المدن، في حين ما تزال نسبة الإناث محدودة نسبيًّا، تتعلق في الغالب بالتسول والسرقة والاحتيال، وَفقًا لمسؤول أمني بوزارة الداخلية (طلب عدم ذكر اسمه كونه غير مخول بالتصريح لوسائل الإعلام).
الحرب والواقع البائس
رغم الانتشار الكبير للظاهرة، لا تتوفر إحصائيات رسمية أو غير رسمية عن عدد الأحداث الجانحين، ما خلا بعض الإحصائيات الصادرة عن دور التأهيل بعدد النزلاء لديها، وهي لا تعدو كونها نسبة ضئيلة لا يُعتدّ بها، مقارنة بحجم الظاهرة في الواقع.
ويعزو كثيرٌ من المختصين الارتفاعَ المفاجئ لظاهرة جنوح الأحداث، إلى الظروف التي تشكّلت بموازاة الصراع الدامي في البلاد، الذي تسبّب في مقتل وجرح أكثر من 17,500 مدني، وتشريد نحو مليونَي نازح، بينما يعاني أكثر من 20 مليون شخص في اليمن، من انعدام الأمن الغذائي؛ منهم 10 ملايين معرضون لخطر المجاعة، وفقًا لتقرير منظمة هيومن رايتس وتش رافق ذلك تهاوٍ كارثيّ في قيمة العملة المحلية (الريال)، وارتفاع قاصم في أسعار السلع الغذائية والخدمات والوقود، وتوقف كثير من الأنشطة الاقتصادية في البلاد، إلى جانب حرمان مليون ونصف المليون موظف في القطاع العام، من رواتبهم منذ أغسطس/ آب 2016م.
في السياق، يؤكّد محمد العرافي- مدير دار التوجيه الاجتماعي للأحداث بصنعاء، أنّ الواقع الذي صنعته الحرب في اليمن ساهم بشكلٍ كبير جدًّا في انتشار ظاهرة جنوح الأحداث في تغذية العنف لدى القاصرين، خصوصًا مع موجة النزوح الكبيرة التي شهدتها البلاد، حيث اضطرت بعض الأسر إلى إخراج أولادها للكسب بعد انقطاع المرتبات ومصادر الدخل، وهو ما يعرف بـ"ظاهرة أطفال الشوارع"، وهذه الظاهرة ساهمت في اكتساب الأطفال لسلوكيات العنف، أو يتم استقطابهم للقيام بممارسات خاطئة أو في تجارة البشر أو السرقة، فضلًا عن وجود أُسَر تفرض على أبنائها توفير مبلغ معين في اليوم، ما لم فسيتعرضون للعقوبة أو يُحرمون من دخول المنزل، وهو ما يدفع بهؤلاء إلى ممارسة السرقة لتوفير المبلغ المطلوب.
بحسب العرافي، فإنّ هناك أسبابًا أخرى لتمدّد الظاهرة، بَيْدَ أنَّ إفرازات الحرب كانت العامل المباشر في مضاعفة جرائم الأحداث، وتعزيز قابلية العنف، خصوصًا تجارة البشر إلى جانب العنف المنزلي الذي يتعرّض له الأطفال.
على المستوى النفسي، يشير المدون والباحث في علم النفس، معاذ الصالحي، إلى أنّ الأبحاث النفسية تؤكّد أنّ للحرمان المادي والواقع المعيشي المزري آثارًا فظيعة على النشاط العصبي كالقدرة على التخطيط والتركيز والتحليل والتذكر وبعض المهارات الأخرى؛ ذلك أنّ الفرد الذي ينشأ في بيئة محرومة، في الغالب يتلقى تعليمًا سيئًا ونظامًا صحيًّا رديئًا، وتغذية غير صحية، أو ربما غير كافية، ونتيجة لفقدان أبسط الحاجات الأساسية يصبح الفرد متقوقعًا في حلقة البؤس والعنف، وهذا بعينه جوهر المشكلة في الغالب.
يضيف الصالحي أنّه عندما يحمل الفرد سلاحًا بيده لأول مرة، ثم يقوم بتوجيهه نحو شخصٍ ما للحصول على المال مثلًا، على الأرجح سيولد لديه حافزٌ أكبر لحمل السلاح مرة أخرى للحصول على مكافآت أكثر. في المقابل، قد يتسلح الانسان أيضًا تجنُّبًا للعواقب والجرائم التي من المحتمل أن يتعرّض لها، وبهذا تدور طاحونة العنف.
ارتفاع موازٍ للجرائم الجنائية
شيوع الجريمة في اليمن، لا يقتصر فقط على جرائم الأحداث والقاصرين، إنما يتخطى ذلك، فجرائم الأحداث ليست سوى امتدادٍ لواقعٍ ازدهرت فيه الجريمة بالمجمل. تشير الأرقام إلى زيادة في معدل الجرائم خلال السنوات الأخيرة بصورة غير مسبوقة.
وبحسب بيانات موقع "NUMBUE" فإنّ معدل الجريمة في اليمن شهد خلال السنوات الثلاث الماضية ارتفاعًا بمعدل 80,30%، كما يتذيَّل اليمن في قائمة الشعوب العربية الأقل أمانًا، وفق تصنيف مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث.