"يجتاحني الحنين دائمًا للعودة إلى ممارسة العمل الصحفي، لكن تكلفة العودة باهظة جدًّا، ولن أستطيع تحملها"، بهذه الكلمات يبدأ الصحفي فيصل عبدالحميد السراجي حديثه لـ"خيوط"، غير أنه يضيف بابتسامة تبدو عليها ملامح الحسرة والحزن، أن عمله الجديد في بيع الثلج أفضل بكثير من العمل في بيئة الصحافة، والتي يرى أنها أصبحت بيئة خطرة؛ إذ لا يمكنك العمل وفق القوانين والأخلاقيات التي تحتمها عليك المهنة بقدر ما تعمل من أجل طرف سياسي معين.
إلى ما قبل الحرب التي تمضي في عامها السابع، عمل فيصل عبدالحميد السراجي محررا للشؤون الإنسانية في إحدى الصحف المحلية، لكنه تفاجأ، كما قال، بقرار الاستغناء عنه قسرًا. يقول: "كنت أعد وأحرر زاوية عن "هموم الناس" حتى منتصف العام 2014، لكن الصحيفة استغنت عني دون أي تبريرات أو توضيح يذكر"، الأمر الذي جعله يعود إلى المنزل والبحث عن عمل في مكان آخر. لكن مع دخول البلاد في حالة فوضى وحرب وانعدام فرص العمل، لم يجد فيصل فرصة عمل في أي مؤسسة إعلامية أخرى، لأن الانعطافة الكبرى للحرب مطلع العام 2015، أحالت مئات الصحفيين إلى رصيف البطالة.
بعد أن أغلقت معظم وسائل الإعلام وأصبحت الصحافة من الأعمال المحظورة، لجأ السراجي للبحث عن أعمال بديلة يعيش منها، في بداية الأمر عمل حمّالًا للخضروات والفواكه في سوق ذهبان شمال صنعاء، إضافة لأعمال أخرى وصفها بالحرة، والتي كانت غالبًا أعمالًا يومية وليست مستمرة. رحلة البحث عن عمل جديد، لا سيما في العام 2015، كانت متعبة جدًّا، وذلك تزامنًا وذلك تزامنًا مع دخول الحرب نفقاً أكثر ظلمة في البلاد، وفي الوقت الذي كان الناس يفرّون بأرواحهم من المدن، ظل السراجي يتسكع في شوارع صنعاء باحثا عن عمل.
بملامح تملؤها الحسرة وجسد لم يعد يتحمل حرارة شمس الشتاء، يقف السراجي لساعات طويلة في النهار أمام بسطته لبيع الثلج، ومن ثم يعمل ليلًا في حراسة المحال التجارية جوار بسطة الثلج، ويلجأ غالبًا إلى أعمال يومية أخرى، لكنها لا تكاد تسد شيئًا
في العام 2016، لجأ السراجي والصحفي نبيل الشرعبي وأصدقاء آخرون لهما، إلى العمل في تجميع الأكياس والعلب البلاستيكية وبيعها. أسعار البلاستيك المعاد تدويره رمزية جدًّا، لكنهم استمروا فيه لأكثر من سنة، لم يكسب منه السراجي وأصدقائه شيئاً ولم يخسروا أيضا عدا تعبهم الذي كان بالنسبة لهم أهون من الجوع والحاجة للآخرين. وبعد ذلك، يقول فيصل، "جاءت فكرة فتح بسطة صغيرة لبيع الثلج في رصيف شارع الرقاص وسط مدينة صنعاء في بداية العام 2018"، وهو ما أصبح عملاً يعتاش منه الصحفي الذي كان يكتب عن "هموم الناس".
كان هذا المشروع ناجحًا وقتها وذلك لاستمرار انقطاع التيار الكهربائي، ودخول شهر رمضان الذي يعتبر موسما لرواج الثلج. احتياجه المعيشي، وارتفاع أسعار إيجار السكن، بالإضافة إلى ما تعانيه زوجته من مرض يتطلب عناية صحية، كل ذلك جعله يبحث عن أعمال أخرى من أجل توفير ما يسد احتياجه ولو بأقل من الحد الأدنى.
بملامح تملأها الحسرة وجسد لم يعد يتحمل حرارة الشمس، يقف فيصل السراجي لساعات طويلة في النهار أمام بسطته لبيع الثلج، وفي الليل يعمل في حراسة المحال التجارية جوار بسطة الثلج خاصته. غالبًا ما يلجأ فيصل إلى أعمال يومية أخرى، لكنها لا تكاد تكفي احتياجاته المعيشية والرعاية الصحية لزوجته، ناهيك عن المتطلبات الأخرى للأسرة. ومع ذلك، يرى أن هذه الحياة المضنية، "أفضل من الالتحاق بأي وسيلة إعلامية قد تكن محسوبة على أي طرف سياسي". ذلك أنه يخشى أن يخرج عن مساره الإنساني الذي عمل فيه لأكثر من 10 سنوات، طوال مشواره الصحفي.
لا يتوقف الأمر عند فيصل السراجي فقط، بل أجبرت الحرب التي طالت نيرانها عموم البلاد، الكثير من الصحفيين اليمنيين على ترك العمل في الصحافة والبحث عن أعمال أخرى. معظمهم لا يفضلون الحديث عن حالاتهم الإنسانية الصعبة والظروف القاسية التي يعيشونها مع عائلاتهم، كما لا توجد إحصائية رسمية موثّقة بعدد الصحفيين الذين فقدوا أعمالهم منذ بداية الحرب، لكنهم "كثير"، حسب ما صرح به نجيب العدوفي، سكرتير الحقوق والحريات في نقابة الصحفيين اليمنيين، لـ"خيوط".
العودة إلى القرية
في العام 2017، اضطر الصحفي جميل الردماني إلى العودة للقرية بعد أن توقف راتبه في إحدى الوسائل الصحفية التي كان يعمل فيها. يقول الردماني في حديثه لـ"خيوط" إنه لم يعد يستطيع تحمل تكاليف العيش في المدينة ودفع إيجارات السكن؛ الأمر الذي دفعه إلى السفر بصحبة عائلته إلى قريته الواقعة في عزلة بني يوسف، مديرية فرع العدين غربي محافظة إب.
يتكبد جميل مع أسرته مرارات العيش هناك، لكنه يرى أنها تبدو أفضل من البقاء في صنعاء بلا راتب أو فرصة عمل، ففي القرية لن تدفع إيجار مسكن، كما أن المعونات الإنسانية المقدمة من برنامج الأغذية العالمية، تخفف عنه وأسرته الكثير من المعاناة.
تعاني دعاء إبنة الردماني من إعاقة خلقية في قصر الساق الأيمن، بالإضافة إلى تسطح القدمين وخلع في الورك الأيمن، وحسب حديثة، فإنه كان من المقرر إجراء عملية جراحية لها قبل أن تصبح في الـ13 من عمرها، لكن الحرب وفقدانه للراتب، حالا دون ذلك، فهو لم يعد باستطاعته فعل شيء، لا سيما أنها بحاجة ماسة إلى رعاية صحية دائمة، وهو الآن عاجزا عن توفير تكاليف هذه الرعاية لها.
أعمال بديلة
طوال الأعوام السابقة لجأ الردماني إلى العمل في العديد من الأعمال الخيرية في قريته، رغم أنه كان يعاني من حالة إنسانية صعبة؛ بسبب توقف راتبه وعدم حصوله على أي عمل بديل، لكنه كان يرى أن الأعمال الخيرة التي كان يقوم بها لصالح أهالي القرية لن تذهب أدراج الرياح، ثم عمل في العديد من المبادرات الخيرية بمقابل مادي رمزي، لا يكاد يوفر منه شيئًا.
شعور الإحباط والهزيمة ظل يلاحق فارع بعدها في الكثير من الأماكن، خاصة عندما كان يبحث عن عمل في المنظمات الحقوقية وغيرها، فبمجرد أن يعرف المسؤول عن العمل أنه صحفي يرفضه من العمل أو يختلق له مشاكل تجعله يترك العمل
يصف الردماني سنوات الحرب والبطالة بأنه الأصعب في حياته، وفي الأشهر الأخيرة من العام الجاري 2021، تمكّن من فتح دكان صغير في القرية أعاره إياه أحد الأهالي، ويوجد فيه طابعة متواضعة وبعض الأوراق؛ ينسخ ويصور بعض الوثائق للناس هناك، بعد أن عمل عدة أشهر في طباعة وتصوير المستندات من المنزل.
يقول الردماني إن العمل في الطباعة موسمي، فهو معتمدٌ بشكل رئيس على تصوير أوراق اختبارات الطلاب في المدارس؛ لذا فإن الدخل قليل جدًّا، لكنه يسعى إلى أن يوسع عمله إلى مكتبة متكاملة.
لم يعد جميل يفكر بالعمل في المجال الصحفي الذي عمل فيه حوالي 13 عامًا، إذ يعتقد أنه "لم تتوفر جهة مسؤولة عن حماية الصحفيين من أي انتهاكات قد تحدث لهم.
رضوان فارع هو صحفي آخر رمته الحرب بعيداً عن مهنة الصحافة، بعد أن عمل حوالي 15 سنة في وكالة "سبأ" الرسمية للأنباء، وبعض الصحف والمواقع اليمنية والعربية.
بعد أن فصل بشكل نهائي من الوكالة اضطر إلى فتح كافتيريا في "جولة القاهرة" بعد خروج أنصار الله (الحوثيين) من عدن. لم يستمر في هذا المشروع أكثر من خمسة أشهر، لأن المعارك كانت تشتد بين قوات الحكومة المعترف بها دوليا و"التحالف العربي" بقيادة السعودية والإمارات وفصائل أخرى، وبالتالي كانت المنطقة التي تقع فيها الكافيتيريا، تغلق بين الفترة والأخرى.
رضوان فارع صحفي كان يعمل في وكالة الأنباء الرسمية "سبأ"، لكنه فُصل من عمله بصورة نهائية، فلجأ لفتح كافتيريا في مدينة عدن، لكنه خسر كل شيء بعد استحواذ مالك العقار الذي استأجره على المحل، ولم تنصفه الجهات الرسمية في المدينة
بعد ذلك لجأ فارع للبحث عن مكان آخر ليفتتح فيه مشروعه من جديد، وكان المكان الجديد في أحد أحياء "ساحل أَبْيَن" ضمن مدينة عدن أيضاً. خسر رضوان الكثير من ممتلكاته وتجهيزات الكافيتيريا بسبب الاشتباكات المتواصلة في المدينة، والكثير من تكاليف نقل المحل ونفقات التشغيل، لكنه لم يتوقف عن مشروعه.
غير أنه في العام 2018، خسر كل شيء، إذ استولى مالك العقار على مشروع رضوان وطرده خارج المحل. يقول رضوان إنه لجأ إلى الأمن والقضاء والشرطة، لكن لم ينصفه أحد"، وهكذا يعود إلى دائرة الصفر.
الصحافة لم تعد تؤكل عيش
شعور الإحباط والهزيمة ظل يلاحق رضوان بعد استيلاء مالك العقار، لكنه لم يستسلم لذلك الشعور، وظل يبحث عن عمل في المنظمات الحقوقية وغيرها. إذ كان يتم رفضه عندما يعرفوا أنه صحفي.
يقول رضوان في حديثه لـ"خيوط"، إنه حصل على الكثير من العروض للعمل في العديد من المؤسسات، لكن العروض كانت تأتيه من أطراف النزاع، وهذا ما جعله يبحث عن مشروع خاص به؛ فهو يرى أن العمل في إطار أطراف الصراع يخالف مبادئه وأخلاقيات المهنة.
مؤخرًا لجأ إلى العمل في بعض المواقع المحلية، والتي يكتب لها العديد من الأعمال الصحفية، لكن مقابلها المادي لا يسد شيئًا من متطلبات الحياة باهظة التكلفة، لكن فارع يعتبر أن المقابل المادي الذي يحصل عليه الصحفي المستقل "لا يؤكل عيش" حسب وصفه، وهذا ما يرغم الكثير من الصحفيين وفق حديثة، على ترك المهنة أو الانخراط في جبهات القتال، أو العمل لصالح وسائل إعلامية تتبع أطراف النزاع.
ينتقد فارع نقابة الصحفيين اليمنيين لعدم تضامنها معهم باعتبارهم أعضاء فيها وهي المسؤولة الأولى عنهم في مثل هذه الأوضاع. فيما يؤكد جميل الردماني أنه لم يلمس أي اهتمام من قبل نقابة الصحفيين منذ انقطاع الرواتب وفقدانه لعمله، رغم معرفة أعضاء النقابة بما يمرون به من ظروف قاسية.
في هذا الصدد يقول نبيل الأسيدي، عضو مجلس نقابة الصحفيين اليمنيين أن النقابة تبذل كل جهودها التي تستطيع فعلها بحدود إمكانياتها المحدودة جدًّا، وعلى رأسها مهام الدفاع عن الحريات الصحفية والوقوف ضد الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون وتوثيقها ورصدها وإبلاغ الجهات العربية والدولية المتخصصة بقضايا الصحفيين، وأنها "تسعى لمساعدة الصحفيين الأكثر تضررا، وتقديم المساعدات المخصصة لهم من المنظمات الدولية".
ويشير الأسيدي في حديثة لـ"خيوط"، إلى أن النقابة ليس لها أي ميزانية ولا مرتبات ولا أي دخل مادي، بالإضافة إلى تعرضها وفروعها للعديد من الانتهاكات؛ الأمر الذي جعلها تعمل في بنية صعبة ومعقدة، وهذا ينعكس سلبًا على الصحفيين.
جانب من المعاناة
جانب آخر من المعاناة تتجرعه عائلات الصحفيين المختطفين قسرا من قبل أطراف النزاع، إذ لا تزال جماعة أنصار الله (الحوثيين) تعتقل أربعة صحفيين محكوم عليهم بالإعدام، فيما لا يزال مصير الصحفي وحيد الصوفي مجهولا منذ العام 2015.
ولا يتوقف الأمر عند الاعتقالات التعسفية للصحفيين، بل حتى وصل الحال إلى التصفية والاغتيال دون ذنب سوى أنهم يمارسون مهنتهم. ففي منتصف العام 2020، تم اغتيال المصور الصحفي نبيل القعيطي أمام منزله في مدينة عدن، وقيدت الأجهزة الأمنية هذه الجريمة ضد مجهول.
ويعيش الصحفيون اليمنيون في الداخل أوضاعاً معيشية وإنسانية شديدة القسوة، في ظل الحرب القائمة وعدم توفر فرص العمل، بالإضافة إلى الملاحقات والانتهاكات التي يتعرضون من قبل أطراف الحرب، إذ تعتبر منظمات محلية ودولية، اليمن "من أسوأ بلدان العالم في حرية الصحافة والإعلام"، وأنها "الأسوأ عالميا للصحفيين".