يبقى تاريخ 13 يناير 1986 في اليمن، المحطةَ الدموية الفاجعة في تاريخ الصراع السياسي الذي شهده الجنوب منذ عشية استقلاله في 30 نوفمبر 1967 حتى 22 مايو 1990- قيام دولة الوحدة بين شطري اليمن.
بدأت محطات الاقتتال باكرًا بين الجبهتين القومية والتحرير، مطلع نوفمبر من ذات العام، وفي الأمتار القليلة المتبقية لنيل الاستقلال؛ وأدّى حسم الجبهة القومية لمعركة عدن، على حساب منافِستها جبهة التحرير، إلى تسلُّمها السلطة بعد رحيل المستعمر البريطاني.
في 22 يونيو 1969، تمّت إزاحة أول رئيس للبلد المستقل قحطان الشعبي، وإلى جانبه فيصل عبداللطيف وبعض القيادات العسكرية والمدنية، ليتولّى التيار الراديكالي (اليسار المتشدّد) مقاليد الحكم برئاسة سالم ربيع علي (سالمين) الذي كان متشيِّعًا للتجربة الماوية في عملية التحوّل الثوري في بلد مثقل بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية. وفي 26 يونيو 1978، تمت تصفية سالمين وإزاحة التيار القريب منه، وتولّي عبدالفتاح إسماعيل الرئاسةَ وقيادة الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ الذي تأسّس في أكتوبر 1978، كبديل للتنظيم السياسي الموحد (الجبهة القومية) على أسس لينينية ماركسية. في أبريل 1980، تمت إزاحة عبدالفتاح إسماعيل من الرئاسة وقيادة الحزب، وإمساك علي ناصر محمد بمقاليد الحكم وكلّ السلطات (رئاسة الوزراء والحزب ومجلس الرئاسة).
تكثيف كلّ السلطات بيده، أوجدَ تيارًا معارضًا له ولسياساته الخارجية المنفتحة التي رأى فيها خصومُه، وعلى رأسهم (علي عنتر)، انحرافًا في مسار التجربة الثورية؛ عاد علي عنتر وتصالَحَ مع عبدالفتاح إسماعيل عشية مؤتمر الحزب في 14 أكتوبر 1985، وأعاده من منفاه في موسكو، ليكون ساندًا له في صراعه مع علي ناصر.
حاول مؤتمر الحزب بالتحالفات الجديدة، تفكيك سلطات علي ناصر محمد، ومنها إبعاد حلفائه من الدوائر الحزبية ذات الثقل والتأثير السياسي والتنظيمي. لم يحسم أمر الكثير من الموضوعات الشائكة خلال الأشهر الثلاثة التي أعقبت المؤتمر، ومنها الدائرة التنظيمية للحزب، التي كان مقرّرًا التصويت عليها في اجتماع المكتب السياسي صبيحة 13 يناير 1986، قبل أن تحدث مقتلة المكتب السياسي، حينما فتح حراس الرئيس علي ناصر النارَ على خصومه قبيل الاجتماع، فقُتِل علي عنتر- نائب الرئيس، وصالح مصلح قاسم- وزير الدفاع، وعلي شائع هادي- رئيس دائرة الرقابة، ونجا منها: علي سالم البيض، وعبدالفتاح إسماعيل، غير أنّ الأخير لا يزال مصيره مجهولًا حتى اليوم.
بعد هذه المقتلة، اشتعلت العاصمة عدن بحربٍ طاحنة بين أنصار التيارين لأكثر من عشرة أيام، راح ضحيتها ما يزيد على خمسة آلاف شخص من كوادر الحزب والدولة، ونزوح قرابة مئة ألف شخص من العسكريين والمدنيين الموالين للرئيس علي ناصر، إلى مدن الشطر الشمالي.
أغلب هؤلاء العسكريين كانوا في صيف العام 1994، ضمن تحالف اجتياح الجنوب، الذي تشكّلَ في ذروة الأزمة بين شريكي دولة الوحدة (المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي)، وكان لهم الدور الأكبر في إخضاع المحافظات الجنوبية لسلطة التحالف الجديد المشكّل من قيادات عسكرية وقبَلية وجماعات دينية متشدّدة من الشمال والجنوب.
تُعيد "خيوط"، نشرَ أجزاءٍ من روايتَي الرئيس علي ناصر محمد، والراحل جار الله عمر، حول أحداث يناير الدموية، لوضع القارئ في صورة الحديث من زاويتَي نظر التيارَين المتصارِعَين.
"إنّ سؤالًا مثل: من بدأ بإطلاق النار؟ أو من أطلق النار على من أوّلًا؟ يبدو سؤالًا ساذجًا لا معنى له. إنّ هذا كله لعب بالألفاظ والمسميات. واقعُ الأمر أمامنا يقول إنّ ما حدث كان بحجم الأسباب المتوافرة قبله لدى أطرافه جميعًا، سواء الأطراف المحلية أو أولويات القوى الخارجية النافذة التي عكست نفسها على أوضاعنا الداخلية؛ إذ فقدت الأطراف المحلية توازنها، ولم تعد تعرف كيف تميز بين المصلحة الوطنية، ومصلحة الغير، وتقدّم الأخيرة على الأولى في معظم الأحوال"- الرئيس علي ناصر محمد
رواية علي ناصر محمد(*)
كلُّ الظروف كانت مهيئة لِمَا حدث في 13 يناير 1986، وكل الأسباب التي كانت تحتمه كانت جاهزة، وأتذكر أنّني بعد الأحداث مباشرة، قلت للذين سألوني بإلحاح: لماذا حدث ما حدث؟
إنّ الأحداث التي وقعت في 13 يناير 1986، كان يمكن أن تحدث قبل هذا التاريخ أو بعده، وليس المهم من أطلق الطلقة الأولى، فليست الأحداث وليدة اللحظة، بل هي تراكم بلغ مداه، واختلالات اتخذت أشكالًا عديدة من الصراعات السياسية التي كانت سرعان ما تتطور إلى أشكالٍ من العنف أكثر من أيِّ عنصرٍ آخر لتأكيد تفوّق الأقوى وتعزيزه، وهذا منطق خطِر، وقد قادنا إلى صراعات مستمرّة منذ قيام الدولة في الجنوب، ولم يكن الحال في الشمال أفضل من ذلك، إذ مرّ بسلسلة من الصراعات هو الآخر.
لم تكن الأسباب دائمًا محلية فقط، بل أسهمت فيها أيضًا جهات عديدة خارجية: إقليمية، ودولية؛ لأنّ مصالحها أصبحت أكثر تأثيرًا في المصالح الوطنية، وصار كثيرٌ من الخيوط في أحوالنا تتمسّك بها القوى الخارجية التي لا تعرف لنفسها حدودًا عندما يمس ما تعتقده بأنه مصالحها، وهذه القوى تعكس نفسها على أحوالنا، والمصيبة أنّها تجد دمى وأدوات محلية تحركها في الوقت المناسب لتأجيج الصراع.
ولفت نظري أنّ معظم الحراب وُجِّهَت إلينا عندما بدأنا نتجاوز الدائرة الحمراء غير المسوح بتجاوزها في ذلك الوقت، كالعمل في أجل تحقيق الوحدة اليمنية بالطرق السلمية، والاستقلال بالقرار الوطني، والتمسُّك بالسيادة الوطنية، والتعامل ندًّا لندّ مع كلّ الدول: صغيرة كانت أو كبيرة، عربية أو أجنبية، والحقيقة أنّنا كنّا نسعى لعلاقات ممتازة مع السوفيت دون أن نكون رهينة لهم أو لغيرهم في المنطقة.
والواقع أنّ ما حدث في 13 يناير 1986، وخروجنا من السلطة بنتيجتها، كان يعني، بمعنى من المعاني، أنّنا كنّا ندفع ثمن تلك السياسة الوطنية التي التزمناها، ما عُدّ في نظر الآخرين تجاوزًا للدائرة الحمراء التي لا يجوز لأحد الاقتراب منها، فضلًا عن تجاوزها، كما أكّد ذلك وزير إعلامهم محمد جرهوم، للرئيس الإثيوبي منجستو هيلا مريام.
لهذا، إنّ سؤالًا مثل: من بدأ بإطلاق النار؟ أو من أطلق النار على من أولًا؟ يبدو سؤالًا ساذجًا لا معنى له. إن هذا كله لعب بالألفاظ والمسميات. واقع الأمر أمامنا يقول إنّ ما حدث كان بحجم الأسباب المتوافرة قبله لدى أطرافه جميعًا، سواء الأطراف المحلية أو أولويات القوى الخارجية النافذة التي عكست نفسها على أوضاعنا الداخلية؛ إذ فقدت الأطراف المحلية توازنها، ولم تعد تعرف كيف تميّز بين المصلحة الوطنية، ومصلحة الغير، وتقدّم الأخيرة على الأولى في معظم الأحوال.
حضر وفدٌ سوفيتي إلى إثيوبيا والتقى بالرئيس منجستو، وأخبره أنّ علي ناصر هو من بدأ بإطلاق النار، وأجابهم منجستو: "كنتم قد نصحتم عبدالناصر في 1967، بألّا يبدأ بإطلاق النار، وضربت مطاراته وطائراته على الأرض، وما زالت مصر ودول المنطقة العربية والأفريقية كلُّها تدفع ثمن هذه النصيحة، فهل كنتم تريدون من علي ناصر أن يسلّم رأسه؟".
كلّ هذا الآن من باب تحصيل الحاصل، ولا يغيّر من الأمر شيئًا؛ لأنّ الذي حدث قد حدث، وكان لا بدّ له أن يحدث بعدما توافرت كل أسبابه وظروفه؛ ولأنّ الذين بذلوا جهودًا للحيلولة دون ما حدث -وكنّا من ضمنهم- لم يستطيعوا ذلك، ولأنّ الذين شنّوا الصراع المرير بكل الوسائل، واستعرضوا واستخدموا تفوّق القوة العسكرية من أجل الاستئثار بالسلطة، كانوا أول ضحاياه، ولذلك يكون من المنطق والعدل عدم إلقاء اللوم والمسؤولية على أحدٍ بعينه، أو نقلها إلى أطراف أخرى؛ لأنّ كلَّ الأطراف تتحمل مسؤولية ما حدث، بمن فيهم نحن الذين كنّا أوّل من حاول الحيلولة دونه، وأول من دفع الثمن.
وأنا أول من اعترف بذلك في وقت مبكر، وإن لم يملك الآخرون الشجاعة للاعتراف بهذه الحقيقة البديهية، ولو حدث هذا لأمكن تجاوز كثيرٍ من الآثار السلبية الناجمة عن أحداث 13 يناير، ولَأصبحَت الطريق ممهّدة لاستعادة الوحدة الوطنية على أسّس صحيحة، في وقت مبكر.
لذلك إنّ ما قلته عن: (من بدأ بإطلاق النار أولًا؟)، إنّما هو جزء صغير جدًّا من المشكلة، وعندما يركز أحدٌ على جزء من مشكلة كبيرة ناسيًا بواقيها، فهو يظهر خطأه إن لم يكن على ضلال أو الاثنين معًا. لقد انطلقت نيران كثيرة قبل 13 يناير، ونيران أكثر منها بعد 13 يناير، وحتى كتابة هذه المذكرات.
ومنذ بداية الأزمة، قدّمنا الجزء الأكبر من التنازلات السياسية، وكنتُ أقول: حتى إذا لم يبقَ سوى خمسة في المئة من فرص النجاح لتفادي الكارثة الوشيكة، فأنا على استعداد للحوار، ولو كانت النسبة تقل عن ذلك؛ فقد كنّا نرى في الحوار والتفاهم السياسي سلامةً نسبيّة للبلد تفوق حجم أيّة فوائد قد يجنيها أيّ طرف بالقوة المسلحة، وكنّا نردّد حينها أنّ المنتصر مهزومٌ في هذا الصراع.
وسبق أن أشرت إلى جهود بعض الجهات السوفيتية في التوسط، وإلى محاولات إيجاد حلٍّ سِلمِيّ، وإلى الدور السلبي للاستخبارات السوفيتية (كي جي بي) في الأحداث. يقول بريماكوف: "إنّ (علي ناصر) قد كبر أكبر ممّا ينبغي، وإنّنا لو سمحنا له بالاستمرار خمس سنوات أخرى في الحكم، فلن يستطيع أحدٌ أن يتحكم في تصرفاته أو السيطرة عليه". وهكذا يتضح أنّ السيطرة على الرئيس كانت مطلبهم.
وكانت آخر محاولات تجنُّب الكارثة والوصول إلى حلول للمصالحة، هي التي حاول القيام بها كلٌّ من الأستاذ محمد عبده نعمان، والأستاذ عمر الجاوي، والدكتور عبدالرحمن عبدالله مع عبدالفتاح، لكن هذا الأخير لم يرفض الفكرة من حيث الأساس فحسب، لكنه رفض أيضًا استقبال هؤلاء الرجال المخلصين الذين كان قلبهم على البلد والشعب، وكان عمر الجاوي الوحيد الذي تمكّن من مقابلته يوم 9 يناير 1986، وبعد حوار طويل معه، قال عبدالفتاح في نهايته: "لقد اختلّت الخريطة السياسية لمصلحتنا، ولا يمكنني التفاهم معه ولا أن أمدّ يدي إليه" (يقصدني).
لقد أكّدتُ أنّنا جميعًا مسؤولون عمّا حدث منذ 1969، وحتى أحداث 1986، وأنّ المنتصر فينا كان مهزومًا في كلِّ الأحوال؛ إذ إنّ لي رفاقًا وأصدقاء في كلا الطرفين تربطني بهم رفقة عمر وأواصر صداقة ومحبّة وعلاقات كفاحية، لهذا أعتبر نفسي خاسرًا، وليس هناك أيُّ طرف يزعم أنّه حقّق انتصارًا.
وبصرف النظر عن الخلاف السياسي، فإنّ علاقتي كانت طيبة بالعديد منهم، رغم أنّني واجهت مشاكل كثيرة معهم، كذلك فإنّ علاقتي بالآخرين لم تكن سيئة دومًا، وقد تصالحت فيما بعد مع العديد من أولئك الذين اختلفوا معي، والذين حكموا عليَّ بالإعدام. التقينا لاحقًا على طاولة واحدة، وعلى مائدة واحدة في دمشق والقاهرة وأبو ظبي، ولكن بعد خراب عدن وضياع الدولة.
وحول مصير عبدالفتاح إسماعيل، يقول علي ناصر محمد في سياق روايته:
"في العاشر من فبراير 1986، أصدر ما بقي من المكتب السياسي في عدن، روايته عن مقتل عبدالفتاح إسماعيل، لكن القصة التي رواها زادت البلبلة، وعمّقت الغموض بدلًا من إعطاء صورة دقيقة عن الطريقة التي انتهى بها عبدالفتاح وفارقَ الحياة.
كانت القصة ملفّقة من أساسها وغير صحيحة، كما سيتضح، وبدلًا من أن تُظهر الحقيقة، خلقت مزيدًا من التساؤلات والأحجية التي تبحث عن جواب.
جاء في البيان المشار إليه، أنّ عبدالفتاح إسماعيل استشهد مساء يوم 13 يناير 1986، بفعل احتراق المدرعة التي جاءت لإنقاذه، والتي أخرجته من مبنى اللجنة المركزية، وقال البيان إنّ وابلًا من نيران القذائف انهالَ على المدرّعة التي كانت تُقِلّه، وجاء في رواية لجنة التحقيق في مقتل عبدالفتاح التي شكّلها المكتب السياسي برئاسة العضو صالح منصر السيلي، أنّه لقيَ مصرعه أمام القاعدة البحرية التي تبعد عن مبنى اللجنة المركزية نحو ثلاث مئة متر، وذلك في يوم 13 يناير 1986، عندما ضربت الدبابة التي أخرجته من قاعة اجتماعات المكتب السياسي في مبنى اللجنة المركزية، بقذائف آر بي جي.
أثارت هذه الرواية تساؤلات؛ لغرابتها، خاصة أنّ وقائع كثيرة قيلت قبل ذلك، وكلُّها تشير إلى أنّ عبدالفتاح إسماعيل كان لا يزال آنذاك على قيد الحياة، وأنّه لم يقضِ نحبه عند خروجه من المكتب السياسي كما ورد في بيان المكتب السياسي.
فأين قُتِلَ عبدالفتاح، ومتى، ومن الذي قتله؟
نورد رواية فوزية جوباني- مديرة المراسم في سكرتارية اللجنة المركزية، وكانت شاهدة عيان، وجاء فيها ما يأتي: "كنّا أمام النافذة أنا ومبارك [قائد حراسة علي ناصر محمد]. دخلت دبابة، ووقفت، وكان معها مشاة من الجنود. خرج علي سالم البيض، ودخلت الدبابة، وعبدالفتاح أخذه اثنان من الجنود، وهو جالس على أيديهما، وأدخلاه الدبابة، وكان معهم يحيى الشامي، وأحمد علي السلامي، وعبدالغفور، يمشون على الأقدام، وخرجت الدبابة، ولم نعرف بعد ذلك أيَّ شيء".
جاءت رواية المكتب السياسي واللجنة المركزية التي شكّلها للتحقيق في مقتل عبدالفتاح، لتزيد من غموض موته، وزاد من غموض ذلك أنّ إذاعة الطرف الآخر التي كانت تُبَثُّ من لحج، أوردتْ في أخبارٍ متفرقة أنّ عبدالفتاح اتصلَ هاتفيًّا بالسفير السوفيتي في عدن مساء يوم 13 إلى 17 يناير 1986، وقد أكّد السفير واقعة الاتصال للرفيق أبو فراس- ممثّل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الذي كان في السفارة السوفيتية ضمن لجنة الحوار، وكان القادة السوفيت قد وجّهوا إلى دعوة للقاء بعبدالفتاح في موسكو في محاولة لإنقاذ الموقف في البلاد، بعد أن خابت كلُّ محاولات وقف المعارك وإطلاق النار. كذلك، فإنّ شهادة وزير التجارة والتموين أحمد عبيد الفضلي الذي أكّد فيها أنّ السوفيت أبلغوا حيدر العطاس الموجود في موسكو حينها في يوم 20 يناير 1986، بأن الرئيس علي ناصر محمد، وعبدالفتاح إسماعيل، سيصلان إلى موسكو، وهذا معناه أنّه كان لدى السوفيت معلومات مؤكّدة عن أنّه ما زال على قيد الحياة.
والأمر الآخر الذي يؤكّد أنّ عبدالفتاح لم يقضِ نحبه بفعل احتراق المدرّعة التي كانت تقلّه، أنّ سالم صالح محمد في لقائه بالسفير الإثيوبي في عدن يوم 20 يناير 1986، أبلغه أنّ البيض، وعبدالفتاح مصابان، ويتلقيَان العلاج في مستشفى باصهيب العسكري، وطلب سالم صالح من السفير علاجهما في إثيوبيا، ووجّه برقية إلى الرئيس منجستو عبر السفير الإثيوبي في عدن يشكره فيها على موقف إثيوبيا، وهذا الطلب يعني شيئًا واحدًا؛ أنّ عبدالفتاح كان لا يزال حيًّا عندما تقدّم سالم صالح بطلب علاجه في إثيوبيا.
كل هذه التأكيدات تكذّب رواية المكتب السياسي ولجنة السيلي.
لا شكّ في أنّ هناك حقائق أخرى خلاف ما قيل في البيانات والبلاغات الرسمية والوقائع، عنيدة لا تقاوم كما يقال، وكما قال ويليام شكسبير: "إنّ الحقيقة يمكن أن تدفن، ولكنها لا يمكن أن تموت"، والحقيقة تقول: إنّ عبدالفتاح لم يُقتَل داخل اجتماع المكتب السياسي، ولا قُتل محترقًا داخل دبابة جاءت لإنقاذه.
الاستنتاجات من تقرير لجنة التحقيق، برئاسة صالح منصر السيلي، تقول:
احتوت المدرعة على أربعة أفراد، وأربعة مسدسات، وبندقية كلاشنكوف واحدة.
نجا من أفراد طاقم المدرّعة، شخصان؛ القائد والسائق.
وُجِدَت جثتان؛ إحداهما تميز أنّه مدفعي.
وُجِد مسدسَا ماكاروف، وهما موجودان لدى أمن الدولة، وفُقِد مسدسان؛ أحدهما ماكاروف، والآخر أصغر. هذا يعني أربعة مسدسات.
جثتان محترقتان سحبتهما جماعةُ الدفاع قبل وصول اللجنة إلى الموقع بأيام، ومن بقايا الجثتين رماد وأسنان وخوذة بجانب حائط السور، يستنتج أنّها لمدفعي المدرعة.
بناء على ما ورد أعلاه، يُخشى أنّ الجثة التي سُحِبت ولم يجرِ التعرُّف إليها، هي جثة الرفيق عبدالفتاح، خاصة أنّه لم يُعرف أيُّ دليلٍ آخر على خروجه من المدرعة وقت الحادث، وحدوث إصابة في رجله قبل انفجار المدرعة؛ ما يعوق حركته، وسماع الأنين عند حدوث الانفجار مباشرة، ولم يقترب أحد من المدرعة لحظة انفجارها، وخلال فترة احتراقها لمدة ساعتين.
وقد أكّدت لي السيدة شريفة زوجة عبدالفتاح إسماعيل، أنّه كان يتحدّث معها عبر الهاتف خلال الأيام الثلاثة التي تلت الأحداث، وأنّه كان على اتصال مع السفير السوفيتي، وفجأة توقف عن الاتصال؛ وهذا يُثبِت أنّه لم يُقتَل في الأيام الأولى للأحداث، أمّا ابنه صلاح عبدالفتاح إسماعيل؛ فقد أخبرني في لقاء معه في دمشق أنّه زار علي البيض في أحد المستشفيات في موسكو، حيث كان يتلقّى العلاج، وما أن شاهده البيض حتى نهض، وسقط عن السرير، وتغيّرت ملامحه، وطلب إخراجه على الفور، حيث إنّه دخل دون إذن أو إشعار مسبق؛ وهو ما أثار الشكوك في رأس صلاح عبدالفتاح؛ علمًا أنّ الزيارة كانت بغرض الاطمئنان إلى صحة البيض، والاستفسار عن مصير والده.
"تطوّرت الأزمة تدريجيًّا، وأخذ كلُّ طرفٍ يعمل على توسيع نفوذه في الحزب والجيش، ويسعى إلى تقليص نفوذ الطرف الآخر. في البَدء، كانت الأزمة محصورةً بعددٍ ضيّق من الأفراد، ثمّ أخذت تخرج إلى العلن وانتشرتْ في الصحافة الخارجيّة. هنا اتّسع نطاق التدخّل من الخارج، سواءٌ من البلاد العربية أو من الكتلة السّوفياتيّة أو الأحزاب الشيوعيّة. كان بعض المتدخّلين يحاول حلّ الأزمة، فيما بعضهم الآخر ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك. بسبب غياب تقاليد ديمقراطيّة داخل الحزب لحلّ الخلافات بوسائل سلميّة، وغياب التعدّدية الحزبيّة- بدأَ كلُّ طرفٍ يفكّر بكسب ولاء الجيش والقوّات المسلّحة، وانتقل الصراع إلى داخل الجيش والأمن"– جار الله عمر
رواية جار الله عمر(**)
تعود جذور أزمة يناير/ كانون الثاني 1986، إلى الأحداث والصّراعات السّابقة التي كانت تخلّف ضحايا ويتولّد عنها منتصرون ومهزومون، ولا تعالج الانشقاقات والصراعات عن طريق الديمقراطية؛ لذلك ترتّبت عليها مخالفات نفسيّة واجتماعيّة وحزبيّة كبيرة.
نموّ الاستقطاب
عندما خرج عبدالفتاح إسماعيل من السّلطة، انقسمت المجموعة الحاكمة بين قطبين رئيسَين: الأمين العامّ ورئيس مجلس الرئاسة علي ناصر محمّد من ناحية، ونائبه علي أحمد ناصر عنتر من ناحية أخرى. ويعود الخلاف برأيي إلى نقطتين رئيستَين:
الأولى، كيفيّة إدارة الصلاحيّات والسلطة، بالإضافة إلى حالةٍ من انعدام الثّقة بين الطّرفين. وفي مجرى النّزاع، نُحِّيَ علي عنتر بصفته وزيرًا للدّفاع، لكنّه ظلّ مؤثّرًا في الجيش والأمن.
والثّانية: تمثّلت في الاختلاف الأيديولوجيّ حيث تكوّن تيّارٌ يساريّ داخل الحزب يُعارِض سياسة الانفتاح الداخليّة والخارجيّة التي كان يمارسها الرئيس علي ناصر محمّد، على اعتبارها أدّتْ إلى فتْح المجال أمام عودة البرجوازيّة، وأثّرت في الطّهارة الثوريّة لمناضلي الحزب.
إلى جانب هذين السّببَين، أسبابٌ فرعيّةٌ؛ منها خوف كلّ طرفٍ من الآخر، ومن أنّ تَوسُّع نفوذ الواحد سوف يكون بالضّرورة على حساب الآخر، ويُضاف إلى هذا ضغط المتطلّبات الحياتيّة على النّاس، وعدم تحقيق الطّموحات والإصلاحات الاشتراكيّة واليساريّة الموعودة. ولعب الحصار الخارجيّ دوره، إلى جانب التّبايُن في السياسة تجاه الشمال، هل تكون سياسةً تثويريّة أم سياسةَ تصالُحٍ وتهادُن؟ وهل يتعيّن على الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ أن يقف إلى جانب فرع الحزب في الشمال والجبهة أم لا؟
تطوّرَت الأزمة تدريجيًّا، وأخذ كلّ طرفٍ يعمل على توسيع نفوذه في الحزب والجيش، ويسعى إلى تقليص نفوذ الطرف الآخر. في البَدْء كانت الأزمة محصورةً بعددٍ ضيّق من الأفراد، ثمّ أخذت تخرج إلى العلن وانتشرتْ في الصحافة الخارجيّة. هنا اتّسع نطاق التدخّل من الخارج، سواءٌ من البلاد العربية أو من الكتلة السّوفياتيّة أو الأحزاب الشيوعيّة. كان بعض المتدخّلين يحاول حلّ الأزمة، فيما بعضهم الآخر ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك. بسبب غياب تقاليد ديمقراطيّة داخل الحزب لحلّ الخلافات بوسائل سلميّة، وغياب التعدّدية الحزبيّة- بدأ كلّ طرفٍ يفكّر بكسب ولاء الجيش والقوّات المسلّحة، وانتقل الصراع إلى داخل الجيش والأمن. طبعًا نحن في المكتب السياسيّ لحزب الوحدة الشعبيّة (حوشي)، تَوزّع معظمنا في المراحل الأولى على الطّرفين، ولكنّني وقفْتُ على حيادٍ مع بعض الإخوان في المرحلة الأولى. لم نساند أيَّ طرفٍ وكنّا نحاول حلّ الأزمة سلميًّا. ومن بين الحياديّين جار الله عمر، الأمين العامّ لـ«حوشي»، ويحيى الشامي، وأحمد علي السلامي؛ العضوان في المكتب السّياسيّ. أمّا بقيّة الإخوة فقد توزّعوا بين الكتلتين المتنازعتَين. وكان في قيادة الجنوب شخصٌ محايدٌ كنّا ننسّق معه؛ هو صالح مصلح قاسم، وزير الدّفاع الذي كان مُصِرًّا على الحياد؛ حفاظًا على وحدة الجيش. لكنّ الهجوم تواصلَ علينا من الطّرفين؛ فجميع الأطراف غير راضِين عن موقفنا، إذ يصفوننا بالمتردّدين والجبناء، إلخ.
ومن الواضح أنّ مَوازين القوى متأرجحة. هناك محافظات تؤيّد علي ناصر، ومحافظات أخرى تؤيّد علي عنتر. فعدن في معظمها إلى جانب علي ناصر محمّد، وكذلك محافظة أبين. والعديد من قادة الفصائل الحزبيّة السّابقة التي توحّدت مع الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ، يقفون إلى جانب الرئيس. ومحافظة شبوة إلى جانب علي ناصر في معظمها. وحضرموت منقسمة بين الطّرفين حسب انقسام القيادات. فعلي سالم البيض مع علي عنتر، وهو صاحب النّفوذ الأوّل في المحافظة، لكنّ حيدر أبو بكر العطّاس -وهو أيضًا من حضرموت- قبل أن يعيّن رئيسًا للوزراء، كان موقفُه مثل موقف صالح مصلح وموقفنا نحن، موقفًا غير منحاز، لأنّه كان يدرك حجم المخاطر في المراحل الأولى من الصّراع. وكان إلى جانب علي عنتر من حضرموت صالح منصّر السيلي ومعه قادة حضرميّون. وكان أنصار عبدالفتّاح إسماعيل يراقبون الصّراع بارتياحٍ في البداية، إلى أنْ تغيّر الموقف. اشتغل علي عنتر داخل الجيش، وله نفوذٌ سابق فيه، فانحاز معظم قادة الجيش إلى جانبه، خصوصًا سلاح الطّيَران والدّروع.
في العام 1985، اعتمدت جماعة علي عنتر تكتيكًا جديدًا هو الاتصال بعبدالفتّاح إسماعيل في المنفى وبأنصاره في الدّاخل. التقى علي عنتر، عبدالفتّاح أثناء زيارةٍ له إلى موسكو، وطلب منه العودة إلى عدن. ولدى عودة علي عنتر إلى عدن طرح موضوع زيارته لعبدالفتّاح على المكتب السياسيّ واللجنة المركزيّة، مقترِحًا عودة عبدالفتّاح. أيّدَت الأغلبيّة عودةَ عبدالفتّاح، بمن فيهم نحن الذين كنّا محايدين، لاعتقادنا بأنّ عودته تؤدّي إلى خَلق توازنٍ في البلاد، وهو لديه رغبة في العودة من المنفى أصلًا. لكن الآن، بعد ما حدَث ما حدَث، لو عاد التاريخ إلى الوراء، لَمَا أيّدت عودته. مهما يكن، صوّتَت الأغلبيّة في اللجنة المركزيّة والمكتب السياسيّ لصالح عودة عبدالفتّاح، حتّى وزير الدّفاع صالح مصلح قاسم، غيّر موقفه من عبدالفتّاح وأيّد عودته.
هكذا عاد عبدالفتّاح إلى عدن، بضغطٍ من جماعة علي عنتر، وبمعارضة غير معلَنة من جانب علي ناصر وجماعته أو مؤيّديه. حينها انحاز صالح مصلح إلى جانب علي عنتر وجماعته. استغربنا موقفه في البداية، لكن بعد ما تصالح علي عنتر وعبدالفتاح، صار عبدالفتّاح القائدَ السياسيّ لجماعة علي عنتر ومؤيّديه. وهنا اختلّ الموقف الحزبيّ أو بدأ يختلّ لصالح علي عنتر وعبدالفتّاح وعلي البيض. استمرّ الضّغط علينا نحن المجموعة المحايدة، فوجدنا أنفسنا محسوبين على علي عنتر وعبدالفتّاح، وكلّما مرّ يومٌ جديد صرنا أقرب منهم. شخصيًّا، كنتُ أدرك أنّ النّزاع سيتحوّل إلى حربٍ داخليّة، وكنّا نحاول تفادي هذا التحوّل بكافة الوسائل، ولكنّنا لم نُفلِح لأنّنا أصبحنا أقليّة. لم يعُد ثمّة مكانٌ لطرفٍ ثالث. كانت الأزمة تشتدّ يومًا بعد يوم، والعواطف والمخاوف تتأجّج مع تأجُّج الأزمة. حينها أدركتُ خطورة انقسام الحزب على وضع المعارضة في الشّمال. وكنّا نخشى أن ينفجر العنف؛ لذلك اقترحنا على جماعة علي عنتر وعبدالفتّاح أنْ نقفَ إلى جانبهم، شريطة ألَّا يبادروا باللجوء إلى العنف. تعهّدوا لنا بذلك وقد كسبوا الأغلبيّة في القوّات المسلّحة وفي الحزب.
وحول روايته لمصير عبدالفتاح إسماعيل، يقول جارالله عمر، في ذات الرواية:
"هناك من يقول إنّه هو -أي علي البيض- الذي قتل عبدالفتّاح. وهذا غير صحيح، فعبدالفتّاح لم يُعثر له على أيّ أثر، وكان تقدير اللجنة التي تمّ تشكيلها أنّه احترق في الدبّابة التي أُحرقت بالبترول بين اللّجنة المركزيّة ووزارة الدّفاع والبحريّة في منطقة التواهي. لكنّ الشائعات التي أُطلِقت فيما بعدُ كثُرتْ، بأنّه غاب، وهو مات موتًا تراجيديًّا، موتًا مثيرًا، موتًا أسطوريًّا، وهذا يتّفق مع شخصيّة عبدالفتّاح. والأرجح أنّه قُتل في الدبّابة، كما قالت اللجنة التي حقّقت في الموضوع، وقالت إنّه احترق مع الدبابة وبانفجار الذّخائر في المكان المذكور. وقد حقّقت اللجنة مع الضبّاط الذين نقلوه في الدبّابة؛ لأنّهم كانوا قد أصيبوا بقذيفةٍ أصابت البرج وهو كان فيها. أغمي عليهم ثمّ نقلوا إلى المستشفى. وكان عبدالفتّاح في مؤخّرة الدبّابة مع الذّخائر فاحترق معها. وهذا تقدير اللجنة، ولم تظهر أيّ رواية أخرى سوى الشائعات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ذاكرة وطن؛ جمهورية اليمن الديمقراطية (1967-1990)، علي ناصر محمد، المدى للإعلام والثقافة والفنون، الطبعة الأولى 2020.
(**) مذكرات جارالله عمر، الصراع على السلطة والثروة في اليمن، حوار: ليزا ودين، حرّره وقدَّم له: فواز طرابلسي، دار المدى، الطبعة الأولى 2020.