لقد كان التخطيط المستدام نظامًا فعّالًا قبل مئات السنين؛ فاختيار اليمنيين القدامى للمناطق التي بنوا عليها مستوطناتهم وتخطيطهم لها قام على أسسٍ ومعايير محددة تمكّنهم من التكيف مع البيئة، وتأمين مستلزماتهم المعيشية من الموارد الطبيعية المتوفرة في الموقع ذاته. وفي جبلة التاريخية خير مثالٍ على التخطيط المستدام، ويبدو ذلك جليًّا في المعايير المتبعة في اختيار الصليحيين لها كموقع لبناء مستوطنتهم بقيادة الملكة أروى بنت أحمد الصليحي، التي وجدت فيها جميع العوامل المناسبة للاستقرار، وهي كما يلي:
العوامل الطبيعية: لقد تميزت جبلة بموقع طبيعي خصب، فكما ذكر أن "... مدينة إب وجبلة وما قرب منها يمينًا وقبلة، وفيها منافع لا تحصى وخيرات لا تستقصى" (ابن الديبع، ص85). وجبلة هذه من أكثر الأماكن خصوبةً في البلاد كلها بلا شك، وذلك لأنه لا تمر عليها ليلةُ بلا مطر أو من النادر أن يحدث هذا ويحصد الناس هنا القمح مرتين أو ثلاثًا في السنة، ويشاهد المرء هنا كل أنواع الفواكه، مثل: الكمثرى، والبرقوق، والعنب، وجوز الطيب، والموز، والمانجو، وما شابهها بكميات وفيرة. وعلى الإجمال فهي ناضرة خضراء طوال السنة (الصايدي، ص244).
وذكر ياقوت الحموي في معجمه أنها كانت تسمى (ذات النهرين)، وقال إنها من أحسن مدن اليمن وأنزهها وأطيبها. وأما الهمداني فقال عنها: "مواردها وفيرة، وهي متوسطة بين اليمن الأعلى والأسفل، وبها يخصب العيش، ويطيب المحل". ويضيف ابن المجاور أن مدينة جبلة تقع بين نهرين جاريين. وفي وصف نيبور لها في رحلته إلى اليمن (1861): "أنها تقع على وادٍ ضيقٍ وعميق، متخذةً شكلًا نصف دائري بمحاذاة الوادي، ويصل امتدادها في الطول إلى حوالي خمس مئة خطوة مزدوجة؛ أي تسع مئة متر تقريبًا، أما عرضها فتبدو ضيقة" (الأدهمي، ص164).
يجب أن ندرك مدى اهتمام اليمني القديم بالتخطيط "المستدام" -كما يسمى الآن- فمدينة مبنية من الحجر والتفاصيل البسيطة استمرت ما يقارب 1200 عام، محافِظةً على ملامحها الأصلية رغمًا عن الظروف الطبيعية
العوامل البشرية: وتظهر في أهمية الطبيعة البشرية والتكوين الاجتماعي في اختيارها كمكان إقامة عندما قالت الملكة أروى للمكرم محمد بن علي الصليحي: "أرسل يا مولانا إلى أهل صنعاء فليحتشدوا في غدٍ، وليحضروا إلى هذا الميدان"، فلما حضروا، قالت له: "أشرف عليهم، وانظر ماذا ترى"، فلم يقع بصره إلا على برق السيوف، ولمح البيض والأسِنّة، ثم لما توجهت إلى ذي جبلة قالت له: "احشد أهل ذي جبلة ومن حولها"، فلما اجتمعوا صبيحة اليوم الثاني، قالت: "أشرف عليهم يا مولانا"، فلم يقع بصره إلا على رجلٍ يحمل كبشًا، أو عاملًا يحمل ظرفًا مملوءًا بالسمن والعسل، فقالت له العيش بين هؤلاء أصلح (الأدهمي، ص156).
العوامل الأمنية: وذلك برز في اهتمامهم بالمخاليف (الجبال المرتفعة) كحصون. وحصن التعكر -الذي تقع جبلة على سفحه- وهو أعلى قمة في المنطقة، والذي يؤمن الحماية للمكان من أي خطر محدق.
ملامح الاستدامة في تخطيط جبلة التاريخية:
- الشوارع: تم تخطيط الشوارع بما يتلاءم مع طبوغرافية الموقع، ويسهل على المارّة التنقل بين أرجاء المكان، وتم رصفها بالأحجار تتخللها فراغات تسمح للأرض بأن تتشرب المياه الجارية على السطح.
- السواقي: وصلت المياه إلى جبلة بتقنية بسيطة تتلاءم مع طبوغرافية المسار، حيث تم رصف ممرات مائية تنحدر من المرتفعات باتجاه النهر مارةً بالقرى والحقول الزراعية في طريقها، فينتفع منها الجميع، وتوفر عليهم مشاق جلب المياه من الأماكن البعيدة.
- المدرجات الزراعية: تم تشكيل الجبال لتكوين المدرجات الزراعية، وتوفير أكبر قدر ممكن من الأراضي الصالحة للزراعة، وقد كان تخطيط المدرجات منسابًا مع الخطوط الكنتورية؛ مما جعل المنطقة أكثر جمالًا وسحرًا.
- الأسواق: أقيمت أسواق متعددة كل سوق يخص مهنة معينة، كسوق: (الحدادة، والنجارة، والفخار... إلخ)؛ مما يحافظ على نظافة البيئة.
- السماسر: أنشئت السماسر لاستقبال الغرباء الذين ينزلون في المنطقة لغرض التجارة، أو الاستطلاع أو عابري السبيل- بعيدًا عن المساكن لغرض الحفاظ على خصوصية الأهالي. ولم تكن لغرض النزل فقط، إنما للتبادل التجاري والثقافي بين الأهالي والزوار.
- المساكن: استخدمت مواد البناء المتوفرة في البيئة المحيطة كالأحجار والطين والأخشاب، وتم طلاء جدرانها بمادة القضاض.
وهكذا، فإننا يجب أن ندرك مدى اهتمام اليمني القديم بالتخطيط "المستدام" -كما يسمى الآن- فمدينة مبنية من الحجر والتفاصيل البسيطة استمرت ما يقارب 1200 عام، محافِظةً على ملامحها الأصلية رغمًا عن الظروف الطبيعية المختلفة، والتغييرات في ظل توجه سكانها لتحديث النمط المعماري، وإهمال السلطات.
المراجع:
- ابن الديبع، وجيه الدين عبدالرحمن بن علي بن محمد، قرة العيون في أخبار اليمن الميمون، تحقيق: محمد بن علي الأكوع.
-الأدهمي، محمد مظفر، تاريخ إب؛ دراسة لمدينة إب وما حولها، منشورات جامعة إب، (2007).
- الصايدي، أحمد قايد، المادة التاريخية في كتابات نيبور عن اليمن، بيروت.