يبدأ فصل الربيع في صنعاء وحضرموت في 13 من يناير، أما في تهامة وعدن فيبدأ من آخر يوم في ديسمبر. الحديث هنا ليس عن الربيع الموسم مولد الجمال والحياة وتجدد الطبيعة وازدهار الحياة المرتبط في الميثولوجيا العالمية بولادة أدونيس والسيد المسيح، وازدهار الأرض وخصوبتها وثراها، ودورة الحياة المتجددة كل عام بعد موات الشتاء، وإنما الحديث الفاجع عن 13 يناير في جنوب الوطن، التي لا يزال الوطن يعاني ويلاتها حتى اليوم.
في 13 يناير من العام 1986، تفجر الصراع في عدن بين الإخوة الأعداء في الحزب الاشتراكي. كانت 13 يناير 1986، الانعطافة الأكثر خطورة في صراع الرفاق في الحزب الاشتراكي اليمني.
تكون الحزب الاشتراكي أو تأسس من قيادات الكفاح الوطني في الشمال والجنوب؛ ففي اليمن، ومنذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، تأسست الأحزاب الحديثة والنقابات العمالية موحدة في عدن، وقادت الجبهة القومية "حركة القوميين العرب" الكفاحَ ضد الاستعمار البريطاني، ابتداءً من الرابع عشر من أكتوبر 1963.
وفي مسار العملية السياسية، وبعد الاستقلال، وبعد الحركة التصحيحية 1969، اتحدت ثلاثة أحزاب: الجبهة القومية، وحزب الطليعة الشعبية في الجنوب، والاتحادي الشعبي الديمقراطي.
في المرحلة الثانية، وتحديدًا في 14 أكتوبر 1978، توحدت الفصائل الخمس الموجودة في الشمال: الحزب الديمقراطي الثوري، والطليعة الشعبية، واتحاد الشعب الديمقراطي، وحزب العمل، والمقاومون الثوريون مع التنظيم السياسي الموحد، وكانت هذه الفصائل الخمس قد توحدت في حزب الوحدة الشعبية، ولكنها -أي الفصائل الخمس- بصورة أو بأخرى كان لها ارتباط بالفصائل في الجنوب.
مر خمسة وثلاثون عامًا على أحداث يناير، ومر بالوطن اليمني كوارث ليست أقل دموية وكارثية من أحداث يناير كحرب 94 ضد الجنوب، وحروب صعدة الستة، وانقلاب الـ21 من سبتمبر 2014. هذه الكوارث المتسلسلة والمتناسلة تجد حسبها في يناير 86، وتمتد إلى أحداث أغسطس 1968، في صنعاء، وفي حروب المناطق الوسطى، وحربي 72 و79.
كارثة يناير 86 كعب أخيل في تجربة الحزب الاشتراكي واليسار القومي كله، وللأسف الشديد لم يقف الحزب الاشتراكي وقفة نقدية إزاء جذور الأزمة وأسباب ومسببات الكارثة.
أليس مفارقة راعبة أن يكون يوم الربيع هو يوم انبجاس الدم؟ والمأساة الأكبر أن اليمن وبسبب الحروب الأهلية المتناسلة التي لا تزال تقوى وتتصاعد وتُجدد لتكون أسوأ كارثة على وجه الأرض.
من المساءَل في اليمن اليوم وبعد أكثر من ثلث قرن على 13 يناير؟ إن ما حدث مسؤولية كل اليمنيين شمالًا وجنوبًا، وبالدرجة الأولى مسؤولية قيادات وقواعد الحزب الاشتراكي، وعليهم طرح السؤال، والبحث والتنقيب عن إجابة كل قيادات وقواعد الحزب الاشتراكي في الشمال والجنوب، وبالأخص القيادات التي كانت طرفًا في الحرب وفي صنع المأساة، ولا بد أن تطرح على نفسها السؤال الكبير والخطير:
ما الذي دفع إلى ما جرى؟ ماهي الجذور الواقعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للوصول إلى الصدام؟ وهل الأمر محصور في صراع طرفين في الحزب، وعلى رغبة كل طرف في التفرد بالحكم؟ وهل للصراع مع الأطراف الأخرى المنافسة عبر الكفاح الوطني ضد الاستعمار دخل في الصراع؟
هل 13 يناير معزول عن سياق دامٍ داخل الجبهة القومية؟ وهل الصراع في الجنوب معزول عن الصراع في الشمال؟ وما مدى ترابط صراع اليوم بالأمس؟
هل كان التوحيد هروبًا من الصراع؟ وهل يكون الانفصال مخرجًا من صراع محتدم بين الجنوب والجنوب، وبين الشمال والشمال، وبينهما كحال الأمس نفسه؟
كيف الخلاص من 13 يناير، ومن حرب 94، وحرب اليمن المتواصلة والمتناسلة منذ الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر؟
لا شك أن للأوضاع العربية، وهزيمة 67، وانهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية علاقة بما حدث في يناير 1986.
وجه الحزب الاشتراكي انتقادًا مريرًا لتجربته، ولا يزال مطالبًا باستمرار دراسة تجربته، والحفر عميقًا في تجربة هي من الأزهى والأكثر ثورية وتقدمية في تجارب الثورات العربية وحركات التحرر الوطني العالمية.
هناك قراءة تتسم بالعمق والجذرية لأحداث يناير، وبالأخص ما كتبه الزميل منصور هايل "أطياف عدن؛ هذيان الحطب"، ورواية السارد الكبير أحمد زين "فاكهة للغربان". الإمبريالية والرجعيات العربية بقيادة السعودية مساءلة أيضًا عن الأوضاع في اليمن الديمقراطية قبل أحداث يناير، وكان للحصار، وفرض العزلة، والمكائد الكبيرة دخل في تفجير الأوضاع، ودعم الحرب ضدها بعد أكثر من ثلث قرن على الأحداث المرعبة.
وبعيدًا عن الاتهامات الجزافية، فإن قراءة ما جرى، والفهم لمأساة التصارع على الحكم، يظل تحكيم السلاح في كل شيء، وجعله الوسيلة المثلى والوحيدة للوصول إلى الحكم، ولامتلاك القرار السياسي، والانتصار على الخصم- كارثة الكوارث كلها.
لم يتمكن اليمنيون كإخوانهم العرب من الاحتكام إلى الديمقراطية رغم الدعاوى الطويلة العريضة، ولم يتعافوا من غائلة ووباء الغلبة والقوة، وهناك خلط راعب بين الكفاح القومي ضد الاستعمار، وبين الخلافات الداخلية بين الأطراف السياسية وبين مختلف الشرائح والفئات ذات الاتجاهات والمصالح المتعارضة؛ فالخلافات بين صفوف الشعب كما يسميها ماو، هي خلافات ثانوية لا تحل ولا تحسم بالسلاح.
صحيح أن القوى الفاسدة والمستبدة هي من يحتكم إلى السلاح، ويفرض الحرب من أعلى ضد الشعب، ولكن الانجرار للحرب الأهلية هو الخطر الذي تعاني منه اليمن شمالًا وجنوبًا شرقًا وغربًا، ولا حل غير الحوار، وقبول اليمني باليمني، وأن يترك لليمنيين حرية اختيار حكمهم وحكامهم بدون الاحتكام للسلاح أو التدخل الخارجي.
أليس مفارقة راعبة أن يكون يوم الربيع هو يوم انبجاس الدم؟ والمأساة الأكبر أن اليمن وبسبب الحروب الأهلية المتناسلة التي لا تزال تقوى وتتصاعد وتُجدد لتكون أسوأ كارثة على وجه الأرض.
13 يناير 1986، وحرب 1994، وحروب صعدة الستة 2004، وحروب متواصلة منذ انقلاب 21 سبتمبر هي الكارثة، وتدخل الصراع الإقليمي الإيراني-السعودي، والدعم الأمريكي يطيل أمد الحرب، ويصب الزيت في طاحونتها.