أقامت مدرسة "منارات" الأهلية الخاصة في صنعاء، في 20 فبراير/ شباط الجاري، فعالية ما يسمى "اليوم العالمي" احتفلت فيه بالزي والدبكة الفلسطينية. قدّمَت فتيات من الصف السابع الرقصة الشعبية وهنّ مرتديات أزياء فلسطينية، وسط أهاليهن الذين حضروا فعاليات هذا اليوم. لكنْ معِدّو هذا الكرنفال الفرائحي نسوا -أو تناسوا- أنهم صاروا في عهدة جماعة دينية، تقول كل ممارساتها إنها معادية للفنون ولكل مظاهر الفرح. قرر مدير فرع مكتب التربية بمديرية السبعين، والتابع لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، إغلاق المدرسة، وتغيير مديرتها، وتحويلها من اللغة الإنجليزية إلى العربية، عند إعادة افتتاحها مستقبلًا.
بحسب الوثيقة التي تسربت إلى وسائل الإعلام، كانت الذريعة وراء هذا العمل القسري المنافي للقانون، هو أن "الفعالية لم تلتزم بالقواعد والشروط المطلوبة لإقامة فعالية"، كما إنها "تتعارض مع هُويتنا الإيمانية وثقافتنا وقيمنا، وتسيء إلى الرسالة التربوية". ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، تذكّروا فرية "محاربة الوهابية"، التي كانت جزءًا من أدبيات سيطرة الجماعة على السلطة، لتأتي لنا بممارسات تكاد تقاربها، إن لم تكن تصل بها إلى حد التطابق وأكثر.
أمام أحكام الإعدام هذه (والتي تبدو عرفية)، هل نستطيع أن نتحسر على خسران دولتنا، لصالح قوى لا تؤمن بالعصر، وترى المجتمع اليمني مختبرًا كبيرًا لتجريب نظرياتها التي تم تجاوزها بالتقادم وحركة التاريخ. وفيما تحاول المنطقة -على سبيل الحقيقة أو الدعاية- مراجعة أفكارها المتطرفة، ووضع حد لحكم جماعات ما قبل الدولة، نرانا نحن -اليمنيين السبّاقين للتحديث- نتراجع القهقرى، نحو دولة دينية يقودها مجموعة من المغامرين، يريدون أن يجعلوا من نزعاتهم قوانين لمدن تربو حضارتها على ثلاثة آلاف عام.
مع ذلك، هل حقًّا يريد هؤلاء الطائشون معرفة أين تكمن "الهُوية الإيمانية" أو "اليمنية"؟! لنأخذهم إليها، إن كان لهم قلبٌ أو ألقوا السمع. قبل أيام قليلة، تداول الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، واقعة محزنة، بحق تربوي يمني قدير، كان لها أن تحرك الضمائر، أو تضع حدًّا لما نحو فيه من ظلم وطغيان.
هويتنا اليمنية، وربما الإيمانية، تتطلب النظر إلى الناشئة باعتبارهم بناة مستقبل هذا البلد، لا وقودًا لحرب نرى كيف تتعارض مخرجاتها مع الوطنية اليمنية ودولة المواطنة المتساوية، أن يتم وضع حدٍّ للاستهتار بالتعليم العام، ووقف خصخصته، وبالتالي النزيف المستمر للتسرب من التعليم
بحسب هؤلاء الناشطين، تُوفِّي قبل أيام المدرس خالد الخليفي، مدرِّس اللغة العربية بمدرسة الحورش بصنعاء. المدرس المسكين كان قد طرد من بيته بعد عجزه عن دفع الإيجار بفعل انقطاع راتبه، فأرسل زوجته إلى منزل شقيقته.
ظل الخليفي مشردًا بعد ذلك، وتدهورت صحته النفسية، ليتخذ من أحد جسور العاصمة مأوى له، حتى مات من الفقر والقهر والمرض. نعم، لم تشفع 30 سنة من الخبرة والتعليم ليعيش حياة كريمة، ويعيل نفسه وعائلته. كيف لمشهد كهذا ألَّا يثير الغيرة والحميّة، إذا كانت حفلة بريئة من الفرح، استدعت كل هذا التحفز والعدوانية.
هنا، حريٌّ بنا، أن نذكِّر هؤلاء الأوصياء، بـ"هُويتنا اليمنية" التي أتوا عليها، فيما إذا لا يزالون على إصرارهم بتذكرينا الدائم بـ"هويتهم الإيمانية". إن هُويتنا اليمنية، تقتضي أولًا إعادة الدعم للعملية التعليمية، من حيث صرف رواتب المدرسين، الذين يموتون على أرصفة الفاقة جوعًا.
هويتنا اليمنية، وربما الإيمانية، تتطلب النظر إلى الناشئة باعتبارهم بناة مستقبل هذا البلد، لا وقودًا لحربٍ نرى كيف تتعارض مخرجاتها مع الوطنية اليمنية ودولة المواطنة المتساوية، أن يتم وضع حدٍّ للاستهتار بالتعليم العام، ووقف خصخصته، وبالتالي النزيف المستمر للتسرب من التعليم.
الهُوية اليمنية، بمعناها الوطني، تتطلب أيضًا كفّ اليد عن المنهج المدرسي، وإيقاف العبث بمحتواه. إن فئة أو منطقة أو ثقافة أو لون واحد، لا يمكن له أن يكون ناظمًا وحيدًا للحياة العامة، ومن الوهم الاعتقاد بأن التحريف المذهبي البطيء والممنهج للكتاب المدرسي شيء سيمر هكذا، أو سيظل أمرًا واقعًا -بالقوة- إلى الأبد.
نعرف أنه بطبيعة الحال، لن نستطيع أن نعيد إلى نظر هؤلاء المسؤولين المستهترين، أيام فصول الفنون الجميلة والموسيقى، ابتداء اليوم الدراسي بأصوات أيوب والآنسي والمرشدي وغيرهم، لكن لا تعني لحظة اليأس هذه، أن العبث بحياتنا العامة وقيمنا المدنية، يجب أن يمر مرور الكرام.