حياتنا مجموعة تراكمات..
لا يذهب بكم الظن إلى أنّها تراكمات تمنح الخبرة، ولكنها تراكمات السوء وقلة العقل، وانظر؛ منذ أن وعينا أبجديات النضال من أجل الانعتاق والتحرر، وبمرور السنين، لم نراكم تجارب منها نستفيد لما نواجهه في التاليات.
الغريب أنّ هذه السيئة لا تقتصر على دولة عربية دون أخرى بدون تمييز!
نبدأ من الصفر دائمًا، يأتي الخلف ليمسح كل آثار السلف.
يأتي الخلف معظم الوقت على ظهر الرصاصة.
ولا تأكل الثورات أبناءها كما هو المعروف، على سبيل المثال في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، بل تأكل نفسها كالنار إن لم تجد ما تأكله، ولم يجانب النعمان الحقيقة حين قال: "الثورة التي لا أهداف لها، تنتهي بكارثة".
في 2011، لم تكن هناك رؤية ولا هدف.
وفي الجنوب، لأن الثوار تعدّدت قراءاتهم فقد انتهت ثورة 14 أكتوبر بكارثة يناير 1986، وقراءة متأنية لكتاب منصور هائل ستنتهي منها مرعوبًا لهول ما جرى!
يكون السؤال:
لماذا؟
هل لأنّ الرفاق تباينت أساليبهم وطرقهم؟
أو أنّ الكارثة تأسّست من لحظة أن وُضع كتاب الواقع جانبًا، وأُتيَ بكتابٍ كُتبَ لبلدان أخرى لا شبه بينها وبين واقعنا، فمن قرأ كتاب السوفييت رأى بنقل التجربة بحذافيرها، ومن تأثر بمسيرة ماو تسي تونغ قال بضرورة متابعتها، ومن زار ألمانيا الشرقية قال بأن تجربتها هي الأهم برغم أنّها دارت في فلك السوفييت، ومن درس في العراق رفع شعار حزب البعث، ومن دمشق ورد إشعار آخر للبعث أيضًا، التجربة التسيير الذاتي في يوغسلافيا وشبيهتها في جزائر بومدين فلم يتأثر بها أحد!
الناصرية بدت أقرب للواقع، ومع ذلك فلكل واقع خصوصياته التي تشكّل ثقافته وتوازناتها.
لم يقرأ أحدٌ كتاب الواقع، وعندما ظهر ثوار 48 في الشمال، قادم معظمهم من عدن، ظلت نظرتهم محصورة بتعاليم الدين الآتية من الكتب الصفراء، وحده النعمان تميز خطابه، لكنه كسب عداء أصحابه، كما قال الأستاذ عبدالباري طاهر في كتابه الأهم "أنّات ونبوءات في رسائل النعمان".
بقيام ثورة سبتمبر 62 تبين فيما بعد، أنّ صراعًا دار بين التقليديين كما أطلق عليهم، والثوّار من العسكريين، فقد أقصي التيار المدني في تعز من الواجهة، وبرز العسكر ما لهم وما عليهم.
أهداف عبدالناصر تباينت مع تيارات في الصف الجمهوري - المشايخ، ثوار 48، لتدخل السعودية على الخط بكل ذهبها وطمع القبائل! فقد حذّر الملك فيصل القاضي الإرياني من مغبة أن تقوم ثورة تأتي بجمهورية إلى "زُغْنها" الجنوبي! هنا كان النعمان يحذّر من الصراع على ظهر اليمن، فلم يستمع له أحد.
جاء استقلال الجنوب على صوت حركة نوفمبر الذي يشار إلى البعثيين بأنهم وراءها بإيعاز من العراق، تصفية لجزء من الحساب مع مصر الناصرية!
اختلطت الأوراق في الشمال إلى درجة أنّ الجنوب تهرب من إعلان الوحدة الفورية.
الذين قاتلوا في الجبال بتسليم الإنجليز الجنوب للجبهة القومية، تحوّلوا إلى حاكمين، بكل تناقضاتهم التي صنعتها القراءات المختلفة، أضِف إليها البعد القبَلي والذي وجد نفسه ماركسيًّا بلا دراية بالمعنى، وصار فيما بعد طوق عدن مسيطرًا على مجريات الأمور، كما هو طوق صنعاء صانع الملوك غصبًا عنهم ولمن يدفع!
رفعت في الجنوب شعارات أكبر من الواقع، وكل فصيل حاول تسييد شعاره، ما أدّى إلى تصادم الشعارات، وتندلع شرارة الدم:
بدءًا بقحطان وفيصل عبداللطيف، أمّا البعثيون والناصريون فقد تمت إزاحتهم من المشهد نهائيًّا، وصارت القبائل ماركسية.
لن يستطيع أحد إنكار ما تحقّق من منجزات، لكن الانفجار الهائل في 13 يناير 86، كان يقول بأن لا رؤية ولا مشروع حقيقي ينصهر الجميع في بوتقته، وما زاد الضرر أضرارًا تسيُّدُ النزقين وعديمي التجربة. وفي الشمال أيضًا، بدا أنّ أصحاب 48 أزاحوا أصحاب 62. ليكتشفوا أنّ السعودية احتوت البلاد من خلال البائعين نقدًا.
تاريخنا الحديث بدأ الآن، وضع دائمًا العربة قبل الحصان، في الجنوب 27 عامًا طارت مع ريح البحر، وبدا أنّ الحلم الذي كان في رأس المبدئيين الحقيقيين تبخّر، وفي العام 90 حاول هؤلاء أن يتنفّسوا الصعداء، فقد هتفوا للوحدة بكل ما يمتلكون من نزاهة الموقف، لكن العام 94 قضى على حلمهم نهائيًّا في يمنٍ جديد قائم على المبادئ العظيمة التي نمت في أرواحهم.
ولأن العربة أمام الحصان، فلم يقرأ أحدٌ ما حدث، وما السبب والأسباب الحقيقية؟ وهل تشكّلت الأسباب مع بَدءِ جريان نهر الدم، أو أنّ الرماد كان تحته نار من لحظة أن ناضلوا موحدين في الظاهر، وكلٌّ له هدفه وأسلوبه في الخفاء!
لم يُقيّم أحدٌ ما جرى وما هي انعكاساتها المستقبلية على يمن توحد، فإذا بكل ما حصل يؤدّي إلى عجين الأوراق التي أوصلت البلاد في الأخير إلى حالة التشظي الكبرى.
الآن لا تدري أيّ قراءة يمكن أن تقرأها، وأي تقييم تجريه!
تذهب الأزمان في حياتنا هدرًا، ولا نستوعب الدروس.
ونلجأ إلى الرقم صفر، وهكذا.
لو سألتَ أيَّ شابٍ من جيل هذا الزمن:
ماذا جرى؟
لن تسمع سوى أصوات متداخلة متشابكة لا تؤدّي إلى الجواب على السؤال.
ليس يأسًا أن أقول إنّ القافلة تسير خطاها كما القوافل، فكلّ مكوّن يسير على ما تربّى عليه.
هنا أقول:
للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ.